العراق أرض حباها الله بالخيرات الكثيرة.. والشعب العراقى شعب كريم وطيب. فالعراق هو الدولة العربية الوحيدة التى منحها الله المياه- متمثلة فى نهرى دجلة والفرات- والبترول، بعكس باقى الدول التى يمنحها الله شيئاً واحداً. والعراق تربطه بمصر علاقة ود كبيرة.. ودائماً كان البلد الثانى للمصريين.. وذاب أولادنا المصريون وسط ناسه، حتى إن هناك مكانا خاصا لنا فى بغداد، سماه العراقيون «مربع المصريين».. وليس هذا فحسب، بل لقد اجتذبت العراق مصريين نسوا أهلهم وبلدهم، وهاهم الآن يشعرون بأنهم يعيشون فى البلد الأم. وفى زيارتى للعراق- وهو البلد العربى الثانى الذى أزوره فى أسابيع قليلة، حيث زرت سوريا قبل أيام- تملكتنى حالة من الشكر على ما نحن فيه، نحن المصريين، من أمن وأمان وشعور بوجود الدولة، وأنا اشكر الله على أن الرئيس السيسى بيننا، وهو الذى جاء لينقذ- ليس مصر وحدها بل باقى المنطقة العربية. ومنذ الوهلة الأولى للاستعداد للذهاب للعراق، بعد استلامى دعوة حضور مؤتمر مكافحة الإرهاب، وأنا أشعر بالخوف. و قال لى كل من علم اعتزامى السفر هل جننت لتذهبى للعراق الذى به التفجيرات فى كل دقيقة؟ هل أنت مستغنية عن نفسك؟ وهكذا اعتبرت نفسى فى عداد المفقودين. وزاد هذا الإحساس عندى عندما توجهت، قبل السفر بيومين، لإحدى شركات الصرافة بالقاهرة، لأقوم بتغيير العملة المصرية وتحويلها إلى عملة آخرى، فإذا بمسئولة الشركة تصرخ فى وجهى: «حرام عليك ... رايحه العراق ليه؟ أنت مستغنية عن روحك.. أخويا راح وما رجعش!» .. وبعد وصولنا إلى مطار بغداد.. ظللت أراقب الأجواء المحيطة بخوف شديد، خاصة أن عددا من أعضاء الوفد المصرى لمؤتمر اتحاد العمال العراقى اعتذروا ومن المطار استقلينا سيارة «بارق جبار»، أحد الشباب بالاتحاد، وأخذت أتحدث إليه عن بغداد والوضع بها، بعد أن رأيت بالطريق حائطاً يحمل صوراً لآلاف الشهداء للجيش والشرطة، فقال لى فى حسرة ومرارة: «يا أختى.. نحن نريد الأمن الذى كان موجودا فى أيام صدام حسين والحرية التى عندنا الآن.. نحن شعب لم يعرف الراحة، لا قبل صدام ولا بعده.. وليس عندنا بيت إلا وبه شهيد أو اثنان» وساعتها شعرت كم يعانى أشقاؤنا العراقيون من مرارة الاحتلال، الذى مزق العراق وزرع به الفتن والطائفية. وبعد الوصول لأحد فنادق المنطقة الخضراء الشهيرة ببغداد - وهى المنطقة التى يقطنها كبار المسئولين بالدولة، رحنا نتحدث مع بعض شباب الاتحاد الذين استقبلونا بالفندق، وإذا بهم يقولون لنا: لن تنزلوا إلى الشوارع، ولا إلى الأسواق التى بها ازدحام، لأن هناك تفجيرات كثيرة تحدث من وقت للآخر، وبالتالى أحسست بأن هذا الفندق يمكن أن يتم تفجيره فى أى لحظة! هل أنتم مصريون؟ وكانت المفاجأة أن مدير الفندق مصرى. تحدثت إليه غير مصدقة أنه مازال هناك مصريون يعيشون ببغداد بعد كل ما نراه ونسمعه فإذا به يقول لى إن الإعلام كاذب ويبالغ، فأنا أعيش هنا ببغداد حياة عادية، ولست المصرى الوحيد بالفندق، وعندئذ وجدت شابا آخر يتقدم نحوى ويسأل: أنتم مصريون؟ فقلنا نعم، فأوضح أنه مهندس مصرى ولديه مهمة عمل هنا. قلت له: ألا تشعر بالخوف؟ فرد: لا.. فالحياة عادية.. وأنا دائم الحضور لبغداد! وعندما دخلت غرفتى وفتحت التلفاز لمشاهدة الأخبار بالقنوات العراقية، فللأسف لم أر أو وأسمع إلا صوت «بكاء وعويل» السيدات النازحات اللاتى احتجزن «عالقات» على الحدود بين بغداد ومدنهن اللاتى جئن منها؛ مثل الأنبار ونينوى (الموصل) ويقمن بمخيمات، ويعانين شدة البرد القارس والفقر وعدم توافر أى طعام. وكان ذلك يتكرر فى كل نشرة أخبار، حتى أصبح الوضع مأساويا. والمسئولون يقولون لهن: «لا نستطيع توصيلكن إلى بغداد، فعمركن ينتهى إلى هنا !» وللأسف ليست هناك استجابة من المسئولين.. والسبب هو «التفتت» فى مؤسسات الدولة، والطائفية التى زرعتها أمريكا. وفى بغداد كنت أسمع كلمة «الفساد» كل يوم ألف مرة.
التجول فى سوق «الكرادة» وبعد هذا الحزن عزمت على النزول إلى الشوراع والأسواق للتقرب من الناس. قلت لنفسى: حتى لو كانت هناك تفجيرات -كما يقال- فسوف أصير فى عداد الشهداء وإن لم أمت فسوف يثبت لى مدى تضليل الإعلام! و فى سوق الكرادة وجدت أن الحقيقة ليست بالصورة التى يصورها الإعلام بالمرة، فالحياة ببغداد تسير بشكل طبيعى، ولم نسمع عن تفجيرات، سواء ببغداد، أو ببغداد الجديدة، التى ذهبت اليها وتبعد عن بغداد ذاتها بنصف ساعة أو أكثر وإن كانت أوضاع الحياة «مرة كالعلقم» كما يقول اهالينا فى الصعيد. وقد شاهدت منظرا غريبا لم أشاهده من قبل، وهو تزين الشوراع بصور الإمام على بن أبى طالب وسيدنا الحسين، حيث كانوا يحتفلون بعيد عاشوراء وكانت بعض محال الشاورمة تقوم بتوزيع السندويتشات مجاناً على المارين حباً فى الإمام الحسين. ورغم الفرحة بالاحتفال الجميل فإننى وجدت الحزن يملأ عيون العراقيين. وعندما اقتربت من بعض السيدات اللاتى بدا عليهن الحزن قلت لهن إننى مصرية ونحن هنا فى زيارة للعراق، وسألتهن عن وضع العراق الآن وسابقاً، وأيهما يفضلن، فقالت لى إحداهن: نحن نمر بغمّة، فكم كنا ننعم فى النظام السابق بالأمن والأمان حتى لو كنا قد افتقدنا للحرية، فأمريكا دمرتنا، وخربت بلادنا، وزرعت الفتنة بينا، وجلبت لنا الإرهاب، وضيعت العراق. وقالت لى سيدة أخرى: نحن الآن نفتقد الأمن والأمان، ولم نعد نستطع السير فى الشوارع بحرية، وأصبحت الطائفية تنهش فى جسد العراق وأنهكته، فاشكروا ربنا على رئيسكم السيسى، الذى جاء لكم من السماء لينقذ مصر، لأنها مباركة، وذكرها الله فى الكتب السماوية. وقال لى أحد البائعين، الذى اقتربت منه والتحدث معه: «العراق كان من الدول الكبرى ولكن أمريكا دمرته، لكن بالنسبة لمصر فإن الله يحبها لعدم وجود نفط كثير بها مثلنا، ولعدم وجود تعدد الطوائف الدينية بها. وعند عودتى للفندق رأيت سيدة تفتش السيدات على البوابة الخارجية للفندق وقالت لى: عجبتك بغداد؟ فقلت لها آه.. عجبتنى.. وهل أنت تقضين الليل فى العمل هنا؟ فاجابت: لا.. سوف استقل تاكسى وأعود للبيت وربنا يستر.. ثم صمتت لحظة، ونظرت لى فى حسرة، وكادت الدموع تنهمر من عينيها وهمست: قلبتى عليّا المواجع!
