ولعل الكثيرين لم يتابعوا أو لم يريدوا أن يرهقوا أنفسهم بما تابعه د. أيمن من دراسات متعمقة فى الفكر الاسلامى وفلسفته وتاريخه، والتاريخ إذ يستعاد على يدى د. أيمن فؤاد السيد رئيس الجمعية التاريخية يأتى مستعيداً كل ما هو متاح من تفاصيل حتى أنه يكاد يقنعنا أن كل ما وعيناه عن الإسلام تاريخاً وفهماً ونهجاً هو مجرد ملخصات موجزة لم تصل إلى حقيقة الحقيقة الإسلامية . ود. أيمن ينشر فى كتابه الجديد تحقيقه لفصل من أحد كتب تقى الدين أحمد بن على المقريزى [766-845ه] عنوانه “مذاهب أهل مصر وعقائدهم الى أن أنتشر مذهب الاشعرية”، لكننا نستأذن القارئ ونستأذن قبله د. أيمن فؤاد فى أن نتوقف بكتابتنا عند “المعتزلة” إذ نلاحظ أن الدكتور الماكر وهو يتكلم عن الماضى يجعله مضيئاً لما نحن فيه الآن ، ويكاد يحذرنا من الثمن الذى يتعين أن يدفعه كل من قال قولاً عن تجديد للفكر الدينى، خاصة إذا ما كانت الفكرة المحددة للتجديد تعيش فى أحضان حاكم إعتبرها العقيدة الرسمية الواجبة الاتباع، “وفى نهاية القرن الثانى الهجرى ، تبنى الخليفة المأمون [العباسى] حركة الترجمة بعد أن أنشأ مؤسسة اسماها “بيت الحكمة” واستحضر كتب وتراث اليونان من بيزنطة لتترجم للعربية، فغزت الفلسفة اليونانية والمنطق الارسطى الفكر العربى الاسلامى ووضعته أمام تحديات كثيرة لم يعهدها من قبل” [ص10 من المقدمة] . فماذا حدث لهذا العقل؟ يجيبنا د. أيمن فى ذات المقدمة “ أصبح المعتزلة هم ممثلى الفكر الحر فى الإسلام وأخذوا يتقدمون بحجج قوية للتوفيق بين العقل والوحى ، الأمر الذى فتح مجال التطور للمعتقدات الدينية تبعاً لمقتضيات العصر”، فإعمال العقل وهو حتمى لفهم روح العصر الجديد والذى يواصل تجدده دوماً، إلى زمن القرن الحادى والعشرين حيث العقل يتسيد والعلم يقفز بمنجزاته وإبداعاته ومخترعاته سريعاً ومتسارعاً بصورة غير متصورة وتحتاج منا الى تمزيق قيود كنا نظنها جديدة ونجدد بها ولها فكرنا ، فإذا بالعالم يسبقها ويسبقنا وإذا بالعلم يتسارع بها مستدعياً إيانا أن نلحق به إذا أردنا أن نبقى بشراً نستحق الحياة فى هذا العالم المتجدد أبداً . ونعود الى ما يريد د.أيمن أن يلقننا إياه . ونقرأ “كان جوهر الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة هو سلطة العقل ومداها وحدودها ، فقد كان المعتزلة أول فرقة إسلامية تحررت من نزعات الفقهاء ومما تركوه لنا من تراث ، الأمر الذى جعل علم الكلام أو بالدقة علم العقائد يدخل فى دور التحرر من الفقه” . ثم “وفى إطار سياسات المأمون الإصلاحية تبنى عقائد وأفكار المعتزلة بصورة رسمية وعلى الأخص قولهم “بخلق القرآن” وبالتالى فهو لا يمكن أن يكون أزلياً مثل الله، ومن ثم رأوا أن من الواجب إعطاء العقل مكانته اللائقة لإتاحة المجال أمام تطور الفكر الدينى دون عائق ، على عكس ما كان يدعو إليه الحنابلة المحافظون” [ص11 من المقدمة] إلى هنا والأمر لا يعدو أن يكون خلافاً فى الرأى والفكر ، ولكن ومع سلطة حاكمة متحكمة كسلطة الحكام العباسيين ومنهم بالطبع المأمون ، أنحنى بالأمر منحنى آخر ، وبعد هذا يقتادنا الدكتور أيمن الى ما يريد ترسيخه دون ضوضاء “لم يكن المأمون سياسياً بارعاً فحسب، إنما كان فى الوقت نفسه حاكماً تقدمياً ، وظل يعمل طوال عقد كامل لإقناع خصومه المتزمتين بملاءمة هذه التسوية الفقهية إلا أن جهوده لم تفلح فإضطر إلى العنف ، فأمر بإلزام جميع أصحاب المناصب بالالتزام برأيه . وكان أحمد بن حنبل أحد القلائل الذين رفضوا القول بذلك برغم التعذيب الشديد الذى أوقعه أتباع “بيت الحكمة” عليه ، الأمر الذى رفعه عند العامة الى مرتبة الأولياء” وقد استمرت هذه المحنة قرابة الخمس عشرة سنة فى ظل خليفتين أتو بعد المأمون وهما المعتصم والواثق ، لكن الحنابلة برغم ذلك استمروا فى التمسك بموقفهم حتى جاء الخليفة المتوكل ليعلن التزامه بمذهب أهل السنة وأيضاً بطريقة رسمية وأوامرية فرضها فرضاً على بقايا المعتزلة . وهكذا نجد أن سلطة الحكم إذ تبنت قولاً غير مقبول من عامة أهل السنة وهو “خلق القرآن” وإذ استخدمت العنف والتعذيب قد حذرت من إعمال العقل والقول بالتجديد فى الفكر الدينى وبضرورة مواكبة روح العصر ، وحتى المتوكل وعندما أتى إلى مذهب أهل السنة عصف بالمعتزلة وألزامهم بالتخلى عن القول بخلق القرآن وعصف معهم بأهل الذمة وحرم استخدامهم فى الدواوين وفرض الضرائب عليهم . أنه الدرس الشديد القسوة . لمحاربة الفكر بقهر السلطة بما يفرض على العقل قيوداً تعوق استخدامه [المأمون]. وشهوة السلطة تقتاد الحاكم [المتوكل] إلى مطاردة التقدم والعقل وأى مخالفة فى الرأى الذى يراه أو فى العقيدة التى يعتقدها ، والحل هو الحرية الحقه . وليس مجرد القول بها . والتجديد المتجدد دوماً بلا قيد على العقل إلا ما نبع من العقل ذاته ليتطور بالفكر الدينى وفى صحيح الإطار الدينى قدماً إلى الأمام أما معالجة المخالف فى مجال التجديد حتى ولو أخطأ بالقهر والسجن والاتهام فإنه سيلجم العقل حتى عن قول أى صحيح خوفاً من أن يرى البعض المتحكم أن فيه شبهة خطأ . ويبقى أن أوجه تحية خالصة للدكتور الأكاديمى المفكر والمدقق والمجتهد والماكر فى دهاء أيمن فؤاد سيد .. وإلى مزيد يا دكتور أيمن . لمزيد من مقالات د. رفعت السعيد