الحذر طبيعة بشرية، وهو واحد من أهم أدوات الحفاظ علي الحياة، ولكن ماذا عمن يسجنون أنفسهم في قضبان من المحاذير، لا يأكلون الدسم لأنه السبب في ارتفاع الكوليستيرول، ولايشربون مياه الحنفية خوفا من تلوثها، ولا يدخلون مكانا فيه تكييف، ويحاولون الحفاظ علي الصحة بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة، وعندما يتكلمون مع الغير، فهم يضعون علي ألسنتهم كلمات عامة حذرا من أن يقولوا رأيا لا يعجب من يسمع، وعندما يقابلون الرؤساء يقلبون وقائع نكدهم الخاص إلي أكاذيب مفرحة يسعد بها الوزراء والكبراء، وعندما يعودون إلي منازلهم يشعرون بمرارة أكاذيبهم وهي تسرق من عيونهم النوم. ولن أنسي ما حييت هذا الراهب البوذي الذي يعيش علي قمة جبل كاميوكا الواقع بجانب مدينة كيوتو عاصمة اليابان الثقافية، وقد بلغ الراهب من العمر فوق التسعين بخمس سنوات وكانت أسنانه سوداء من فرط التدخين العنيف، قال الرجل لي: "لم أمتنع عن طعام ما، ولكني لا أكل اللحم بسبب أن البقرة تنتج اللبن، واليابان كما تعلم فقيرة في أعداد الماشية، وذلك أفضل أن تظل الأبقار قادرة علي إدرار اللبن بشكل عالي القيمة، وكل ما فعلته في حياتي هو الترفع علي كل ما يثير أطماع البشر، ولم أسمح لخيالي بالسفر في مساوئ الغير، ولم أمسك بكرباج لأجلد نفسي علي أي سلوك اعتبره الغير لا يتناسب معي، لسبب بسيط للغاية هو أني أفكر كثيرا قبل أن أخطو أو أتكلم. وراقبت الرجل لمدة خمسة أيام فوجدته يحكي الحكايات للشباب الياباني الصغير الذي يأتي لزيارة الدير البوذي ويشرح لهم قيمة التأمل بالنظر إلي المياه التي تتخلل الصخور. وحين سألت صديقي العالم النفسي والطبيب الكبير د. محمد شعلان: ما سر هذا التأمل للصخور والماء؟ أجابني محمد شعلان بأن هذا التأمل يهب الإنسان القدرة علي انتظام إيقاع القلب مع إيقاعات الحياة نفسها دون أن يسمح المتأمل لنفسه بأن تلتهمه الأطماع الصغيرة، ودون أن يسبح في أمواج مصنوعة من أشواك عدم الثقة بالغير، فببساطة عندما تقل احتياجاتك، لن تجد في أفكارك ما يدفعك إلي عدم الثقة في غيرك. ومن العجيب أن رئيس رهبان نجازاكي كان يختلف عن البوذي الذي يرأس ديرا صغيرا علي قمة جبل كاميوكا. وكان رئيس رهبان نجازاكي يحسب كل كلمة بحذر، ويقول: "أغلب القادمين من الشرق الأوسط عندهم قدرة عالية علي الشك في معتقدات الغير، ولذلك يجب الكلام معهم بحساب وسمعت الراهب البسيط والعجوز وهو يقول لرئيس رهبان نجازاكي "إن تكلمت من قلبك دون حسابات سياسية ستجد نفسك وقد انتصرت علي كل المحاذير، فالخروج من سجون المحاذير هو أهم خطوة لراحة البال. ومازلت أحاول تعلم خطوات الخروج من سجون المحاذير وأفشل أحياناً، وانتصر أحياناً.