كانت فرقة «المعتزلة» حاملة لواء العقلانية فى التراث الإسلامى منذ ظهورها حتى اختفائها عن مسرح الحياة الفكرية والثقافية فى القرن الخامس، لكن أثرها لم يخبُ تماما رغم ما تعرضت له أصول المعتزلة من حرق وطمس وتدمير، ولم يبقَ إلا أقل القليل مما نقله عنهم مؤرخو الفرق الدينية، ومعظمها من منظور الخصوم. «التاريخ السياسى للمعتزلة» للدكتور عبد الرحمن سالم، عنوان الكتاب الذى أصدرت منه دار «رؤية» طبعة جديدة، وهو عنوان عريض ومتسع يحد من مجاله ويؤطر مادته التاريخية العنوان الفرعى «حتى القرن الثالث الهجرى»، حيث يعرض الكتاب تفصيلا الإطار التاريخى والظرف السياسى الذى تولدت عنه وفيه فرقة «المعتزلة»، متعرضا بطبيعة الحال إلى التعريف بهم وبأعلامهم الأوائل وأصول فرقتهم التى تحددت فى الأصول الخمسة الشهيرة: التوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وإن كانت فرقة المعتزلة من الفرق الإشكالية فى تراثنا الإسلامى، قد حظيت بدراسات معمقة وواسعة على المستوى الفلسفى والكلامى واللغوى البلاغى، لكنها لم تحظ بذات القدر على المستوى السياسى، سواء من ناحية الأفكار النظرية أو من خلال محاولات وتجارب تطبيقية، وهو ما تصدى له الدكتور عبد الرحمن سالم فى دراسته المفصلة «التاريخ السياسى للمعتزلة». يقدم الكتاب قراءة الأصول الخمسة للمعتزلة من وجهة سياسية، متعرضا بالضرورة لنظريتهم فى الحكم، أو مبحث «الإمامة»، وهو المبحث الذى تناوله المتكلمون والفقهاء بل حتى المحدثون بحدة وضراوة ودارت حوله المنازعات والشقاقات، بصورة لم يعرفها أى مبحث آخر بطبيعة الحال. وإذا كان الجانب النظرى من البحث حول «الإمامة» ينصبّ على نشأة المعتزلة وأفكارهم الأولى التى تبلورت حول الإمام ووجوب نصبه والشرائط التى يجب أن تتوافر فيه، وهل يجوز الخروج عليه بعد انعقاد الأمر له أم لا، كل هذه الأسئلة التى سعى مفكرو المعتزلة للتعرض لها والإجابة عنها، فإن علاقة قوية تعرض لها الكتاب تفصيلا بين التشيع والاعتزال فى هذا الجانب، أى مسألة الإمامة، نظريا وعمليا، وتطور هذه العلاقة فى الفترة المتأخرة من تاريخ المعتزلة. تاريخيا، ومن خلال الأحداث والوقائع التى ترافقت مع ظهور المعتزلة على مسرح الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية فى القرن الثانى للهجرة، يتتبع مؤلف الكتاب تاريخ المعتزلة ونشاطهم السياسى خلال حكم الأمويين والعباسيين (كانوا مصدر قلق كبير لخلفاء البيت الأموى ومن بعدهم بنى العباس)، مع التوقف تفصيلا لدراسة علاقة المعتزلة بالخليفة المأمون ومن بعده المعتصم، والدور الكبير الذى لعبوه فى هذه الفترة والمأساة التى تشكلت فصولها إبان قربهم من رأس السلطة، وما نتج عنها من محنة عرفت فى التاريخ الإسلامى ب«محنة خلق القرآن»، التى يتعرض الكتاب لكشف أبعادها السياسية، ليخرج «فرسان العقل فى التراث الإسلامى» وهم محملون بوزر الاستبداد وإجبار المخالفين على اعتناق آرائهم وأفكارهم وتصوراتهم حول القرآن والذات الإلهية قسرا. مع مجىء الخليفة الواثق العباسى، الذى أبطل الإجراءات التى أدت إلى المحنة، تبدأ صفحة جديدة فى تاريخ المعتزلة، حيث ينقلب السحر على الساحر، وتبدأ محنة المعتزلة الكبرى على يد الخليفة المتوكل، وهو ما يتطرق إليه الكتاب لكشف مظاهرها، والبحث عن أسبابها وتفسير النتائج التى تمخضت عن التنكيل بالمعتزلة واضطهادهم فى مجرى الحياة الفكرية والسياسية الإسلامية. ويختتم الكتاب رحلته مع المعتزلة بالوقوف طويلا أمام ظهور أبى الحسن الأشعرى، صاحب الدور الكبير والمؤثر فى تقنين ما يسمى بالوسطية الإسلامية، حيث بدأ الأشعرى معتزليا وانتهى مؤسسا لتيار «الأشعرية» التى كُتب لها السيادة على العقل السنى الإسلامى منذ القرن الرابع حتى الآن. يناقش الكتاب التأثير الضخم الذى أحدثه ظهور أبى الحسن الأشعرى على الكيان الفكرى للمعتزلة، مما كان إيذانا بخفوت صوتهم، ونهاية الوجود المستقل والفاعل والمؤثر لفرقة التى لم يكتب لها المكوث على مسرح التاريخ الإسلامى والحياة الفكرية والثقافية الإسلامية أكثر من عدة قرون.