ما إن ينتصف يناير حتى تهل على حياتى نسمات أشتاق لها عاما من بعد عام ، وما إن أتنفسها حتى أشعر بأنى قادر على الحياة بقلب منتبه إلى ما سيأتى به الزمن من أفراح أو أهوال . وما أنتظره هو معرض الكتاب ؛ الذى أجد فى ملامح تكوينه تاريخا يمكننا الفخر برصانة أدائه طوال سنوات عطائه. ولمن أصابته آفة النسيان؛ نذكره ونذكر أنفسنا بأن صاحب فكرته هو المقاتل المثقف ثروت عكاشة أول وزير ثقافة للمحروسة. فبعد أن خرجنا من أسمال هزيمتنا العسكرية فى يونيو 1967 ، وما إن تأكد من جار شبابه وصديق أيامه شهيدنا الكبير الفريق عبد المنعم رياض أن جيش المليون مقاتل قد تم تكوينه وهو يخوض غمار التدريب الجاد المحقق للنصر ، فكلاهما يؤمن بأن أى انتصار هو ابن معادلة بشرية الصناعة وتعتمد على جوهر مكنون ، فيظهر التدريب الجاد ماهو كامن من قدرات ؛لتكون تلك القدرات قادرة على تحقيق الهدف منها . وكان ثروت عكاشة يأنس بالضوء الذى يشع من تلميذة طه حسين الأثيرة د. سهير القلماوى ومساعدها وتلميذها صاحب الإحساس المصقول بالإبداع ؛ وهو الشاعر صلاح عبد الصبور وكان الزمن منتصف عام 1968 ؛ وكان الثلاثة يؤمنون بأن الكتاب هو بوصلة تمزج بين العقل والقلب فى عناق يشير إلى ضرورة فهم الكون الذى نحياه. وإذا كانت العروبة قد وصل بها تنافر الإرادات إلى حد اجتماع الغرب لهزيمتها فى هزيمة يونيو ؛ فهذه العروبة فاجأت الغرب بأن عواصمها اجتمعت حول القاهرة تسألها ماذا تطلب لتصد عن الفكرة احتمال غروبها . وكانت القاهرة تستعيد شجن تاريخها و تحتفل بمرور ألف عام على تأسيسها . وما إن جاء يناير 1969 حتى كانت العقول العربية تجتمع فى موقع دار الأوبرا الحالى ليبدأ الميلاد الأول لأول معرض كتاب فى العالم العربى . أتذكر الأيام السابقة للإعداد حيث تواصل الليل مع النهار على أستاذى صلاح عبد الصبور. كان صلاح عبد الصبور يشعر بامتنان الحفيد أمام الجد طه حسين ، فطه حسين هو والد التفكير المتحرر الذى لايهمل الجذور ولا يتشعلق على فروع أشجار الركاكة ، وسهير القلماوى هى خلاصة امتزاج المعرى بأرسطو ، وصداقة برتراند راسل مع ديستوفسكى على جسر إبداع شكسبير، ومن رحم ماتشربته سهير القلماوى من طه حسين جاء أبناؤها ، وأولهم هو صلاح عبد الصبور الذى اختارته ليكون ذراعها وعينها كى يبدع الاثنان معا ما كلفها به الفارس ثروت عكاشة . وما إن انتصف العام الدراسى فى يناير 1969 حتى كان ميلاد أول معرض للكتاب .وجاء عشاق الكلمة والقدرة على التغيير من المحيط إلى الخليج ليزوروا القاهرة . وتغمرنى آراء الراعى الصالح لأيام بداياتى وهو صلاح عبد الصبور؛ هذا الذى أجاد سؤال نفسه ماذا يبقى من الكبار ؟ وأودع ذلك فى كتابه عن تقييم من سبقوا من كبار؛ العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ، وأظن أنى لا أخطئ التقدير حين أوجز تجربة هذا الشاعر فى أنها تتحدد بهذا السؤال ماذا يبقى ؟ وما بقى من إبداعه كثيف وقادر على أن يفيض بعطائه لأجيال توالت من بعد رحيله. ولن أنسى له كلمته الواثقة أمام جلسة محددة الأفراد يتبعون أجهزة أمن متعددة ، وكان نائب نبوى إسماعيل وزير الداخلية يطلب نيابة عن وزيره إسقاط الجنسية عن عدد من معارضى السادات فينطق صلاح عبد الصبور «السادات هو قبضة من تراب الوطن جاء منه ويعود إليه و ليس هو كل الوطن. وبالمصادفة جاء يوسف صبرى أبو طالب وكان محافظا لسيناء ودخل للقاء الوزير منصور حسن الذى كان يرأس هذا الاجتماع المصغر ، وما إن سمع تلك المقولة حتى ذكرنى بأنه قد نطق بها أمام صديقى محمد زغلول كامل المكلف من قبل عبدالناصر لمراجعة موقف بعض ممن عاصروا رحلة ما بعد ثورة يوليو حتى النكسة ، وقال يوسف صبرى أبو طالب «الجيوش لا تحارب دفاعا عن شخص ، حتى ولو كان زعيما ملهما كعبد الناصر ، ولكنها تدافع عن وطن يجتمع حول فكرة يصنع بها مستقبلا ، وعبد الناصر هو قارئ فكرة الضمير العربى المعاصر». وتتوالى الأيام ليستمر معرض الكتاب لسنوات أربع ثم نشهد إنتصار أكتوبر، وتتأكد على لسان صلاح عبد الصبور حقيقة أن المليون مقاتل المتعلمين الذين أهدتهم لنا رؤية عبدالمنعم رياض وقوة الضبط عند الفريق محمد فوزى ، فيتساءل أستاذى علنا ز إذا كان