مع كل نهار يبزغ من الفجر ، أوجه إلى ساعات اليوم القادم سؤالا يخص قلبي: إن كنت قد جئت لألتقى بحبيبتى فأهلا بك ؛ وإن كان ميلادك هو تكرار لزيادة المسافة بين لقائنا ، فأعلم أنى أكره كل زمن تبتعد فيه الحبيبة عنى . ولابد من إعترافى أنى أحاول إقناع نفسى حين أقدم على أى عمل بأن هذا العمل يقرب بينى وبين الحبيبة. ولا داعى لأن أقوم بأى عمل يقلل المسافة بيننا . وحين أضطر إلى القيام بعمل لا يحقق هذا الهدف ؛ فأنا أؤديه رغما عنى . ويصحبنى بطبيعة الحال إحساس الحرج من ألا تستوعب عيون الآخرين حقيقة مشاعرى وأرى ألسنتهم وكأنها أسوار من الزجاج الذى يجرح مشاعري. ولعل هذا ما يفسر خوفى من التواصل مع الغير ، لأن التجارب علمتنى أن بعض الناس يقتحمون حياتى ليمضغوا أسرارى بأسنان السخرية . وحين ينصحنى أحدهم بأن أقتل مشاعرى ،لأن النساء كثيرات ، ويمكن استبدال أى علاقة عاطفية بأخرى ، هنا أسخر من النصيحة لأنى بدون الحبيبة بذاتها أعانى وحدى من اليقين المؤكد الذى أعيشه ؛ فوحدى من يؤمن بأنى بدونها أكون هذا الخاسر وأن الحياة بدونها لا جدوى منها ؛ فما يحدث أيام أى غضب بيننا ،أن أبتسامتى تصير قناعا يخفى دموعاً متجمدة فى عيوني. وكثيرا ما أحاول ضبط أوتار الأحاسيس لأعيش بانسجام مع نفسى ومع من حولي،بشرط أن تكون الحبيبة معي. وأقصد ب «ضبط أوتار الأحاسيس» أن أعرف خصائص المزاج الإنسانى ؛ وخاصة مزاج الحبيبة . وعرفت بالبحث أن المزاج الإنسانى فى هذا العصر قد دخل على مائدة العلماء. وقالوا عشرات الملايين من الآراء، وموجزها أن مزاج إنسان هذا الزمان داكن اللون. ويمكن أن يتحول إلى مزاج أزرق كموج البحر حين تطل عليه رياح الفرح ، فيسبح الإنسان فى التفاؤل ، هذا إن عرف الإنسان طريقا يخرج من خلاله من سجن الزيف. لكن كيف أُخرج الحبيبة من قضبان الظاهر المزيف الذى تدمنه ، وبين حقيقة كلمة « أحتاجك» التى تنطق بها مشاعرها قبل لسانها- كلما التقينا ؟ همست لى سطور د. أرون بيك أستاذ علوم الإحساس الإنسانى بجامعة بنسلفانيا: «لابد أن يعى كل كائن بشرى أنه لم يعد العملاق الوحيد فى هذا الكون؛ و ليس مطلوباً منه أن يجلد نفسه برغبة الوصول إلى الكمال؛ فالحياة تسير منذ بدء الخلق حتى الآن بقدر كبير من الانسجام الخاص بها. ولا يوجد بعد نهايات عصر الرسالات السماوية أى داع لإرهاق النفس البشرية بأحمال ثقيلة من الإحساس بالذنب لأن الإنسان لم يصل إلى الكمال؛ فالإنسان الكامل هو النبى ، أو أى عاشق ذاب فى معشوقته فصار الاثنان كائنا واحدا ، وذلك ما لم يحدث حتى الآن. وعلى الإنسان أن يعمل بحماس بوهم الحلم بالوصول إلى الإتحاد المطلق مع من يحبها ، و كلما أنجز عملا فعليه أن يثق فى اقتراب ذوبانه فيمن يحب ؛ وأن تلك هى نهايته ليتشكل فى هيئة جديدة . وتمادى أرون بيك فهمس : وعلى الإنسان أن يصحو كل صباح بعقل إنسانى لا بعقل فأر. والفرق بين عقل الفأر وعقل الإنسان هو ما يلي: عقل الإنسان يعرف أن الهدف من الحياة ليس امتلاك كل شيء؛ ولا التهام كل شيء. ولكن لابد من التوازن بين ما أمتلكه وبين إحساسى بالسعادة. فلا يهم أن تكون سيارتى بنصف مليون جنيه؛ وتكون مشاكل يوميا فى حجم