مائة عام مرت علي ميلادها لأب عمل طبيباً جراحاً، رجل مستنير ، مثقف واعٍ ، والأم من أصول شركسية والدها كان برتبة الأميرالاي وتخصص في الهندسة. حين رزقت الأسرة بالبنت أطلقوا عليها اسم سهير وسمحوا لها فقط بتعلم الرسم وعزف الموسيقي وفق تقاليد زمانها، واستجابت الأم بعد فترة لضغوط الأب فقد أصر علي دخولها كلية البنات الأمريكية ليس من أجل نيل شهادة دراسية بقدر ماتتأهل لتصبح " ست بيت ممتازة". وراحت الصغيرة تنهل من معين العلم والأب علي الجانب الآخر يدعمها بتشجيعه ويحمسها ويدفعها للأمام ، وتابعت الأم من كثب النجاحات التي أورثت البنت عناداً وتمرداً فراحت ترهقها بأعمال البيت لكي تثنيها علي اجتهادها وتضع أمامها العراقيل فالسهر ممنوع من أجل مراجعة الدرس ، ولكن العزيمة والإصرار جعلا من الفتاة التي نضجت تحتل المركز الأول في امتحان البكالوريا. تدخل العميد تمنت الفتاة أن تطبق المثل العربي القائل " كل فتاة بأبيها معجبة " وتصبح مثله طبيبة وتقدمت إلي كلية العلوم وظلت بها مدة عام دراسي يؤهلها لدخول كلية الطب ولكن العميد رفض قبولها بدعوي أن شهادة البكالوريا الخاصة بها ليست مصرية. كانت الصدمة ولكن الله أرسل لها من مد لها يد العون ، معلمها الأول د. طه حسين اوجد لمأزقها مخرجاً ، قسم اللغة العربية يسمح بدخول حاملي البكالوريا المصرية أو مايعادلها. دخلت الفتاة قسم اللغة العربية التي لا تجيدها مثلما تجيد الفرنسية أو الإنجليزية وهي كارهة ، ووجدتها الأم من جديد فرصة سانحة لتعيدها إلي مقعدها بالبيت ، لكن الأب المستنير وقف في خندقها ، وخفف عنها الصعاب وعضد من مركزها فاستقدم لها معلماً يدرس لها القرآن الكريم وآخر لتعليم الخط العربي وثالثا يشرح لها ماغمض عليها في ديوان العربية ووجدت الفتاة مكتبتها الصغيرة تعج بأمهات الكتب ومؤلفات عباس العقاد وطه حسين وأحمد لطفي السيد. ولم تأل جهداً في تقديم كل الجهد والسعي بدأب ومثابرة ، ومرت المرحلة الجامعية التي حفلت بالكثير من المتاعب بداية من العام 1929 . كانت سهير القلماوي ضمن الفوج الأول من فتيات شببن عن الطوق هن فاطمة فهمي وفاطمة سالم ونعيمة الأيوبي وزهيرة عبد العزيز ، وفي نفس العام تم قيد أربع أخريات فصار العدد تسع طالبات. حصلت سهير القلماوي علي درجة الليسانس وجاء ترتيبها في المركز الأول، وتم تعيينها معيدة بالجامعة ، وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ومات الأب الدرع الواقي للفتاة التي لقيت معارضة جديدة من الأم بسبب اختيارها لشغل الوظيفة. أدب الخوارج بمنتهي الهدوء أكدت سهير القلماوي لأمها بأنها لم تهمل أمراً من أمور البيت وحصلت علي درجة الليسانس عام 1937 وموضوعها عن " أدب الخوارج " وسافرت بعدها في بعثة لفرنسا للتحضير لرسالة الدكتوراة عن " ألف ليلة وليلة " مع دراسة نقدية ، وبالفعل حصلت علي الدكتوراة عام 1941م في أول رسالة علمية تناولت ألف ليلة وليلة من خلال دراستها وتقديمها من حكايات شعبية إلي عمل أدبي مهم فكانت ميلاداً جديداً لها ولتصبح أول فتاة مصرية تحصل عليها وصاحبة الرقم 3 في ترتيب الحاصلين عليها وكانت قد نجحت في انتخابات اتحاد الكلية وحين قامت ثورة 1935شاركت فيها بصفتها عضواً في اللجنة العليا التي كونها الطلاب وساهمت ينصيب كبير في الثورة التي سقط فيها عبد الحكيم الجراحي وعبد الحميد مرسي شهيدين. بمرورالأيام أصبحت الدكتورة سهير القلماوي ضليعة في لغتها الأم وتابعت كالعادة آداب اللغتين الفرنسية والإنجليزية، لِمَ لا وهي بمثابة الابنة الروحية لعميد الأدب العربي د. طه حسين. راحت تخط بيراعها للصحف وتدبج المقالات في الصحف والمجلات وتلقي الأحاديث علي أثير الراديو. اختيرت سكرتيرة تحرير مجلة الجامعة المصرية التي ترأسها طه حسين وكتبت القصة والشعر وتواصلت مع مجلات بقامة الرسالة والثقافة وأبوللو وكوكب الشرق التي كانت تقدم عبر صفحاتها صفحة عن المرأة ولم تتلق أي أجر عن عملها. وبعدها تزوجت بالدكتور يحيي الخشاب. حكايات جدتي كانت د. سهير القلماوي صاحبة أول فكرة لإقامة معرض القاهرة الدولي للكتاب في مصر وكانت قد ترأست الهيئة المصرية العامة للكتاب. ومن أشهر من تخرجوا علي يديها د.عبد المحسن طه بدر/ د. جابر عصفور/ د.عبد المنعم تليمة/الشاعر صلاح عبدالصبور والأديب فاروق خورشيد. اهتمت سهير القلماوي في خلال رحلتها الإبداعية بثقافة الطفل العربي ةالمصري وحمل كتابها الأول «حكايات جدتي» ومن مؤلفاتها الأخري «أدب الخوارج المحاكاة في الأدب فن الأدب وفن النقد الأدبي ثم غربت الشمس العالم بين دفتي كتاب مع الكتب». قامت بترجمة العديد من الكتب منها «أفلاطون والعالم» وكانت الدكتورة سهير القلماوي تري مدي تألقها الفكري في الصباح فتجلس للكتابة التي شكلت رافدين مهمين هما الكتابة الأكاديمية والكتابة الإبداعية. نالت العديد من الأوسمة في خلال رحلة حياتها (جائزة مجمع اللغة العربية 1941 جائزة الدولة التقديرية 1977) وكانت أول رئيس لمؤتمر الفنون الشعبية عام 1967 ورئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1967 ورئاسة اللجنة العليا للرقابة علي المصنفات الفنية 1982 . كانت عضواً بمجلس الأمة عام 1959 والاتحاد الاشتراكي العربي عام 1963 وعضوا بمجلس الشوري عام 1979 واهتمت سهير القلماوي بقضايا المرأة فقامت بتأسيس جمعية خريجات الجامعة عام 1953 وكان هدفها الأساسي هو تقوية أواصر الصداقة والتعاون مع الاتحاد الدولي للجامعات لرفع مستوي المرأة المصرية في النواحي السياسية والثقافية . وبعد حياة حافلة بالعطاء والجهد والتضحية والإيثار رحلت في مايو 1997م بعد أن ضربت أروع أمثلة النجاح.