بعد تجاوزات إثيوبيا غير القانونية.. مصر تكشر عن أنيابها في أزمة سد النهضة.. متخصصون: ندافع عن حقوقنا التاريخية في نهر النيل والأمن المائي خط أحمر    الأولى على القسم الجامعي "تمريض": التحاقي بالقوات المسلحة حلم الطفولة وهدية لوالدي    رئيس الوزراء البريطانى يصل إلى شرم الشيخ للمشاركة فى قمة شرم الشيخ للسلام    فرنسا تُعلن تشكيل حكومة جديدة برئاسة لوكورنو لتجاوز الأزمة السياسية    ترامب: الصراع في غزة انتهى والإدارة الجديدة ستباشر عملها قريبًا    استشهاد فلسطيني برصاص قوات الاحتلال في مدينة خان يونس    منتخب مصر ينتصر على غينيا بيساو بهدف نظيف في تصفيات كأس العالم 2026    بولندا تواصل تألقها بثنائية في شباك ليتوانيا بتصفيات المونديال الأوروبية    بوركينا فاسو تختتم التصفيات بفوز ثمين في ختام مشوار إفريقيا نحو المونديال    عبد الظاهر السقا: تنظيم أكثر من رائع لاحتفال المنتخب بالتأهل لكأس العالم    نائب محافظ قنا يتفقد عددًا من الوحدات الصحية لمتابعة جودة الخدمات المقدمة للمواطنين    ترامب: الحرب في غزة انتهت ووقف إطلاق النار سيصمد    خبير تربوي يضع خطة لمعالجة ظاهرة العنف داخل المدارس    حبس رجل أعمال متهم بغسل 50 مليون جنيه في تجارة غير مشروعة    القائمة الكاملة لأسعار برامج حج الطبقات البسيطة ومحدودي الدخل    إعلام عبري: إطلاق سراح الرهائن من غزة بداية من الساعة 8 غدا على دفعتين    زيلينسكي: بحثت مع ترمب تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك وأنظمة باتريوت    منتخب مصر يتقدم على غينيا بيساو بهدف بعد مرور 15 دقيقة    ذهبية المنياوي وبرونزية صبحي تزينان اليوم الثاني من بطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي    البنك المركزي يقبل سيولة بقيمة 125.6 مليار جنيه في عطاء أذون الخزانة اليوم    باحث فلسطينى: زيارة ترامب لمصر محطة مفصلية لإحياء مسار السلام    وائل جسار يُحيى حفلا غنائيا فى لبنان الأربعاء المقبل    الخارجية الفلسطينية تؤكد أهمية ربط خطة ترمب للسلام بمرجعيات القانون الدولي    وزير الصحة يلتقي الرئيس التنفيذي لمعهد WifOR الألماني لبحث اقتصاديات الصحة    بيحبوا يصحوا بدري.. 5 أبراج نشيطة وتبدأ يومها بطاقة عالية    هل التدخين يبطل الوضوء؟ أمين الفتوى: يقاس على البصل والثوم (فيديو)    أسامة الجندي: القنوط أشد من اليأس.. والمؤمن لا يعرف الإثنين أبدًا    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : أول الحذر..ظلمة الهوى000؟!    نوفمر المقبل.. أولى جلسات استئناف "سفاح المعمورة" على حكم إعدامه    ابن النادي" يتصدر تريند "إكس" بعد تصاعد الأحداث المثيرة في الحلقات الثالثة والرابعة (صور)    قافلة طبية بجامعة الإسكندرية لفحص وعلاج 1046 مواطنًا بالمجان في الكينج مريوط (صور)    خاص للفجر.. يوسف عمر يخرج عن صمته ويكشف تفاصيل فيلمه الجديد مع أحمد عز    بعد مصرع الطفل " رشدي".. مديرة الامراض المشتركة تكشف اساليب مقاومة الكلاب الحرة في قنا    محافظ القليوبية يقود حملة مفاجئة لإزالة الإشغالات