تبكى كوزيت بطلة رواية "البؤساء" لفكتور هوجو وهى معلقة فى جرافيتى مرسوم على حائط خشبى فى منطقة "نايس بريدج" العريقة وسط لندن بسبب تصاعد غاز مسيل للدموع ألقى عليها. لم يوضح الجرافيتي، وهو أخر أعمال رسام الجرافيتى الشهير بانكسي، من الذى ألقى عبوة الغاز المسيل للدموع، لكن الجرافيتى وضع مقابل السفارة الفرنسية فى لندن. فرنسا اذن هى المتهمة. فقبل أيام ألقت الشرطة الفرنسية فعلا غازا مسيلا للدموع على عشرات اللاجئين فى "معسكر كاليه" الفرنسى بهدف اجبارهم على مغادرة جانب من المعسكر رأت السلطات أنه بات غير آمن ويجب إخلاؤه. ولإشراك المتلقين معه فى تجربته، جعل بانكسى الجرافيتى تفاعليا، إذ وضع "بار كود" مع الرسم يمكن قراءته بالتلفونات الذكية ليحيلك إلى فيديو إلقاء عبوات الغاز المسيل للدموع على اللاجئين فى "معسكر كاليه" الفرنسى القريب من الحدود البريطانية الذى تحتجز فيه فرنسا الالاف من اللأجئين والمهاجرين الاقتصاديين قبل البت فى طلبات لجوئهم إلى بريطانيا. ولأن فترة البت قد تتجاوز عامين، فلا عجب أن الاسم الأخر للمعسكر هو "غابة كاليه". منذ رسم بانكسى الجرافيتى مطلع الأسبوع الجاري، مر الالاف أمامه لإلتقاط الصور والتعبير عن تضامنهم مع محنة اللاجئين، لكن بحلول منتصف الأسبوع كان هناك عمال يستعدون لرفع الجرافيتى ونقله لمكان أخر، بينما فريق من "جوجل" يقوم بحفظ الجرافيتى رقميا لإضافته لمشروع جديد دشنته "جوجل" لحفظ "فنون الشارع" مثل الجرافيتى والرسم على الجدران رقميا وتخزينه فى متحف الكتروني، خاصة بعدما حاولت عصابة من ثلاثة أفراد سرقة الجرافيتى بنزع الجدار كله ما أدى إلى أضرار فى أطراف الرسم. وأيضا لحماية الجرافيتى من إزالة السلطات المحلية له، خاصة وأنه فى منطقة مركزية فى وسط لندن وهو ما تجرمه القوانين البريطانية. فبريطانيا لديها علاقة معقدة مع الجرافيتى أو فن الرسم على جدران الشوارع. فهى البلد الوحيد فى أوروبا الذى يسجن فنانى الجرافيتى لمدة عامين بتهمة "التشوية" و"التخريب" و"الاضرار بالممتلكات العامة". وتتعامل السلطات الأمنية، وكثير من البريطانيين المحافظين مع الجرافيتى بوصفه دليلا على "السخط الاجتماعي" و"العنف الكامن" و"الاحتجاج المكتوم"، و"الخارجين على القانون"، ووجوده فى أى منطقة يؤدى إلى أنخفاض فورى فى أسعار المنازل. ومع ذلك فالجرافيتى فى لندن جزء من المدينة، خاصة مناطقها البوهيمية المتمردة المتعددة العرقيات واللغات مثل شرق لندن وشمالها حيث من الفنانين المغمورين والخارجين عن أى مؤسسة. كما أن بريطانيا بها أشهر فنانى الجرافيتى فى العالم،وأعمال بانكسى تباع بمئات الآلاف من الجنيهات. وخلال الأشهر الماضية رسم بانكسى بالذات العديد من الجرافيتى حول أزمة اللاجئين و المهاجرين إلى أوروبا. فالجرافيتى الأخير المستوحى من رواية "البؤساء" هو رسالة حول العدالة ومعنى القانون والمساواة وما تفعله الاضطرابات الإجتماعية والسياسية والفقر فى الناس. فقد كتب هوجو "البؤساء" عن الأوضاع فى فرنسا مطلع القرن التاسع عشر عندما كانت بلاده تمر بمرحلة اضطرابات عنيفة دفعت بطلة الرواية فانتين لبيع شعرها لإطعام طفلتها كوزيت التى ستعمل خادمة لدى أسرة تأويها منذ كانت فى الثالثة من عمرها. لا تختلف الصورة عن سوريا اليوم كثيرا. فالإنهيار الكامل فى نسيج المجتمع السورى دفع أباء لبيع