فى ميدان المظاهرات وسمعت عن ميدان «ركن» التحرير ببغداد، وهو ميدان اقل مساحة بكثير من ميدان التحرير بمصر. ذهبت والتقطت فيه بعض الصور، وقال لى بعض العراقيين إن هناك تظاهرات بهذا الميدان كل يوم جمعة للمطالبة بالقضاء على الفساد، وهناك التقيت بالشاب محمد، طالب بالفرقة الثالثة بالجامعة، وهو أيضا كاتب سيناريو أفلام قصيرة وسألته عن سبب اشتراكه فى تلك المظاهرات فقال: لأسباب كثيرة، منها الفساد المنتشر فى كل مؤسسات الدولة والعمل: «اللي عنده واسطة يكدر يشوف التعيين الحكومي، واللي عنده فلوس يعطي فلوس حتى يتعين، واللي ما عنده يشتغل عامل بأجور منخفضة جداً، والمستقبل بالعراق شيء منتهي، ماكو مستقبل!» «يعنى ما فيش مستقبل». وأوضح أن الشباب العراقي أغلبيته تفكر فى جمع الفلوس للهجرة، فالعراق- على حد قوله- عبارة عن كتلة كاملة من الفساد الإداري، من أصغر موظف بالحكومة إلى أكبر موظف أو مدير.. كله مرتش، وأبسط مثال أن أي شخص يتعرض لمشاجرة او مشكلة، ويروح لمركز الشرطة، حتى يسوي دعوة، لازم ينطي رشاوي تقريب المليون، مع أن الوظايف الحكومية رواتبها كلش زينة وكبيرة وقال: أنطيك معلومة احلى راح تتفاجئين بها، إن الشخص اللي يسوي الدعوة في المركز يضل ينطي رشاوي ينطى رشاوى لحد ماينسجن الشخص المطلوب، والشخص اللي ينسجن يدفع رشوة ويطلع بنفس اليوم، وتضل الشرطة تاخذ من الطرفين، واتخيلي ها دولة اصغر موظفين عند الدولة، المظاهرات .... ما لها نتائج لحد ها اللحظة، وكل اللي صار مجرد ورق عليه حبر، ما صار شيء فعلي. وحول موضوع النفط قال لى محمد: النفط الكل محروم منه، مو بس الفقراء، طبعاً للمسئولين وحدهم، وآكو مثل عراقي يجول، «نفط الشعب مو للشعب» .. واتحدى أن يقول اى عراقى إنه أخذ من الدولة قطرة نفط بدون ما يدفع فلوس. الدولة خلت الناس تلتهي بسالفة الطائفية، وهى الدولة قامت تنهب بخيرات العراق، ومع كل ذلك بعدنا عايشين!