عبدالمنعم رياض قد استشهد أثناء الإعداد لمعركة أكتوبر فكيف يستمر حبس الفريق فوزى الذى انضبطت بقدراته الحازمة خطوات التدريب استعدادا للنصر الذى جاء . وكان صلاح عبدالصبور دائم الفخر بمحمود سامى البارودى ، الشاعر والضابط الذى رفض تسليم سيفه فى المشهد المهين الذى شاءته قوات احتلال إنجلترا لمصر عام 1882 . ودائم الترديد بأن المقاتل المثقف هو القادر دائما على رؤية واضحة تستكشف الطريق إلى المستقبل. ولذلك كان معرض الكتاب بالنسبة له منارة متجددة . وما إن يرحل صلاح عن عالمنا حتى يحقق سمير سرحان حلمه بأن يقود الهيئة العامة للكتاب فيأخذ فكرة مكتوبة بخط يدى بعنوان مكتبة الأسرة من مكتب صلاح عبدالصبور، وصاحبها هو الأب الشرعى للرواية المصرية توفيق الحكيم ، وهو من طالبنى بنقلها والإلحاح على ضرورة تنفيذها ؛ فكتبتها لصلاح عبد الصبور ، لكن القدر لم يمهله لتنفيذها؛ ولم تجد الفكرة إلا ترحيب سمير سرحان لينفذها لعلها تقوده إلى حلمه الأثير وهو أن يكون وزيرا للثقافة ، وبقيت مكتبة الأسرة حتى بعد رحيل سمير سرحان ولتتجدد عاما من بعد عام ، ويكون معرض الكتاب هو أكبر موقع لا لبيع الكتب فقط ، ولكن كان المجتمع يطلب انفتاحا وحوارا ، فكانت ندوات معرض الكتاب التى سنشهد هذا العام تحويل أغلبها إلى تسجيلات يمكن استدعاؤها عبر الإنترنت ، وهى الفكرة ضمن الأفكار التى أسسها د. أحمد مجاهد الرئيس السابق لهيئة الكتاب والمصر على تنفيذها الرئيس الحالى للهيئة د. هيثم الحاج . وعندما أتابع من تولوا الثقافة والهيئة يمكن أن نرى سلسلة بدأت من مقاتل هو ثروت عكاشة ، دان بالولاء لعميد الأدب العربى وامتزجت حياته بحلم تغيير الواقع الثقافى ، فنقل معبد ابو سنبل وأسس معرض الكتاب ضمن ما أسس من مشاريع عملاقة ، ليأتى من بعد ذلك وزراء متعددون كان أكثرهم اعترافا بما قدم ثروت عكاشة هو منصور حسن الذى أراد اختيار فاروق حسنى كى يدير مكتبه المختص بوزارة الثقافة ، لكن موجات التغيير التى حلم بها منصور لم تسر كما يحلم فيستقيل، وليبقى فاروق حسنى فى موقعه كمدير لأكاديمية مصر بروما ، ثم يتولى وزارة الثقافة لينفتح خياله العميق والعريض ولتتعدد المشاريع الثقافية ويحرص على التعلم من العقول الكبيرة الباقية ؛ عبد الرحمن الشرقاوي، زكى نجيب محمود . بنت الشاطئ ويلتقط من الجيل الذى سبقه ما يقود به سفينة الثقافة ويختار جابر عصفور الناقد الذى يجيد تفكيك أى عمل روائى ليعيد ترتيبه بموسيقى خلابة الفهم ، فيقوم جابر بتفكيك المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ويستخرج منه المجلس الأعلى للثقافة ، ويستخرج من المجلس مركزا قوميا للترجمة ؛ ويمارس انتماءه للعروبة لا بمعرض الكتاب فقط ولكن بالمؤتمرات التى يجتمع فيها المثقفون من أقصى المغرب إلى اقصى المشرق ومن اليمن إلى الإسكندرية، وما إن تقوم ثورة الخامس والعشرين من يناير حتى يجتهد عماد أبوغازى مع صديقه أحمد مجاهد ليتطور معرض الكتاب ويقام وسط أنواء التغير الاجتماعى الغاضب الذى يحتاج إلى من يضبط إيقاعه، وليأتى صابر عرب رافضا سحل مواطن واحد أمام قصر الاتحادية، فيرسل استقالة إلى محمد مرسى المعزول ، فيناديه زملاؤه _ وأنا منهم _ قائلا ز إذا إستقلت من أجل سحل مصرى واحد فماذا ستفعل عندما يتم سحل العقل المصرى والعربى ؟ فيسحب الرجل استقالته ، متذكرا حرق مخطوطات المجمع العلمى الذى وقف لأيام من أجل إنقاذ ما بقى منه ، وتغلى مصر باحثة عن استقرارها، ويطرد المثقفون وزير غياب التفكير المسمى علاء عبد العزيز قبل ان تطرد مصر حكم المتأسلمين منها، ويأتى جابر عصفور بعاصفة الشوق إلى التنوير ، فيؤسس التجديد بجريدة القاهرة ، ويصدر مجلة عالم الكتاب بعقل شاب ، معرض الكتاب ولد كفكرة من بصيرة طه حسين حين أضافت لقدرات ثروت عكاشة, وامتزجت بخيال سهير القلماوى وصلاح عبد الصبور وفاروق حسنى وجابر عصفور وسمير سرحان وصابر عرب وعماد أبو غازى وصولا إلى حلمى النمنم المستوعب لمهمة الكاتب المثقف. فالأفكار تنتقل من جيل إلى جيل ومن مسئول إلى آخر وتستمر قافلة صناعة ضوء الأحاسيس الراقية . باختصار :معرض الكتاب شهادة على أن ثقافة مصر مصدر ضوء لا يخبو . لمزيد من مقالات منير عامر