أعضاء أجسادهم لإطعام أطفالهم. ودفع أباء لتزويج بناتهم من رجال أكبر كثيرا فى العمر، وأجبر آخرين على حرمان أطفالهم من التعليم والدفع بهم فى سوق عمل لا تجرم عمالة الأطفال. وقبل جرافيتى "البؤساء" بفترة وجيزة رسم بانكسى جرافيتى آخر على أحد جدران "معسكر كاليه" للرئيس التنفيذى الراحل لشركة "أبل" ستيف جوبز كلاجئ يحمل ملابسه على كتفه وفى يده كمبيوتر، مذكرا أن جوبز كان هو أيضا لاجئا ومهاجرا جاءت عائلته من سوريا قبل أن يولد واستقرت فى أمريكا. كما رسم جرافيتى على حائط مبنى مكتب الهجرة فى جزيرة ميدوسا اليونانية التى تستقبل أكبر عدد من اللاجئين، يظهر سفينة تحمل لاجئين بكل أحلامهم ومخاوفهم يلوحون لسفينة وطائرة إنقاذ. وجرافيتى فى "معسكر كاليه" لطفل لاجئ يتطلع عبر منظار بحثا عن مكان للاستقرار، فيما طائر يقف على حافة المنظار بانتظار موته. فما الذى يريد بانكسى أن يقوله؟ ولمن؟ الرسالة هى للأوروبيين وليست للاجئين. فقد أظهرت أزمة اللاجئين وجها أوروبيا مغلقا وإقصائيا أفزع وأقلق الأوروبيين الذين يرون اوروبا أرضا للكرامة الإنسانية والحرية والمساواة واحترام الفرد والقانون. لكن مقابل هذا التعاطف ومحاولة الانفتاح على آلام الآخرين لفهم معنى أن تكون فجأة بلا وطن مثل الكثير من السوريين والعراقيين والليبيين والأفغان، هناك بالمقابل مشاعر سلبية تتراكم عن تجربة اللجوء إلى أوروبا عززتها حوادث تحرش بنساء ألمانيات أو التورط فى جرائم من بينها جرائم قتل وسرقة ما دفع دولا أوروبية عدة أخرها النرويج إلى تشديد إجراءات التعامل مع اللاجئين لإثنائهم عن المجئ كليا. هذه المشاعر والأفكار السلبية تعبر عن نفسها فى جرافيتى وكاريكاتير مواز من بينه الكارتون الذى نشرته مجلة "شارلى ابدو" الفرنسية الساخرة والذى أثار غضبا عارما ويتضمن السؤال التالي:"ما الذى كان سيفعله الطفل ايلان لو كبر؟ التحرش بالنساء الألمانيات"، مصحوبا بكارتون للاجئين يتحرشون بنساء، فيما جثمان الطفل السورى إيلان الكردى على جانب الكارتون، فى رسالة واضحة مفادها أن كل اللاجئين مشروع متحرشين. هذه المشاعر والأفكار السلبية يمكن رصدها أيضا على مواقع التواصل الأجتماعى عبر تعليقات كثيرة على جرافيتى بانكسى الأخير من بينها: أنهم يغلقون مصانع الحديد فى ويلز وإيرلندا الشمالية ومئات العائلات فى بريطانيا باتت بلا دخل.. فلماذا لا يرسم بانكسى جرافيتى عنا وعما يحدث فينا"، و"ماذا عن المشردين والفقراء فى هذا البلد؟"، و"حسنا ستيف جوبز كان من أصل سوري.. فهل يعنى هذا أن نسمح لكل السوريين بالدخول؟"ولأن الجرافيتى هو فن شارع. وفن الشارع ليس له سقف أو رقيب أو جمهور معين ولا يحتاج لاذن للوجود، فقد رد لاجئون على الصور الذهنية المسبقة عنهم بجرافيتى من صنعهم يحكون فيه ما تعرضوا له فى بلادهم وأجبرهم على المجئ إلى أوروبا،وفى هذا المشروع الذى دشنه لاجئون من الصومال وأفغانستان، وأمتد حاليا إلى فرنسا والمانيا وبريطانيا، يقوم اللاجئون برسم قصص حياتهم على جدران شوارع قريبة من مراكز إيوائهم لسرد ما مروا به من محن وماس. فمحمد من افغانستان قتلت "طالبان" أباه مدرس اللغة الانجليزية واضطر للهرب خوفا على حياته. وأسماعيل من الصومال اجبرته "حركة الشباب" المتطرفة على القتال إلى جانبها وكادت تقتله عندما رفض، وعندما وجد قاربا أخذه وهرب أملا فى حياة عادية.