تؤكد القراءة المتأنية لكتب الفلسفة أن اعتبار المعتزلة التى ظهرت بالبصرة أوائل القرن الثانى الهجرى فرقة كلامية فحسب ربطت بينها وبين الفلسفة الإسلامية عرى وثيقة، مجانبة للصواب، وذلك لأن المعتزلة - شأنها شأن الخوارج والشيعة والمرجئة - هى فرقة سياسية فى المقام الأول لها إسهاماتها السياسية المستندة إلى أفكار وأصول، بجانب كونها عقدية دينية، وذلك للتلازم بين الدين والسياسة آنذاك، إذ تدثرت تلك الفرق فى تحركاتها السياسية بدثار الدين وتدججت بسلاحه. الدكتور عبد الرحمن سالم أستاذ التاريخ الإسلامى والحضارة بدار العلوم، أبى إلا أن يبحر فى عباب ثقافتنا ضد تيارسابقيه من الباحثين الذين درجوا على اعتبار المعتزلة فرقة كلامية، وغاص فى الأعماق ليخرج للمكتبة العربية كتاب (التاريخ السياسى للمعتزلة)، والذى أثبت فيه الصبغة السياسية لتلك الفرقة. وبمطالعة هذا الكتاب يتضح أن مؤلفه لم يغمط السابقين أشياءهم، حيث أشار فى مقدمته إلى أنه سبقت هذا البحث دراسات عدة تناولت هذه الفرقة إما تناولا عاما عن طريق دراستها دراسة شاملة، دون التركيز على جانب بعينه، أو تناولا متخصصا بأخذ أحد الجوانب وإخضاعه للدراسة والبحث، كما هو الحال مع كتابنا موضوع البحث؛ إذ ركز مؤلفه على التاريخ السياسى للمعتزلة ، الذى لم يحظ بالاهتمام الكافى للباحثين، كما يؤكد د. سالم، فقد كانت هناك جهود سابقة بالفعل كبحث المرحوم أحمد أمين فى (ضحى الإسلام) وبحث للمستشرق الإنجليزى مونتجومرى وات، ولكنها كانت جهودا تحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق. وكتاب (التاريخ السياسى للمعتزلة) ضمت دفتاه تمهيدا وأربعة أبواب وخاتمة، تحدث مؤلفه فى التمهيد عن أهم الفرق التى سبقت المعتزلة كالغيلانية والجهمية وغيرهما من الفرق التى تشابهت معها فى بعض المواقف والأفكار . بينما تحدث فى الباب الأول والذى جاء فى أربعة فصول عن نشأة المعتزلة وفكرهم السياسى، فصدر الفصل الأول بقصة واصل بن عطاء المشهورة مع شيخه الحسن البصرى والتى انفض على أثرها التلميذ عن مجلس شيخه بعدما قال بالمنزلة بين المنزلتين، وأنشأ لنفسه حلقة بالمسجد انضم إليها أتباعه الذين سموا بالمعتزلة، والمستفاد من تلك الرواية التى ساقها المؤلف إن صحت أن واصلا رغم عدم مراعاته حرمة أستاذه فبادر بالإجابة دون إذنه، إلا أنه دشن درسا عمليا بأنه تجوز مخالفة الشيخ والأستاذ فيما ليس فيه نص من كتاب او سنة، وذلك لأن الشيخ مهما علت قيمته وارتفعت منزلته، هو بشر يخطئ ويصيب ومن ثم ينبغى ألا نضفى على كلامه درجة من القداسة تسوغ قبول كل مايقول دون نقاش أو مراجعة، بل الصواب أن ما يقوله مادام اجتهادا بشريا فهو خاضع للتحليل والمناقشة والرفض والقبول، لأنه ليس لبشر غير الرسل الطاعة المطلقة التى تعمل على تعطيل الفكر وجمود العقل ،ثم ساق المؤلف قصصا أخرى تتحدث عن نشأة المعتزلة ، وما تنطوى عليه من ملابسات سياسية، بداية من مقتل عثمان، ذلك الحدث الجلل الذى هز أركان المجتمع الإسلامى بعنف، وبدأت بعده الاضطرابات السياسية تترى، تلك الاضطرابات التى مثلت ذروتها حروب الصحابة فى الجمل وصفين، والتى كانت إيذانا بظهور الشيعة والخوارج ومقتل على رضى الله عنه، وغيرها من أحداث جسام أثارت السؤال حول: حكم مرتكب الكبيرة من المسلمين؟ وكانت اجتهادات الإجابة عنه أساسا للاختلاف بين الفرق الإسلامية آنذاك ومنها المعتزلة. وفى الفصل الثانى تحدث عن أصول المعتزلة الخمسة: التوحيد العدل الوعد والوعيد المنزلة بين المنزلتين الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فأوضح المعانى السياسية لا الكلامية لتلك الأصول، مؤكدا ارتباطها الوثيق بالسياسة، حتى إن أصل التوحيد أقل تلك الأصول صلة بالسياسة تجلت صلته بها أيضا فى محنة خلق القرآن التى أثيرت فى خلافة المأمون والمعتصم والواثق. وفى الباب الثانى تحدث عن نشاط المعتزلة السياسى فى خلافة الأمويين والعباسيين الأوائل حتى عهد المأمون، فأظهرموقف المعتزلة العدائى من الأمويين عموما فى ضوء فكرهم السياسى النظرى، وموقفهم من عمر بن عبدالعزيز، الذى تضاربت آراؤهم حوله: بين ناقد له حانق عليه، ومدافع عنه ذاب عن حياضه معتبرا أنه استثناء من السابقين، وبين هذا وذاك فريق ثالث آثر السكوت عن القول فيه بمدح أو ذم ، كما تحدث فى الباب نفسه عن نشأة الدعوة العباسية وتطورها وموقف المعتزلة منها، وموقف العباسيين من المعتزلة، وعلاقة عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة بالخليفة العباسى أبى جعفر المنصور، والتى لم تثبت على وتيرة واحدة، إذ تذبذبت بين التأييد تارة و الرفض والاستنكار تارة أخرى. وكان الباب الثالث للحديث عن المعتزلة فى ذروة نفوذهم الذى امتد من 198هجرية إلى 232 هجرية، تلك الفترة التى مثلت الحبكة الدرامية فى مسلسل تلك الفرقة، و كان من أهم قضاياه؛ قضية خلق القرآن، التى امتحن فيها الإمام أحمد بن حنبل، فسجن وعذب وضرب بالسياط حتى خلع كتفه فى عهد المعتصم، ولم يزده حبسه فى السجن عامين ونصف العام إلا ثباتا على موقفه؛ فأبى الرضوخ والإذعان، وكان ثباته نصرا للدين ووصمة عار فى جبين تلك الفرقة التى أسرفت فى استخدام العقل، وارتكبت خطأ فادحا حينما حاولت فرض وجهة نظرها قسرا فساموا مخالفيهم سوء العذاب، إذ صور لهم خيالهم المريض ان العقائد تفرض بحد السيف.فسقطوا بهذا سقوطا مدويا لن يغفره لهم التاريخ. وأخيرا جاء الباب الرابع ليتحدث عن المعتزلة من خلافة المتوكل حتى ظهور أبى الحسن الأشعرى الذى حاربهم بلا هوادة فقوض أركانهم ، وهدم بنيانهم وزعزع استقرارهم لدرجة أنه لم تعد لهم قدرة على وجودمستقل يمارس دوره دون وصاية خارجية. وتدور عجلة الزمان سريعا ويظهر- كما أشار المصنف - من عرفوا بالمعتزلين الجدد الذين تبنوا فكر أسلافهم فزعموا أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة حتى ولو كانت غيبية شرعية، فأخضعوا بجهل كل عقيدة وكل فكر للعقل البشرى القاصر، ونادوا بتغيير الأحكام الشرعية التى ورد فيها نص يقينى من الكتاب والسنة كعقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود، والحجاب، وتعدد الزوجات، والطلاق، والإرث) فطالبوا بإعادة النظر فى ذلك كله متأثرين بالفكر الغربى. وبعد فإن كتاب التاريخ السياسى للمعتزلة للدكتور/ عبدالرحمن سالم الذى يتسم بسلاسة العبارة ، وجزالة الأسلوب، وتقصى الحقائق وتحليلها، فضلا عن التأصيل العلمى الذى يميز مؤلفه جدير بالقراءة والاقتناء. الكتاب : التاريخ السياسى للمعتزلة المؤلف: دكتور عبد الرحمن سالم الناشر : دار رؤية الصفحات: 502 صفحة