لم أكن أتوقع أن تدهشني اليابان إلي هذه الدرجة ولكن ما ساعد علي وصول الدهشة إلي أقصي مدي لها هو البقاء في بانكوك لمدة ست ساعات، حيث يبدو الناس هناك مسحرون بإله صامت يبحثون عنه بكل الجنون ويكرهونه وكأنه صانع الجحيم، إله اسمه الدولار. فالعيون تقوم بتزوير كل شيء، المشاعر والعواطف والحقائب وأدوات الزينة وحتي الطعام، فكل شيء مزور أو مقلد، لدرجة أني سألت أحدهم هل النساء عندكم كائنات من المطاط التي تقلد الكائن البشري؟ وهل الرجال عندكم مجرد تروس آدمية لا تتعلم إلا الحصول علي الدولار بأي طريقة؟. أجابني الرجل بهدوء ظاهر مختلف عن كهرباء أهل بانكوك "يبدو أنك لم تزر نيويورك، إنها نفس الحالة من السعار، فالسعار مرض لا ينتقل من الكلاب إلي البشر فقط، ولكن ينتقل من البورصة إلي المشاعر الآدمية، وحين يعيش بلد علي سطح متراقص من شاشات الكمبيوتر، ويكون عاجزا عن عدالة توزيع الدخل بما يحمي الكرامة الإنسانية، فأنت في هذه الحالة إما مواطناً نيويوركي أو مواطناً من "بانكوك" دققت النظر جيدا فيمن كان يحدثني فاكتشفت أنه ليس من أهل تايلاند ولكنه من أهل اليابان. وما أن نزلت مطار ناريتا في طوكيو، حتي أيقنت أن هذا البلد لا يسمع أبدا نصائح البنك الدولي أو صندوق النقد، لأنه استفاد من التمويل الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية كي يبني حياته كلها من أول وجديد. وليس هناك في اليابان سوي العمل بنظام شديد وهدوء أشد وانتباه بلا حدود. سألني الراهب هاجاني -رأس الديانة البوذية والرجل الثاني من بعد الإمبراطور ومرتبته تفوق رئيس الوزراء -قال لي الرجل "ما الذي تريده وتحلم به للعلاقة بين مصر واليابان؟ "أجبته: أحلم أن تشارك اليابان في تعمير سيناء، فنحن في قلب العالم، وحين تنتقل التكنولوجيا والصناعة إلي سيناء سيصبح في متناول العالم". وهنا استدعي هاجامي راهبا يتقن العربية واليابانية كي يكتب ما أقول بالضبط وفرحت بتقدير هاجامي لأنه رمز ياباني لا تخطئه العين أبدا. وكان معي في الحوار صديقي الودود أستاذ الطب النفسي الشهير محمد شعلان، وهو من نال تصفيق ما يربو علي مائة ألف ياباني كانوا يحضرون حفل السلام في ذكري قنبلة هورشيما ونجازاكي قال لي صديقي محمد شعلان "لو لم يكن للرحلة فائدة سوي شرح رغبة المصريين في السلام، ورغبتهم في تطوير مستويات الحياة في الصحراء لكفانا هذا". تركنا اليابان عائدين إلي القاهرة وتوقفنا مرة ثانية في بانكوك، ولعنا معا الدولار هذا السيد الكريه. ومرت ثلاثة وعشرون عاما علي تلك الزيارة، ولكن شوارع القاهرة ازدحمت بنفس ملامح سكان بانكوك، ولم نصل بعد إلي هدوء وانتباه ودقة أهل طوكيو -ومن المؤكد أن كل واحد فينا يعرف لماذا لم يحدث ذلك.