بمدخل بنها    في حب المعلم    تأجيل إستئناف المتهم الرئيسي ب " تظاهرات الألف مسكن "    الخريف.. موسم الانتقال والحنين بين دفء الشمس وبرودة النسيم    تأجيل الدعوى المقامة ضد إبراهيم سعيد لمطالبته بدفع نفقة ابنه    رئيس منطقة مطروح الأزهرية يكرم الطالبة هاجر إيهاب فهمي لتفوقها في القرآن والخريدة البهية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 12-10-2025 في محافظة الأقصر    دمياط: فصل المياه في بعض المناطق منتصف الليل حتى الثامنة صباحا    أوسكار عودة الماموث.. فيلم يخطو نحو الإبهار البصري بقصة إنسانية مؤثرة    20 أكتوبر.. انطلاق جولة «كورال وأوركسترا مصر الوطني» بإقليم القناة وسيناء    الخريف موسم الانتقال... وصراع المناعة مع الفيروسات الموسمية    بالأسماء.. الرئيس السيسي يُصدر قرارا بتعيينات في مجلس الشيوخ    "سلامة الغذاء" تنفذ 51 مأمورية رقابية على السلاسل التجارية في أسبوع    الأهلي يحدد 20 أكتوبر موعداً لحسم موقف إمام عاشور من السوبر المصري    الضرائب: الفاتورة الالكترونية والإيصال الإلكتروني شرط أساسي لإثبات التكاليف ورد ضريبة القيمة المضافة    وزارة الصحة: 70% من المصابين بالتهاب المفاصل عالميا يتجاوز عمرهم ال55 عاما    الداخلية تضبط أكثر من 106 آلاف مخالفة مرورية في 24 ساعة    "الوطنية للانتخابات" تواصل تلقي طلبات الترشح لانتخابات مجلس النواب 2025 لليوم الخامس    تنفيذ ورش تدريبية مجانية لدعم الحرف اليدوية للمرأة في الأقصر    مراكز خدمات «التضامن» تدعم ذوى الهمم    مشروع الفستان الأحمر    مدارس التكنولوجيا تعيد رسم خريطة التعليم الفنى    مصر تتسلم رئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو" لمدة 3 أعوام بعد فوز مشرف ومستحق    استبعاد معلمي الحصة من حافز ال 1000 جنيه يثير الجدل.. خبير تربوي يحذر من تداعيات القرار    وزير الأوقاف فى الندوة التثقيفية بالإسماعيلية: الوعى أساس بناء الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهلا يا أنا
الشوق إلى الحياة ببساطة
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 10 - 2014

أخذتني موسيقى الحيوية في خطواتها إلى ضرورة الحديث معها دون خجل . وكان اليوم السابق لرؤيتها هو نوم ليل بدا كأنه الدخول إلى رحم أمي لأفاجأ بميلادي في ذلك الصباح القديم كإنسان يخطو إلى الحياة لأول مرة. وعندما قامت بتعريف نفسها باسم « إيميكو» تعمل سكرتيرة لراهب بوذي يشغل منصبا شديد الحساسية في مدينة « نجازاكي « التي وقعت عليها قنبلة ذرية ذات نهار قديم . قلت لها « هل كان لتأثير الهواء الذري أي صلة في وجود قدر من الجمال الأنثوي الهائل على بنات اليابان ؟ . ابتسمت لتهمس « لم تكن أسرتي في اليابان في ذلك الوقت ، كانت الأسرة تقيم على حدود روسيا أحيانا وحدود تركيا في أحيان أخرى. قلت : يبدو أن عيون والدك قد شربت من حيوية الروس ، وأضافت عيونه بعضا من أشواق الأنوثة التركية ، ما جعل والدتك تمنحه ابنة أطول قامة من أغلب اليابانيات وأكثر إشراقا من الجدية الصارمة عند مثيلاتك من بنات اليابان .
