سبعة وزراء ثقافة فى 36 شهرا بعضهم له إنجازات واثنان لم يتركا أثرا.. رحلة الوزراء السبعة فى الإضافة للثقافة المصرية كى نتذكر تفاصيلها حتى لا نكون كالقطط التى تأكل وتنكر..بمجىء جابر عصفور وزيرا للثقافة فى التشكيل الوزارى الأخير، يصبح هو الوزير السابع فى هذا المنصب منذ الحادى عشر من يناير 2011. كان هو الشخص الأول الذى أسند إليه الفريق أحمد شفيق مسئولية الوزارة بعد خروج فاروق حسنى. كان أحمد شفيق يظن أن شهية جابر عصفور للمنصب الوزارى لا حدود لها، ولم يكلف نفسه قراءة تاريخ الرجل كحفيد أثير لطه حسين، لذلك فوجئ فى الاجتماع الوزارى بأن جابر عصفور يتحدث عن الإمبراطور العارى، أى عن الحزب الوطنى الذى ظن أقطابه أنهم مستمرون فى حكم مصر إلى الأبد، وأن الفرعون مبارك سيترك الحكم للوريث، وأن ثورة الحادى عشر من يناير ليست سوى ضجيج زاعق سينتهى مع ضربات قنابل الغاز ولسعات عصا الأمن المركزى.
ولأن جابر عصفور قد رصد لسنوات طوال مسيرة جحافل التخلف باسم الدين، لذلك أعلن لأحمد شفيق أنه لا يمثل الحزب الوطنى فلم ينتسب إليه فى أى لحظة لأنه رأى مبكرا أن هناك تحالفا غير مكتوب بين المتأسلمين وهذا الحزب الذى أتقن تجويع المصريين من أرقى غذاء يقوى مناعة الإنسان ضد التخلف، وأعنى به تجويع المصريين إلى الأمل المستند إلى واقع ووقائع لا إلى المخدر الخارج من فم أحمد عز أو صفوت الشريف أو جمال مبارك أو أى كائن من كان من فلاسفة بقاء الوضع الراهن كما هو عليه، فجابر يعلم ضرورة التآزر بين الثقافة والتعليم والأوقاف والأزهر كى ينتبه المصريون إلى أن القاهرة ذات الألف عام لا يمكن أن ترتفع فوقها رايات التخلف السوداء، وهو من حاول تأكيد ذلك بحكم أنه المعمارى الذى شيد المجلس الأعلى للثقافة، هذا المجلس الذى حلم به منصور حسن وزير الدولة للثقافة عام 1980، وكان جابر عصفور أيامها نائبا لرئيس تحرير مجلة «فصول» أول إصدار ثقافى لهذا المجلس، وتمضى الأيام ليشرف جابر على بناء الصرح الذى أداره لأعوام طويلة، نتيجة حرص فاروق حسنى على أصحاب الخيال القادرين على تحويل الأحلام إلى واقع ووقائع، ومهما قيل عن فاروق حسنى فعلينا أن نعى حقيقة الرجل كواحد من أصحاب الخيال السياسى الذى رأى رأى العين أن أى اقتراب من «التوريث» هو طلقة الرصاص الأخيرة على جسد تجربة مبارك بأكملها، لذلك احتفظ بطاقة البناء الكبير التى بدأها بصيانة أبى الهول من الاندثار، ثم بناء دار الأوبرا كصرح فنى خلاب، وصولا إلى صيانة شارع المعز، والآثار الإسلامية، وكان جابر عصفور أيامها يمد جسور التواصل مع العالم العربى عبر المؤتمرات المتتالية سواء للرواية أو الشعر أو المناسبات الثقافية