الهرم الأكبر. ولا يهم أن تكون ملابسى أكثر أناقة من ملابس سيد البيت الأبيض أو سيد قصر الإليزيه ، بينما تكون أحزانى كسرطان سرى يأكل منى بهجة الفرح وليس معنى ذلك أن يعيش الإنسان على الكفاف. ولكن أن يحيا بتوازن. كما أن عقل الفأر هو عقل يفكر بالأنياب والترصد؛ فهو يترصد دائماً الأنفاق المظلمة؛ ويدرب أنيابه على أكل كل شيء؛ دون أن يتوازن على الإطلاق؛ فقط يأكل كل ما أمامه ، ويتكاثر بسرعة رهيبة. فذكر الفأر يلتهم الأنثى فى وجبات من الشهوة المتلاحقة ثم بعد أن يكثر عدد الفئران تبدأ رحلاتها إلى الانتحار الجماعى للفئران. وغالباً ما يقف إنسان ليرى ظاهرة انتحار الفئران وهو يتساءل: لماذا هذا الغباء. ورغم ذلك لا يتعلم الإنسان الدرس وهو أن الحياة بالأنياب والترصد تقود إلى النهاية السريعة. وقليل من بنى البشر يصلون إلى ضرورة السباحة فى بحر الحياة بتوازن. ويحاول مواجهة اليوم _ أى يوم _ كحقيقة واضحة من الساعات التى تفرض عليه حدود الاتصال بالآخرين؛ وحدود الانفصال عنهم. وقد ينعم الزمن على الإنسان بتجربة لمسة يد من يحبها وتحبه؛ هذه اللمسة فيها من العناق والدفء ما ينقل رفرفة الأمل. ومن الأمل إلى اتساع الرؤية. واتساع الرؤية يهب الإنسان وعيونه وعيا بأن قانون النشوة مكتوب فى تواصل العشق؛ والألم مكتوب فى عدم تحمل مسئولية العشق. ولو أراد الإنسان أن يواصل التهام ساعات النهار فى عشق بلا مسئولية؛ فعليه أن يتحمل الاما نفسية يصعب تحديد مداها ، وهى آلام بلا مبرر واضح؛ وتبدو فى جوهرها عقابا على عدم تحمل مسئولية هذه التجربة. والمثل الواضح الشقاء فى الغرب هو للنساء اللاتى يقعن فى شرك الخيانة الزوجية ، لأن مساحة الحرية عند المرأة هناك تتيح لها سهولة الطلاق وقدرة على تقبل المجتمع لها . وأكثر الرجال شقاءً فى الشرق والغرب هم الذين يستبيحون لأنفسهم التعدد فيقعون فى مصيدة من كيد النساء. ...................... ورغم أن كلمات آرون بيك تأخذنى كثيرا بعيدا عن إحساسى بالوحدة ، فلابد من الاعتراف أن مشهد وردة ما أو شجرة مزهرة يمنحنى استراحة من الانغماس العاطفى ، فأقرر لنفسى أن جمال الكون موجود وفى انتظار عيون تراه ، لا عيون تسجن نفسها فى انتظار الموت. وأهمس لنفسى « الموت سهم غير واضح الملامح منطلق معنا ليجرى خلفنا منذ لحظة الميلاد وعندما يأتى الميعاد المحدد فى اللوح المحفوظ ستسلم أنفاسنا رايتها للملاك القادم من السماء، المسافة بين الميلاد والموت هى تواجد يومى فى علاقات بين البشر وعلاقات مع الأماكن. المهم هو أن نستخلص الجمال من هذه العلاقات لنرى حياتنا على ضوء شموع الدفء الإنساني. وعلى ضوء الإشراق الجمالى للأماكن التى نوجد فيها. ولكنى فى تجربتى الشخصية أعيش وكل الحوائط والجدران والأماكن والتواريخ يثرثرون فى وجدانى بما لا يسمعه أحد غيرى ، وموجز كل المعانى يتركز فى الكلمة النداء التى كثيرا ما نطقتها الحبيبة ، الكلمة هى « أحتاجك .. احتياجى إليك يجتاحنى كإعصار لا يعرفه أحد غيرى «. وكثيرا ما شاركت صديقى وطبيبى العاطفى العالم أحمد مستجير رائد الهندسة الوراثية ، وكان محور حوارى الدائم معه هو السؤال الذى تختلف الإجابة عليه حسب ظروف كل مجتمع « لماذا يضع المجتمع شروطا للقاء العاطفى ، شروط تبدأ من ضرورة توافر التشابه بين الظاهر والباطن ؟ فالطبقة التى أنجبت الحبيبة تبدو من الفئة العليا اقتصاديا ، لكنى واحد من أحاد الناس ، تعلمت وسبقتنى أسعار الشقق والسيارات وأدوات الرفاهية ، فعشت بظاهر مقبول فى العيون ، وواقع تطارده أقساط البنوك؟ كان أحمد مستجير يضحك ليروى لى حقائق الهندسة الوراثية التى تضعنا أمام حقيقة لا يتلفت لها من يصنعون عشق الظاهر دون معرفة بحقيقة الجوهر ، فيؤكد لى أن الفرق بين الإنسان والباذنجان والقرد والتفاح هو اختلاف فى ترتيب وتركيب شريط رفيع فى الخلية الأولي. وهذه الخلية الأولى تملك أربعة عناصر فقط ؛ تختلف نسبتها فى الإنسان عن الباذنجان وفى القرد عن التفاح. إذن فلا تعالى ولا كبرياء لأحد. إنما الكرامة مقدسة لكل كائن ودون أن نؤمن بضرورة سد الفجوة بين الظاهر والباطن ، فسيدعى بعضنا أنه أسير أكاذيب الإدعاء أنه قوى لا يعرف الضعف ، والحقيقة أنه ضعيف يرتدى ملابس أراجوز يوهمه أنه القوى الذى لا ضعف له . وعلى الواحد منا أن يعى جيدا أن معرفته لضعفه هو بداية معرفته لقوته . يصمت أحمد مستجير ، ليؤكد : هل تعلم لماذا تجتاحك أشواقك لمن تحب إلى هذه الدرجة ؟ السبب بسيط جدا فى كلمتها التى تحاصرك وهى « أحتاجك « . وهى ترسل لك الاحتياج وهى محبوسة فى المدينة البعيدة، وظروف هى قضبان غير مرئية لا تعرف منها فكاكا. تذكرنى كلمات صديقى أحمد مستجير هذا الذى سقط رأسه على طبق الغداء وهو يرى فى التليفزيون مشهد إسرائيليين يقتلون طفلا عربيا ، ورغم أن أحمد مستجير كان فى إجازة يقضيها فى قرية تملكها زوجته فوق جبال الألب بالنمسا ، إلا أن جمال الطبيعة لم ينتصر على القبح الذى تنقله أخبار التليفزيون، فسقط رأسه فى الطبق بانفجار فى شرايين المخ ، وعندما نقلوه إلى المستشفى طلبت أنا شخصيا مكتب حسنى مبارك راجيا أن يسألوا أدبيا عن عالم مصرى جليل و لا يحتاج إلى قرار علاج من أحد؛ لأن عنده «تأمين صحى يتيح» له العلاج فى أى موقع فى العالم ، قيل لى : هل تريد إزعاج الرئيس بإخباره بنبأ انفجار شرايين رأس رجل فى الرابعة والسبعين ؟ ألا تعلم أن الرئيس يقترب من الثمانين ، وإن نقلنا له الخبر فقد يقلق على نفسه ؟ . نظرت ساعتها إلى نتيجة الحائط لأحفظ تاريخ التخلى عن أحمد مستجير وجدته السادس من أغسطس 2006 . وأيقنت أن هذا تاريخ لحماقة تاريخية لن يثبتها أحد فى كتب التاريخ كما لم يثبت أحد أسماء من ضاعوا فى ساحات الغباء القديمة. فلا أحد يتذكر اسم ذلك الحاكم الذى حبس فيما قبل ميلاد المسيح قرابة المائة وخمسين ألف إنسان فى مدينة سيراكوزا الإيطالية ، ليحفروا له جبلاً بسكاكين صغيرة. وليزرعوا فى بطن الجبل أشجار البرتقال ؛فزرعوا بالفعل أشجار البرتقال. ويبقى لكل من يشترى برتقالا هناك أن يسمع رجاء البائع بضرورة لعن ذلك الحاكم الظالم ، خصوصا أن البرتقال الماخوذ من تلك الأشجار له طعم شديد الحيوية ، وأن اهل المدينة يتذكرون كيف تحولت آلام البشر إلى فصوص من البرتقال ، فعلى من يأكلها لابد من تذكر هؤلاء الشهداء، وهكذا بقى البرتقال دليلاً على غباء رجل قوى وشهادة