تلقيت في بريدي هذا الأسبوع الرسالة التالية: سعدت كثيرا والله وحده يعلم مدي سعادتي حين قرأت خبر تكليفكم بكتابة بريد الجمعة, فلقد منعت نفسي أكثر من مرة علي مدي السنوات الماضية أن أكتب اليكم بهذا المعني لإدراكي منذ وفاة الراحل الغالي زارع شجرة الحب ومنسق فروعها عبدالوهاب مطاوع. أن هذا الموضوع تقسيم إداري ليس لك دخل فيه.ولقد فكرت في أن أتصل بك هاتفيا لتفتح لي نهر الحب الذي يربطنا, وتقف الي جانبي لحل مشكلتي التي تؤرقني ليلا وتعذبني نهارا, ولا أجد لها فرجا حتي أنها ملكت علي حياتي, ولم يعد يدور في ودعني أروي لك قصتي منذ البداية, حيث رزقني الله بعد زواجي بابني الأول الذي ودع الحياة فور ولادته مع أنه كان مكتمل النمو, ولكن الطبيب المعالج الذي كان معروفا وقتها بمهارته الفائقة في أمراض النساء والولادة ارتكب خطأ أودي بحياته, وبكيت كثيرا عليه, ولم أنس علامات الأسي التي اكتسي بها وجه زوجتي, عندما علمت بالخبر ولم تكن قد فاقت من آلام الوضع بعد.. ورحت أدعو الله أن يرزقني بولد آخر يكون لي عوضا عنه, واستجاب سبحانه وتعالي لي ورزقني بولدين, ملآ علينا حياتنا, وكرست كل وقتي لهما وعشت حياتي أنحت في الصخر من أجلهما, ومنحتهما عصير عمري ولم أبخل عليهما بأي شئ من مال أو صحة أو جهد, وبرغم كل ما كان أمامي وفي متناول يدي من اغراءات مادية ونسائية, فقد وضعت حائطا فولاذيا بيني وبين الحرام, ويكفي أن أقول لك إنني رفضت رشوة خمسة أفدنة وفيللا مجهزة بالأثاث الراقي لكي أغمض عيني عن بيع احدي شركات قطاع الأعمال بحكم منصبي الكبير ومسئوليتي عن هذا القطاع الصناعي المهم, وذلك في الوقت الذي كنت أسعي فيه للحصول علي قرض من أحد البنوك لكي أتمم زواج ابني الأكبر.. وآه من ابني الأكبر توأم روحي وبسمتي وفرحتي, ودنياي, والهواء الذي أتنفسه, والذي لاأري مثيلا له في هذا الكون, ولم أر من قبل ابنا أحب أباه, ولا أبا أحب ابنه كما أحببنا بعضنا.. فلقد كنا نتحدث بلغة العيون وليس الشفايف.. وحتي عندما أراد أن يتزوج فهمت كل ما يريده دون أن ينطق بكلمة واحدة.. ولمست حبه الكبير لزوجته وابنته التي أنجبها بعد عام من الزواج, ثم حملت زوجته في مولودها الثاني, فقلت له انها حامل في ولد, لكن السونار أظهر أنها أنثي, فرددت عليه بأن كل عطاء الله خير لكن قلبي يؤكد لي أن المولود القادم ذكر, وفي الشهر الثامن كان الجنين قد اكتمل وأظهر الكشف الطبي أنه ولد.. ولا أستطيع أن أصف لك فرحته بولي العهد.. وراح يعد الأيام المتبقية قدومه وكلنا ننتظر وحينما حانت لحظة الولادة, كان هو قد حان أجله وسقط شهيدا في أثناء عمله.. انها مفارقة مذهلة لم نكن نتوقعها, ولم تخطر لي علي بال.. ولم أتمالك نفسي وأنا أسمع الخبر فسقطت علي الأرض مغشيا علي, ودخلت زوجتي في غيبوبة لعدة أيام.. واختفت الفرحة من بيتنا الي غير رجعة وأظلمت شمس حياتنا حتي الآن.. وكلما مر عام أتصور أن النار المشتعلة في قلبي سوف تبرد, فإذا بها تزداد اشتعالا.. فصورته لا تفارق خيالي في كل مطعم تناولنا العشاء فيه, وكل شارع سلكناه معا, وكل أغنية استمعنا إليها سويا.. وكلها أماكن شهدت ذكرياتنا, وكلما مررت بها تشتعل جذوة نار قلبي من جديد ولا أجد سبيلا لإطفائها. ولعلك تتصور أن هذه هي المشكلة التي أبعث إليك بها لكي تقول لي كلمات تخفف بها آلامي, لكن الأمر ليس كذلك فما أريد أن أطلعك عليه, هو أنني في عيد الأضحي المبارك قبل ثلاثين عاما