ابتسمت في فخر خجول بنفسها ، وأخبرتني أنها ستصحبنا في الرحلة إلى هورشيما ، التي سنركب إليها قطارا يقطع مسافة لا بأس بها ، وأضافت « قد تكون إقامتكما في هذا المنتجع قد أصابتكما بالملل ، فالكاتب الصحفي الذي هو أنت مزدحم بالحركة منذ وصولك إلى اليابان ، ولابد أن صديقك الطبيب النفسي الكبير محمد شعلان قد ناله بعض من الملل من الوجود لعدة أيام فوق قمة هذا الجبل وفي تلك القرية التي أقامتها السيدة « تاو».
أجبت : إن هذه القرية تهب قدرا من الهدوء النفسي يندر وجوده في أي موقع في العالم ، لقد كان نوم ليلة الأمس شديد الصفاء ، فهذا المنتجع يهب من يزوره قدرا من الإطمئنان يصعب وجوده في أي مكان في عالمنا .
كان المنتجع يتوسط قرية على قمة جبل كاميوكا، وللقرية نفس الاسم ، وتقع بجانب مدينة كيوتو العاصمة الثقافية لليابان . وقد اختارت السيدة «تاو» هذا الموقع لتبشر بما رصدت له حياتها ، فقد رأت في أحلامها أن رحم كل امرأة يجب أن يجيد اختيار الكائن الذي ترتبط به، ذلك أن هناك نوعاً من أرحام النساء يخطئ الاختيار فتحمل المرأة أطفالاً يكبرون وبهم رغبة عارمة في السيطرة على الغير فيشعلون الحروب. وعلى كل امرأة أن تحسن اختيار زوج هادئ الطباع لرحمها، لتضمن ابنا غير مزعج لا يعرف التأمل. وراحت تبشر بما حلمت به وخاضت صراعا مع إدارات الأمن اليابانية في ثلاثينيات القرن الماضي ، واعتبروها مبشرة بالثورة على الإمبراطور ، ولم تأبه بما فعلوا بها ، حتى قامت الحرب العالمية ونالت اليابان هزيمة بالقنابل الذرية ، لتنتشر دعوة السيدة « تاو » ولتستقر على تأسيس فرع جديد من البوذية يسمى طائفة الأوموتو التي تقدس المرأة وتعشق البساطة ، وترى أن الكون كله يجب أن يستمع لأحاسيس النساء ،لأن المرأة قادرة على صيانة الحياة عكس الرجل ، وإذا قارنا بين صورة السيدة « تاو» وبين صورة الحلوة « إيميكو» سيكتشف الفارق بين أنوثة» تاو» الغاربة والتي تركت خلفها بضع حقائق أساسية للحياة في سلام ، وورثتها ابنتها في رئاسة الطائفة التي تضم كثيرا من رجال المال والصناعة ، وهم من أقاموا هذا المنتجع الذي يستقبل الشباب لتدريبهم على الصفاء الذهني ، حيث يمكن للحدس الناتج بين قناعات العقل العلمي وبين إيمان النفس بجدوى إضافة جهد جماعي لرفعة اليابان . وهم قد طبعوا الكلمات المأثورة عن السيدة تاو وعلقوها على الأشجار ، وبقي منها في ذاكرتي « احفظ السماء تحفظك ، وأخلص لمن حولك تكن مخلصا لنفسك ».
أما « إيميكو» اليابانية أيضا فهي تختلف عن « تاو « وطائفتها ، فهي إنطلاقة أنثوية تبحث عن مستقبل حنون ولا مانع من أن يكون مستقبلا عالي الصخب.