عراقيون كوتهم «داعش» وفى إحدى الجلسات ببهو الفندق مع احد النقابيين العراقيين وجدت النقابى العراقى والذى قال لى «انا ممن اكتووا بنار داعش، فهم ينتقمون من أى أحد فى النظام أو شيعى أو مسيحى ولأنى عضو بالاتحاد وأسكن بمنطقة الموصل التى تحتلها داعش فلقد داهموا منزلى، وقتلوا زوجتى ونجوت أنا منهم باعجوبة كبيرة، فهم لا يرحمون، وطرح النقابى حاجم كاطع سؤالاً: من الذى أدخل داعش إلى بغداد؟ وعندماً سألته عن الاجابة قال الذين اسقطوا بغداد والموصل يعرفهم الشعب العراقي المظلوم، ورسمياً تم تحديدهم من قبل اللجنة البرلمانية التي حققت بالموضوع، ورفع تقريرها إلى البرلمان العراقي، الذي رفعه بدوره إلى السيد رئيس الوزراء.. ولم تعلن رسمياً أى أسماء، بل سمعنا عن طريق الإعلام أن التقرير أحيل إلى وزارة الدفاع. وقال لى أحد الصحفيين العراقيين إن هناك صراعا قائما بين الطوائف، يتمثل فى تقسيم الوزارات، فمثلا الشيعة التابع لها رئيس الوزراء يأخذون أهم الوزارات، أما السنة فمعهم عدد وزارات أقل وللأكراد ثلاث وزارات فقط. وليس هذا فقط، بل هناك صراع بين الحكومة فى بغداد وكردستان، فالأخيرة تحاول ان تستقل وتصبح دولة مستقلة من أجل النفط وترفض اى تدخل من الحكومة فى هذا الشأن، وداعش تسيطر على النفط فى الانبار، ولم يبق للعراقيين الا نفط بغداد فقط، وهو الذى لم يأخذ منه الشعب أى شىء، لذا يطالب المتظاهرون بقانون توزيع حصص النفط على الشعب، أو صرف ثمن نصيب كل فرد عراقى من النفط.
فى حضرة «أبى نواس» ! لكن، وبرغم المعاناة التى تعيشها بغداد وأهلها- إما من إرهاب داعش، أو من آثار التفتت والفتنة، فإننى رأيت أماكن، ومكثت بها لساعات، جعلتنى أتمنى لو يعود العراق مرة أخرى إلى سابق عصره، فعندما اصطحبنا الاتحاد إلى شارع أبى نواس (وهو أشهر شارع ببغداد) لم أر روعة ولا جمال شارع مثله، اللهم فى أوروبا، فهو فعلا يشبه شوارع أوروبا. وشعرت ساعتها أننى فى دولة أوروبية، حيث تزينه الأشجار، ويمتلىء بالهدوء. وليس هذا فقط بل إنه يطل على ملتقى نهرى «دجلة والفرات». وأيضا هو يشتهر بمحلات الأسماك التى تشتهر بها بغداد، حيث إن الأسماك ببغداد مميزة جدا. وأشهر طريقة عمل سمك ببغداد تسمى « السمك المسكوف أى «المسجوف» . وفى نهاية الزيارة ذهبت، مع الوفد السورى، إلى مدينة كربلاء لزيارة سيدنا الحسين، واستغرقت المسافة حوالى 4 ساعات ذهابا وعودة، وكانت هناك أكمنة للجيش بالطريق، أى أنه على عكس ما صور لنا الإعلام من تسيب وتلغيم للطرق. وكنا نود الذهاب إلى مدينة النجف لزيارة سيدنا على بن أبى طالب لكن الوقت لم يسمح. وعند الدخول إلى مدينة كربلاء قالوا لنا إننا ومن معنا من السيدات لن ننزل من السيارة إلا إذا ارتدينا عباءة خاصة للزيارة أحضرها لنا أحد العراقيين المرافقين لنا، وبعد ارتدائها، مررنا بشارعين كبيرين، وخلال السير تعرضنا للتفتيش نحو 4 مرات، للسيدات والرجال، إلى ان وصلنا لمسجد الحسين رضى الله عنه، وللآسف تم أخذ الكاميرات والموبايلات منا، ولذلك لم أستطع تصوير روعة وجمال ما رأته عيناى للمسجد الذى يتزين فى سقفه وقبابه من الداخل بالكريستال الفخم وكانت روعة لم أشاهدها من قبل. وكان الزوار فى قمة التأنيب لأنفسهم، ويطالبون بالغفران. و قيل لنا إن رأس الحسين توجد فى مسجد الحسين بمنطقة الأزهر بالقاهرة الحبيبة. وهكذا ودعت العراق متمنية أن ينعم الله على هذا الشعب بالراحة التى حرم منها على مر الزمان!