ليجتمع مثقفو العرب حالمين بواقع عربى مختلف، ومن خلال هذا المجلس أسس مركز الترجمة ليمد الثقافة المصرية بألفين من الكتب الحاملة لخلاصة الفكر الإنسانى، سواء موسوعة نهاية القرن العشرين التى أصدرتها الثقافة الفرنسية فى سبعة أجزاء توجز تاريخ العلوم والفنون فى المجتمع البشرى حتى نهاية القرن العشرين، أو ترجمة الإلياذة عن اليونانية مباشرة أو قمة تلاقى الحضارة العربية مع الحضارة الغربية فى رواية «دون كيوشوت» أو تسجيل جحافل البربرية المعاصرة المسماة الولاياتالمتحدةالأمريكية من خلال ترجمة التاريخ الفعلى لها عبر مجلد «التاريخ الشعبى للولايات المتحدة» لهوارد زن المؤرخ الأمريكى الذى رصد رحلة تأسيس الولاياتالمتحدة بدهس جماجم الهنود الحمر وبقية الشعوب التى لا تكف الولاياتالمتحدة عن سحق جماجم المؤمنين بالحرية فيها، وكأن الكرة الأرضية أصبحت مستعمرة لتلك الإمبراطورية التى انتقلت من البداوة إلى الهمجية دون أن تمر بمرحلة التحضر الإنسانى كما قال سارتر فيلسوف الستينيات الجليل.. ولم يتحمل أنس الفقى وزير الإعلام فى حكومة أحمد شفيق الأولى رفض جابر عصفور أن يكون عضوا بحكومة للحزب الوطنى المنتحر، فآثر جابر عصفور الانسحاب، ولو كان يراهن على المنصب الوزارى لبقى فى موقعه، لكنه استقال، ليأتى من بعده من شاء أن يجعل وجوده الثقافى محصورا فى الهجوم على الصروح المتعددة التى أشرف على إقامتها فاروق حسنى، جاء محمد عبد المنعم الصاوى رجل الإعلانات ومؤسس ساقية الصاوى ليمارس ألعابا سياسية أقرب إلى الدعاية بغير واقع أو وقائع، ولم يستمر سوى أسبوع واحد ليأتى من بعده عماد أبوغازى هذا الودود الراقى الذى شارك جابر عصفور فى تعميق فائدة المجلس الأعلى للثقافة، وهو من أهدانا الثقة فى قدرات أحمد مجاهد صاحب الديناميكية الفعالة ليسند إلى الهيئة العامة للكتاب، والتى انتقلت بقيادته إلى ما فوق خيال صلاح عبد الصبور الذى نال أحمد مجاهد درجة الدكتوراه فى شعره المسرحى، فتطور مشروع «مكتبة الأسرة» من مجرد تسبيح بفضل السيدة سوزان مبارك إلى إتقان لعملية التثقيف الواسعة الانتشار، وكان لإبراهيم أصلان فضل الكشف عن جهد كاتب هذه السطور ونسبة مشروع مكتبة الأسرة إلى مؤسسه الأصلى كاتبنا الكبير توفيق الحكيم الذى شاء أن يخصنى بالفكرة عام 1961 لأنشرها فى صباح الخير. ولا أنسى لأحمد مجاهد فضل إصدار آخر مؤلفات مؤسس الثقافة المصرية المعاصر ثروت عكاشة عن المصور الرسام العالمى مارك شاجال، كما أهدانا د. عماد قيادة ذات قيمة فنية عالية هى قيمة صلاح المليجى فى قطاع الفنون التشكيلية، ليضع إمكانات القطاع منح الأجيال الشابة طاقات الأمل للوصول إلى النضج.