وعندما تتأمل أفكار الحلوة « إيميكو» ستجد مساحة من الإختلاف الشاسع ، فإيميكو تعمل كسكرتيرة راهب عالي المقام في نجازاكي التي أسقطت عليها قنبلة ذرية ، وهي تدرس جوهر الأديان السماوية والأرضية ، لعلها تتوصل إلى يقين ما يؤهلها إلى الحياة في سلام ، كانت مهمتها هي مصاحبتي ومعي صديقي العالم النفسي الكبير محمد شعلان ، حيث كان كلانا مدعوا لحضور احتفال اليابان بذكرى ألقاء القنبلتين الذريتين اللتين وقعتا على كل من هورشيما ونجازاكي وفي القطار الذي حملنا إلى هورشيما كان الحوار فرصة لنتعرف على أفكارها بأكثر مما أتوقع ، فقد كانت حيويتها وأناقتها تكاد أن تكون إعلانا متمردا على حالة السكون الذي تتميز به اليابانيات .
وطبعا كنت مندهشا من أن طوائف البوذية التي تختلف طرق الإيمان فيما بينها ، لكنها تقدس أمرا واحدا ألا وهو أن يكون أي إيمان له هدف أساسي وهو خدمة اليابان ، ولذلك أسسوا مجمعا إسمه إتحاد الأديان الياباني» ويوجد ممثل عن كل دين بهذا المجلس ، فقد كان هناك ممثل عن الإسلام وآخر عن الكاثوليكية . ويرأسه بطبيعة الحال الراهب الذي يرأس معبد ميجي ، الذي يماثل في البوذية مكانة الأزهر الشريف عندنا .
حدثتنا إيميكو عما فعلته السلطات في الثلاثينيات ضد السيدة « تاو » ، سجنوها ولكنها لم تهدأ ، و ظلت تدعو لأفكارها وأقامت قرية هي كاميوكا الواقعة فوق الجبل بجانب كيوتو العاصمة الثقافية لليابان، ، ولم تسمح لرجل أن يقرب امرأة إلا بعد أن يتأمل لمدة ثلاثة أيام، فالتأمل يتيح لصاحبه الهدوء النفسى، ويجعل الأداء العاطفى والجسدى بين الرجل والمراة أكثر انسجاماً وعمقاً. وهى تحرّم على البشر أكل اللحم ، وتفضل عليه الأسماك والألبان ، لأن اللحم يأتي من البقر والجاموس ، أي من مصدر يمكن بالحفاظ عليه زيادة إنتاج اللبن . ولكن البقر ليس مقدسا كما هو الحال عند الهندوس . وهي من تركت وصية بألا يأكل الرجل اللحم لمدة شهر على الأقل قبل أن يحتضن امرأته حتى لا ينتج طفلاً شرساً. وقد تغير حال طائفة الأوموتو بعد الحرب العالمية وبعد هزيمة اليابان أمام الولايات المتحدة ، واستطاعت الطائفة أن تجد التأييد الهائل من أصحاب الدعوة للحياة بسلام. وطوال الرحلة كانت عيوني مشغولة بتأمل حيوية إيميكو ، ورقة حديثها عن اليابان؛ فموقع اليابان ساحر ومخادع بكل المقاييس لمن يرى الخريطة ، فقد ينخدع الواحد حين يتوهم بأن اليابان لا تؤثر في العالم ولا تتأثر به، رغم أنها تستفيد من العزلة وتستفيد من الاتصال بالعالم.فهي تتشرب أسرار الحضارة لتعيد صياغتها. وشرحت لي إيميكو أن اليابان لعبت مع العالم لعبة «الجمبري» مع «الإستاكوزا». وقد ضحكت عندما سمعت اسم تلك اللعبة ؛ فما أعرفه عن «إستكوزا» إنه حيوان بحري لذيذ الطعم، ويظن الرجال أنه يهبهم القوة الجنسية الخارقة. وكان الملك فاروق ملك مصر قبل عام1952 يأكل منه بكثرة. وأوضحت إيميكو أن الإستاكوزا دائماً تنقاد للجمبري فتسير إلى جانبه لأنه ضعيف، لكنه يتركها تقع في المصيدة ليفلت هو، اللهم إلا إذا كان الصياد قد ضيّق فتحات صندوق السلك الذي يصطاد به، فيصطاد الجمبري مع الإستاكوزا.