إبداع للشهداء. ...................... وتظل كلمة « أحتاجك « تتلون فى ذاكرتى ، فذهبت أشكو من أنها كلمة تسرق منى النوم ، وكان من يستمع لشكواى هو صديق اثير ، انتقل به الطب النفسى فى مصر من دائرة كتابة أدوية تكسب منها شركات الدواء بأكثر مما تكسب شركات السلاح ، فصار خبيرا بجعل كل إنسان هو طبيب نفسه ، الصديق هو العالم محمد شعلان مؤسس قسم الطب النفسى بجامعة الازهر ، قال لي: « لماذا لاتأتى معى إلى اليابان لنر ما فعلته القوة الغبية بهورشيما نجازاكى ؟ لقد أعطيتهم إسمك ككاتب صحفى يرصد رحلات القوة والضعف ؟ قلت لمحمد شعلان: هل السفر يمكن أن يخفت صوت من احبها فى أعماقى لأن نداءها « أحتاجك « يزلزلني» ويغرقنى فى دوامات حزن لا أعرف منها فكاكا ، فهى تسكن مدينة تبدو كالقصر الذى كتب عنه نزار قبانى وغناه عبد الحليم حافظ .. فحبيبة قلبك ياولدى تسكن فى قصر مسحور من يدنو من سور حديقتها أو حاول فك ضفائرها مفقود مفقود؟ قال محمد شعلان : الكل يعلم أن عبد الحليم اختارك منذ يناير 1964 لتكتب تاريخ حياته . وأنك نشرت نصف ذلك التاريخ وهو حى ، وقبلت على مضض رجائه بأن تكتب النصف الثانى بعد رحيله وقد فعلت . وكان عبد الحليم يعلم أن هناك فى تجربة كل عاشق من تقول له « أحتاجك « فلا ينتبه لحظة سماع النداء ، ثم يقضى كثيرا من عمره مع الحزن لأنه لم يردم الهوة بين الظاهر والباطن ، ولا مفر من تعقيم الحزن برؤية أحزان الغير؛ فهيا بنا إلى طوكيو. ...................... فى طوكيو رأيتهم يؤمنون أن الإنسان موجود فى هذا العالم ليبتهج لا ليغتم. والبهجة تأتى بإنجاز العمل ومحاولة تقبل العالم كما هو. ولابأس من السعى لتغيير العالم ؛ بشرط ألا يتحول هذا السعى إلى مرض عصبي. فلا أنا أغير العالم ولا أنت تغير العالم وقوتى لن تقهر ضعفك. وقوتك لن تقهر ضعفنا. ولكن قوتى وقوتك يمكنهما التعاون لنقهر ضعفنا المشترك. هذا ما علمته لى رؤية ما حدث فى هورشيما نجازاكى . ولن انسى ملامح الحلوة التى شاءت أن تجعل صوت الحبيبة يصمت فى أعماقى ، كانت الغادة اليابانية هى من أقامت حفل شاى على شرف تذكار ما حدث فى هورشيما نجازاكى ، كانت الغادة تقول « ثبت أن أمام الإنسان لونين من السفر؛ سفر إلى المكان وسفر إلى الأعماق.وعندما يمتزج السفر من المكان إلى مكان آخر مع السفر من أعماق إلى أعماق فهذا هو السحر الحى الذى يلون الحياة بألوان من الحرية. الحرية التى لا قمع فيها. وخيال الإنسان عندما يحطم القمع؛ فهو أيضاً يرتوى من نهر جمال الأماكن ويشرب من خمر قادرة على أن تزرع الصفاء فى الوجدان، إنها خمر التاريخ. و أعماق الإنسان عندما نجيد السفر إليها؛ فنحن نتيح للآخرين الذين نمتزج بهم فرصة التخلص من الإحساس الداكن بالوحدة. ...................... وعلى قمة جبل كاميوكا بمدينة كيوتو كنت أسمع ما تقوله الحلوة اليابانية ، لكن صوت الحبيبة عاد لأسمعه فى أعماقى وحدى .. كانت الحبيبة تقول نداءها الدائم : أحتاجك « ورأيت ابتسامة اليابانية وهى تقول لى « سمعت صوتا يقول إنه يحتاجك .. فهل سمعته معى ؟ ولم استطع أن أجيبها أو سؤالها : كيف إقتحمت أعماقى لتسمع ما أسمعه وحدى ؟ وتلك قصة أخرى .