ولم يتحمل الجهاز العصبى لعماد أبو غازى مشاهد الدم فى ميدان التحرير، تلك التى شاءتها جماعات المتأسلمين وإلصاقها بالقوات المسلحة، كان مشهد الدم وجرجرة جسد شهيد إلى القمامة هو المشهد الصاعق الذى انسحب بسببه عماد أبو غازى من المنصب الوزراى، ليأتى من بعده أستاذ الجماليات النفسية فى الفنون وأعنى به د. شاكر عبدالحميد ليدير الوزارة بعيدا عن الصراعات قدر ما يستطيع، وأهدانا قيادة إيناس عبدالدايم لدار الأوبرا التى ازدهرت بمقاومة التخلف بمواجهة الحفاظ على الروح المصرية ذات القدرة العالية على الصبر واستكشاف مناطق الفرح فى النفس عبر فنون الأوبرا المنوعة، ويغادرنا شاكر عبدالحميد ليخلفه صابر عرب، هذا الراقى غير الباحث عن شىء إلا عن التآزر بين قطاعات الثقافة المنوعة، ومحاولة بناء جسور بين قطاعاتها المختلفة لتؤدى الثقافة دورها فى صيانة الروح المصرية العربية، ولن أنسى دموعه المكتومة لحظة حريق المجمع العلمى وكان يقود بنفسه عملية إنقاذ وثائقه، وحين سمع سيدة عجوزا تمر بجانبه لتهمس له: «لا تحزن على هذا الحريق، فأنتم لم تعلموا من أحرقوه أهميته فى التاريخ الحضارى المصرى»، وبفضل صداقته مع أمير الشارقة جاءت مئات من المخطوطات النادرة والتى كان بعضها موجودا بالمجمع العلمى. وحين قبل المنصب الوزارى فى عهد محمد مرسى كان شديد الوضوح مع قيادات الإخوان فلم يسمح لأى منهم بالدخول إلى أى نشاط ثقافى، واحترف المتأسلمون لعبة «تزهيق» د. صابر عرب الذى لم يتحمل جهازه العصبى رحلة تعرية وسحل المواطن حمادة صابر أمام قصر الاتحادية، ولا أنسى أنه قدم لحظتها استقالته لأعاتبه قائلا: «إذا كنت ضد سحل مواطن واحد فما بالك بسحل الوجدان المصرى بأكمله». وعدل عن الاستقالة فلم يسترح المتأسلمون، ليحاولوا فرض هيمنتهم على الثقافة بتعيين شاب فاقد القيمة عديم الاعتبار العلمى هو علاء عبدالعزيز الذى حرس نفسه بجيش من «البودى جاردز»، لدرجة أن مديرة مكتب أحمد مجاهد قالت لى: «كان ينقصه أن يضع بودى جارد على كوب الشاى، وجاء اعتصام المثقفين ليضع الرصاصة الأولى لانتهاء حكم الإخوان تمهيدا لثورة الثلاثين من يونيو المؤزّرة، وعاد صابر عرب بإلحاح شديد من د. حازم الببلاوى وبطلب مباشر من كمال الجنزورى الذى يكنّ له صابر عرب احتراما بغير حد.
وحاول صابر عرب أن يبنى الجسور بين قطاعات الوزارة الثمانية عشر برفقة ودودة من الراقى صاحب اليد الحريرية والقبضة الحديدية المهندس محمد أبو سعدة الذى أدار مكتب الوزير بفهم لكل زوايا البيروقراطية ليقينا عفها ويهبنا قدراتها على الإنجاز.. وما أن جاء الاستحقاق الرئاسى حتى تمنى صابر عرب الرحيل ليتفرغ بما يحلم به كتابة الأبحاث التاريخية.
ويقبل جابر عصفور المسئولية السياسية عن الثقافة ليعلن أن «الثقافة هى خط الدفاع عن هوية مصر العربية»، ويبدأ فى مشوار لم يتخل عنه فى يوم من الأيام.
وإذا ما أطل بعض من عواجيز الفرح برغبة فى تكسير مجاديف التقدم فى نهر المستقبل، فعليهم تذكر أن أيا ممن تولوا المنصب الوزراى عبر الثلاث سنوات الأخيرة هم من النبلاء حقا، باستثناء محمد عبدالمنعم الصاوى الذى انضم بشكل أو بآخر إلى جحافل التنظير للمتأسلمين عبر حزب الحضارة، وبطبيعة الحال مضافا إلى الصاوى المدعو علاء عبدالعزيز فاقد القيمة عديم الاعتبار.