. شرحت إيمكو اللعبة بأن سجلاّت التاريخ تضمّ معركة صامتة دارت من قديم الزمان بين اليابان وتركيا وروسيا. فعندما نظرت اليابان إلى أزمة العالم عام1913، على سبيل المثال، وجدت أن تركيا تترنح تحت وطأة انهيار الخلافة ، ولم تعد صاحبة قوة تهددها ، كما أن روسيا كانت تترنح تحت استغلال القياصرة، وعرفت أن هناك مشاغل كبيرة تحتلّ عقل أوروبا من ناحية الإمبراطوريات، فتوجهت اليابان إلى جنوب شرق آسيا في معظمه لتفرض نفوذها عليه، واتفقت مع الولايات المتحدة على أن تشتركا معاً في أسواق أوروبا. وارتفع في اليابان علم صناعة السفن البخارية. وانتقلت الأقماش الحريرية من مصانع اليابان لتدهش بها عيون الناس في أوروبا، وعندما هجم الزلزال العنيف على طوكيو ويوكوهاما عام1923 مات مائة ألف ياباني، لكن اليابان أفاقت بسرعة من هذا الزلزال، واستطاعت خلال ثلاث سنوات فقط أن تحتل ثلث سوق الأقمشة في أمريكا نفسها. واستطاعت تصدير الصناعات المعدنية وغير ذلك من المواد نصف المصنعة إلى أوروبا وأمريكا.
باختصار استطاعت اليابان أن تحوّل عيون الناس في أوروبا وأمريكا والهند إلى بحر من الإعجاب فقد كبرت اليابان في الفترة ما بين عام1923وعام1926 بحسن هضمها للعقائد، وقدرة الإنسان الياباني على تحويل العقيدة إلى إنتاج مادي من الصناعة والزراعة والتجارة. لقد سارت اليابان في البداية بجانب الولايات المتحدة وكأنها مجرد سرب من «الجمبري» يطلب الأمان في رعاية»اللوبستر»، وفجأة وجدت «اللوبستر» نفسها غارقة في التبعية «للجمبري»‍‍‍!
لكن الولايات المتحدة ترصدت اليابان في الحرب العالمية الثانية ، وأذاقتها نيران القنابل الذرية ، وأفاقت اليابان من بعد ذلك ومعها الإمبراطور الذي وضع بلاده فوق رأسه، ورفض وضع ما قبل الحرب ، حيث كان هو فوق رأس الجميع . واستطاع أن يفهم تماماً كيف يوازن بين ضباط الجيش الأقوياء، بين الفقراء الذين تعلموا وأرادوا أن يجدوا لهم مكاناً تحت شمس الثراء، وبين التقاليد التي تنبع من فلسفة «البوشيدو»، تلك الفلسفة التي ترتفع فيها قيمة المرء بقدر تضحياته.
...................
ولم تكن زيارتي لليابان جميلة إلا بصحبة إيميكو فقد شهدت معي وبجانبي مشهد تجمع قرابة العشرة آلاف مثقف من مائة وأربع عشرة دولة من دول العالم في ساحة مدينة هورشيما باليابان ليستمعوا للعالم المصري محمد شعلان وهو يتحدث بإنجليزية رفيعة وبسيطة عن أسباب احتياج الإنسان للسلام مع النفس ، واحتياج الدول إلى السلام مع بعضها البعض ، لأن القنبلة الذرية التي أصابت ملايين البشر في هورشيما ونجازاكي لم تصب اليابانيين بالإبادة والأمراض فقط ، ولكنها أضافت للشخصية الأمريكية بعدا متوحشا على الأمريكيين سرعة التخلص منه .
...................
وعندما عدت من اليابان ظننت أن لقائي مع إيميكو لن يتكرر ، لكن كلماتها عن الإستاكوزا والجمبري ظل يضحكني كلما مر على خاطري .