رفعت يدي الي السماء ودعوت الله أن يأتي هذا اليوم في العام التالي وأنا في الكعبة المشرفة ونسيت هذا الدعاء, ومرت عشرة شهور كاملة, وبينما كنت جالسا في بيتي أجتر أحزاني دق جرس الباب, فإذا بصديق لي لم التق به منذ فترة طويلة قد جاءني حاملا معه تأشيرة استثنائية لي بالحج.. بكيت كثيرا, وأخذت أهتف الله أكبر.. الله أكبر ولله الحمد.. وهممت وتوضأت وصليت ركعتين شكرا لله.. ومددت يدي الي مكتبتي العامرة بالكتب الدينية, والتقطت كتابا عن الأدعية المستحبة, وحفظت الدعاء المأثور عند رؤية الكعبة, وعند تناول شربة ماء من زمزم.. وفي يوم السفر الي مكةالمكرمة ارتديت ملابس الاحرام, وما ان وقعت عيناي علي الكعبة حتي نسيت كل ما حفظته من أدعية, ووجدتني ابتهل الي ربي تلقائيا: اللهم حرم جسدي علي النار.. وأخذت أكررها مرات ومرات.. وعندما اختليت بنفسي أخذت أفكر ما هذا الدعاء؟.. وكيف خطر بذهني, وما الذي دفعني الي أن أقوله؟ ثم من الله علي بالحج للمرة الثانية بعدها بسبع سنوات, وللمرة الثالثة قبل أربع سنوات.. أما العمرات فلا أعرف عددها.. وركزت كل جهدي في تربية أحفادي وأولاد ابني الأكبر رحمه الله.. وخصصت جزءا كبيرا من وقتي لتلاوة القرآن الكريم, والاطلاع علي الكتب الدينية والأحاديث النبوية الشريفة.. ومضت حياتي علي هذا النحو حتي قرأت حديثا عن رسول الله معناه أن الله يحرم جسد عبده الصابر علي فقد ثلاثة من أبنائه علي النار فقد استجاب سبحانه وتعالي لي في كل ما دعوته لكني أخشي من دعائي المتكرر بتحريم جسدي علي النار مادام بابني الثالث. نعم يا أخي إنني أخشي أن يكون هذا قدري.. ولم أعد أدري: هل هذه الفكرة التي تراودني منذ قراءتي هذا الحديث الشريف هي من همزات الشياطين أم من ايحاءات الملائكة؟.. انني أدعو الله في كل صلاة أن يأخذني قبل أن يريني هذا اليوم, ورغم ذلك فلا صوت عقلي يرحمني ولا جفوني ترأف بي, ولا خوفي من الأقدار يبعد عني مع ان إيماني بالله كامل, وحبي له بلا حدود, وسعادتي حين أناجيه لا تدانيها سعادة, ودموعي عندما اختلي به تنهمر بلا حساب, ولا أجد شفاء لمرضي الذي تزيد حدته علي مر السنين.. فهل أجد لديك الدواء؟ {{.. وأقول لكاتب هذه الرسالة: ما سطرته من كلمات يا أخي ينم عن نفس مسالمة ومطمئنة تري الله في كل خطوة تخطوها.. لكن هذا السلام النفسي يتنافي تماما مع الفكرة الخاطئة التي سيطرت عليك حتي أصبحت أسيرها, وينبغي أن تستأصل جذورها من قلبك وعقلك, فهي أخطر من أي ورم يمكن أن يصاب به الجسم حيث تظل ملازمة لصاحبها مدي الحياة, فالفكرة غير الصحيحة اذا سيطرت علي الانسان فإنها تملك عليه عقله وتفكيره, وتقوده الي الهلاك.. أما الورم الجسماني فيمكن احتواؤه والشفاء منه بالاستئصال الجزئي, فالحديث النبوي الذي أوردت معناه في رسالتك عن أن من يفقد ثلاثة من أبنائه يحرم الله جسده علي النار ليس مقصودا منه العدد بأي حال, وانما المقصود هو تأكيد جزاء الصابرين علي فقد أبنائهم, وتعال نراجع معا أربعة أحاديث صحيحة وردت في ذلك, حيث جاء في صحيح البخاري حديثان: الأول: عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم, ما من مسلم يتوفي له ثلاث لم يبلغوا الحنث الحلم إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته اياهم. والثاني: عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النساء قلن للنبي: اجعل لنا يوما, فوعظهن, وقال: أيما امرأة مات لها ثلاثة أولاد كانوا حجابا لها من النار.. فسألت امرأة: واثنان؟ قال واثنان. وفي سند الترمذي قال صلي الله عليه وسلم من قدم ثلاثة لم يبلغوا الحلم كانوا له حصنا حصينا من النار: قال أبوذر الغفاري: قدمت اثنين فرد عليه الرسول: واثنين.. فقال أبي بن كعب: قدمت واحدا.. فرد عليه وواحدا. وهكذا يا سيدي نجد أن العدد ليس هو المقصود من الحديث الذي قرأته, وانما المقصود هو الصبر علي الابتلاء بفقد الابن, وتحريم الجسد علي النار يكون بالأعمال الصالحة والدعاء والاستغفار وكثرة السجود والابتهال الي الله عز وجل في أثناء الليل وأطراف النهار, والصلاة هي التي تمنح الإنسان الاطمئنان وتقربه من الله فيشعر بالراحة والسكينة, وهذا ما توصل إليه المهاتما غاندي الزعيم الهندي بعد بوذا, فلقد كاد أن ينهار لولا أنه استمد الإلهام من القوة التي تمنحها الصلاة, وقال لو لم أصل لأصبحت مجنونا منذ زمن طويل.. فما بالك يا أخي وأنت علي درجة عالية من الإيمان والشفافية جعلتك تتوقع أن حفيدك ذكر, وتصر علي موقفك بالرغم من أن الأشعة قد أظهرت غير ذلك في بداية الحمل!.. ألا يدعوك ما أنعم الله به عليك من هذه النعمة أن تكون حسن الظن بالله, وأن تدرك أنه عز وجل يدخر لك ما تطيب به نفسك بعد رحلة كفاحك الطويلة التي رفضت فيها كل الاغراءات التي ينزلق فيها الكثيرون غير مبالين بأن الله يؤخر حسابهم الي يوم تشخص فيه الأبصار؟.. ثم ألا تعلم أنه سبحانه وتعالي يقول في حديثه القدسي: أنا عند ظن عبدي بي؟.. وفي حديث آخر يقول اذا وجهت الي عبد من عبادي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت يوم القيامة أن أنصب له ميزانا. ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن جزعت مضي أمر الله وكنت مأزورا, وإن صبرت مضي أمر الله وكنت مأجورا, بمعني أن قضاءه سبحانه وتعالي نافذ في كل الأحوال, فلماذا إذن نضيع علينا سعادتنا وهدوءنا فالحياة مهما طالت قصيرة؟. دع عنك هواجسك واحتضن ابنك وأحفادك منه ومن ابنك الراحل, فالحزن يموت بعد حين كما تموت السعادة أحيانا, ولا دوام لحال, وليكن حفيداك منه هما باعثا الأمل فيك وما مات من ترك ولدا صالحا.. ولا تظن أن الحياة تكتمل أبدا, فهناك دائما أوجه نقص لا يستطيع الإنسان أن يسدها لأنها ارادة الله, فمن عنده مال ليست لديه صحة, ومن عنده أولاد ليس لديه بيت.. الي غير ذلك من جوانب لا تكتمل لأحد. وعليك يا أخي أن تجلس في السحر وترفع يديك الي السماء, وترسل عينيك الي رب الأرباب, وتسأله أن يزيل عنك الغمة, ويكشف لك الظلمة, وينقي قلبك من وساوس الشيطان, واعلم أنه لا سعادة سوف تحوطك من جديد إلا اذا عشت حرا من سيطرة هذه الأفكار علي عقلك ووجدانك وخيالك لتكون عبدا لله وحده, فما ينتابك من خواطر لا أساس لها في الدين.. والمؤكد أننا جميعا ميتون كما خاطب المولي سبحانه وتعالي نبيه في كتابه الكريم إنك ميت وإنهم ميتون.. فالموت حقيقة مؤكدة مهما طال العمر, وان الانسان مهما فعل فلن يغير ما قدر الله له. من هنا يجب أن تحيا الحياة كاملة, وأن تستمتع بكل دقيقة فيها وتعمل ما تريده مادمت لا تخالف الشرع أو تفكر فيما يغضب الله, ولتعلم أن التسليم بالأقدار ذخيرة لا غني عنها في رحلتنا عبر الحياة, وهناك طريق واحد الي السعادة والطمأنينة هو الكف عن التوجس من أشياء لا سيطرة لإرادتنا عليها, واليقين دائما في أن الله عليم بما في الصدور وهو وحده الهادي إلي سواء السبيل.