وكانت المفاجأة هو رؤيتها مرة أخرى بنيويورك في زيارة أخيرة . وكنت مندهشا من صحبتها لأمريكي يرتدي زي الرهبان البوذيين ، وعندما سألتها عن السر ، أجابت بأنها تزور نيويورك لتشارك هذا الراهب بعضا من واجباته الدينية ، حيث أسس معبدا صغيرا للبوذية التي تنتشر بشكل هائل داخل الولايات المتحدة طلبا للسلام مع النفس ، لأن الأمريكي كإنسان يعمل طوال الوقت ، ومطحون معظم الوقت مع الفواتير والأقساط وتغيير السيارة ، وإذا كان في منتصف العمر فقد يكون مشغولا بعلاقة جانبية مع امرأة أخرى غير الزوجة ، وغالبا ما تكون زميلته في العمل . ويبدو وكأنه يحمل أطنانا من الهموم بجانب أطنان أخرى من الأطماع الصغيرة . ولأن الطب النفسي مرتفع التكلفة للغاية ، وأي جلسة للعلاج النفسي تصحب وراءها ما لا يقل عن اثنتي عشرة جلسة أخرى ، وهي عملية « تأجير « لصديق هو الطبيب النفسي الذي يستمع للهموم ؛ لعله يعيد ترتيب أعماق من يشكو . لكن مع البوذية فليست هناك تكلفة مثل تلك ، يكفي مجاملة الراهب الذي يؤسس معبدا صغيرا في بيته ليزوره ومعه هدية بسيطة .
ضحكت لإيميكو قائلا « أنت شخصيا تلعبين مع الأمريكيين لعبة «الجمبري» مع الإستاكوزا ، وتأتين بالبوذية لتلمسي العصب السري داخل أي إنسان ، وتشاركين هذا الراهب الأمريكي في الدعوة لبوذا ، حيث أسس معبدا صغيرا في منزله ويزوره الناس فيقدم لهم عرضاً عن فنون الحياة في ظل «بوذا».
قالت إيميكو : أنت تنسى أن الأمريكيين قد قاموا بإخراج عشرات القصص عنا وكأننا الهمج وهم أهل الحضارة، رغم أن العكس صحيح في أحيان كثيرة. على الرغم من اليابان تتبع بوذا في أغلب بقاعها ، ويمكن لأي ياباني أن يؤمن بديانتين في وقت واحد .فضلا عن أن بوذا ليس صناعة يابانية بل هو شاب عاش في القرن الخامس قبل الميلاد في الهند، وهو من أسرة ذات ثراء رهيب، لكنه نظر باحتقار إلى الذهب والمتعة وقرر الرحيل ليجلس تحت ظل شجرة إلى أن يهبط عليه نور من السماء أو ينبثق منه نور من أعماقه. ولم يقل عن حكمته وكلماته إنها رسالة من السماء، لكنه قال إن ما يدعو إليه هو مجرد طريق يمكن أن يسير فيه الإنسان.
أضافت إيميكو: لذلك أنت ترى الآن هذا الشاب الأمريكي يترك كل ما تعرضه عليه حضارة الغرب ويدخل طائعاً مختاراً في طريق بوذا. ألا ترى أن في ذلك انتصاراً لأسلوب بوذا في الحياة؟
قلت لإيميكو: إنه انتصار لمدى قدرة اليابان على الدعاية لنفسها. وعليك ألا تنسَ أن اليابان تلعب مع العقائد لعبة «الجمبري» و «اللوبسترا». إن أي عقيدة تأتي إلى اليابان عليها أن تدخل على الفور في مصيدة العقائد، لأن اليابان تذيب كل العقائد في ضرورة واحدة ،هي إنتاج حبة الأرزّ وارتفاع مستوى المعيشة، وتقديس العمل، ورفعة العلم الياباني
سألت إيميكو: لماذا ينجح زواج اليابانية من جنسية أخرى ، لكن لا ينجح زواج أي رجل يابانى واحد بامرأة من جنسية أخرى ، فقد عرفت أن كل العلاقات من هذا النوع تنتهي بالانفصال . أجابت : إن الانبهار الأوّل للرجل اليابانى بالمرأة الأحنبية يذوب بسرعة. فالمرأة الأمريكية _ مثلا _ قبل الزواج تكون مطيعة. فقد تقبل النوم على الأرض، لأن اليابانى لم يتعود أن ينام على سرير، لأن اليابان أرض زلزالية. وعندما يتعرض البيت لزلزال فعلى اليابانى أن يسرع لإنقاذ أسرته. إنه بطبيعته غير واثق من الطبيعة. والمرأة الأجنبية قد تبهره فى اللقاء الأول والثانى والثالث، لكن ما إن يبدأ الزواج حتى تنقلب المرأة الأمريكية الوجه الآخر من الأسطوانة، فتبدأ بفرض الشروط، وبالمطالبة بشراء الأشياء الضخمة: السرير الضخم، الثلاجة الضخمة، البيت الضخم المزدحم بالأثاث. واليابانى لا يقبل الحياة مع الضخامة، إنه يفضل الأشياء البسيطة. فالبيت اليابانى بسيط وفعّال. الثلاجة مثلاً لا يجب أن تكون كبيرة، لأن طعام اليابانى لا يحتاج إلى ثلاجة ضخمة، فالسمك مثلاً، وهو الطعام الأساسى، يفضله اليابانى طازجاً. والبيض يحبه اليابانى نيّئأّ وطازجاً. وكميات الطعام يجب ان تكون قليلة. أما الطعام الأمريكى فهو ضخم. إن الأمريكية_ على سبيل المثال _ تفضّل شراء عجل كامل ووضعه فى ثلاجتها فى حين أن اليابانى يصاب بذعر من رؤية عجل مجمد لا يُنتج لبناً ولا يرعى فى الأرض. وتبدأ الخلافات بين الرجل اليابانى والمرأة الأجنبية بعد الزواج بشهور. ولكن زواج اليابانية من الأجنبي فهو قد ينجح غالبا لأنها لا تجرى بكرباج من المطالب وراء الزوج. إنها تطالبه بالاستمتاع بالحياة. و عندما يستمتع الإنسان بالحياة فهو ينتج ما يحب، ولا يقع أبداً أسير الخطأ أو اللهفة أو القلق. والمرأة اليابانية تجعل من البيت حديقة صالحة لتعليم الأبناء. وهى تهتم بأعصاب زوجها بالدرجة الأولى. إن الرجل مقدس فى الثقافة اليابانية لا لأن المرأة أقل منه شأناً، ولكن لأن الطبيعة أكدت للمرأة أن الرجل يموت فى سبيل إنقاذها وإنقاذ أبنائها، ولأنه يقبل هذه التضحية عن طيب خاطر، فهو مقدس. وعندما يتزوج الأجنبي من يابانية فهو يشعر بالاحترام لنفسه ولا يحتاج إلى علاج نفسى، ويستمتع بما يعمل ويجد وقتاً لكل ما يحلم به. وهكذا تهزم الثقافة اليابانية الثقافة الغربية بهدوء شديد.
قالت إيمكيو بفخر: اليابان شعب يعرف الاختيار، فقد اخترنا بوذا والأرز من الهند، واخترنا كونفوشيوس من الصين، واخترنا من البحر السمك، ، واخترنا من الديدان دودة القز لتغزل الحرير، واخترنا من الأسلحة السيف الحاد.وصنعنا الترانستور من الرمال .
...................
ومازالت إيميكو تحتل خيالي لبعض الوقت كلما تمنيت السلام مع نفسي ، وأتذكرها كلما شاهدت موج البحر لأجد نفسى مجرد موجه صغيرة، تتبع موجة كبيرة. إنها موجة أفكار إيميكو، فتهدأ النفس لبعض من الوقت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.