قانون الإيجار القديم .. جلسات استماع للملاك والمستأجرين يومي الأحد والاثنين (تفاصيل)    تشكيل باريس سان جيرمان المتوقع أمام ارسنال في إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    تحذير شديد بشأن حالة الطقس .. استعدوا لموجة ساخنة ذروتها 3 أيام (تفاصيل)    قرار من التعليم بشأن إلغاء الفترة المسائية في المدارس الابتدائية بحلول 2026 (تفاصيل)    بتغريدة وقائمة، كيف احتفى رونالدو باستدعاء نجله لمنتخب البرتغال (صور)    قبل جولته بالشرق الأوسط، ترامب يحسم موقفه من زيارة إسرائيل    استشهاد 25 فلسطينيا في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    سعر الذهب في مصر اليوم الأربعاء 7-5-2025 مع بداية التعاملات    موعد مباراة تونس والمغرب في كأس أمم إفريقيا تحت 20 سنة    مباراة برشلونة وإنتر تدخل التاريخ.. ورافينيا يعادل رونالدو    تصعيد خطير بين الهند وباكستان... خبراء ل "الفجر": تحذيرات من مواجهة نووية ونداءات لتحرك دولي عاجل    ردود الفعل العالمية على اندلاع الحرب بين الهند وباكستان    تحرير 30 محضرًا في حملة تموينية على محطات الوقود ومستودعات الغاز بدمياط    كندة علوش تروي تجربتها مع السرطان وتوجه نصائح مؤثرة للسيدات    فيديو خطف طفل داخل «توك توك» يشعل السوشيال ميديا    إريك جارسيا يلمح لتكرار "الجدل التحكيمي" في مواجهة إنتر: نعرف ما حدث مع هذا الحكم من قبل    مشاهد توثق اللحظات الأولى لقصف الهند منشآت عسكرية باكستانية في كشمير    مسئولون أمنيون باكستانيون: الهند أطلقت صواريخ عبر الحدود في 3 مواقع    متحدث الأوقاف": لا خلاف مع الأزهر بشأن قانون تنظيم الفتوى    عاجل.. الذهب يقفز في مصر 185 جنيهًا بسبب التوترات الجيوسياسية    شريف عامر: الإفراج عن طلاب مصريين محتجزين بقرغيزستان    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    "اصطفاف معدات مياه الفيوم" ضمن التدريب العملي «صقر 149» لمجابهة الأزمات.. صور    «تحديد المصير».. مواجهات نارية للباحثين عن النجاة في دوري المحترفين    موعد مباريات اليوم الأربعاء 7 مايو 2025.. إنفوجراف    سيد عبد الحفيظ يتوقع قرار لجنة التظلمات بشأن مباراة القمة.. ورد مثير من أحمد سليمان    د.حماد عبدالله يكتب: أهمية الطرق الموازية وخطورتها أيضًا!!    الذكرى ال 80 ليوم النصر في ندوة لمركز الحوار.. صور    موعد إجازة مولد النبوي الشريف 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    «كل يوم مادة لمدة أسبوع».. جدول امتحانات الصف الأول الثانوي 2025 بمحافظة الجيزة    حبس المتهمين بخطف شخص بالزاوية الحمراء    السيطرة على حريق توك توك أعلى محور عمرو بن العاص بالجيزة    قرار هام في واقعة التعدي على نجل حسام عاشور    ضبط المتهمين بالنصب على ذو الهمم منتحلين صفة خدمة العملاء    المؤتمر العاشر ل"المرأة العربية" يختتم أعماله بإعلان رؤية موحدة لحماية النساء من العنف السيبراني    "ماما إزاي".. والدة رنا رئيس تثير الجدل بسبب جمالها    مهرجان المركز الكاثوليكي.. الواقع حاضر وكذلك السينما    مُعلق على مشنقة.. العثور على جثة شاب بمساكن اللاسلكي في بورسعيد    ألم الفك عند الاستيقاظ.. قد يكوت مؤشر على هذه الحالة    استشاري يكشف أفضل نوع أوانٍ للمقبلين على الزواج ويعدد مخاطر الألومنيوم    الجيش الباكستاني: ردّنا على الهند قيد التحضير وسيكون حازمًا وشاملًا    مكسب مالي غير متوقع لكن احترس.. حظ برج الدلو اليوم 7 مايو    3 أبراج «أعصابهم حديد».. هادئون جدًا يتصرفون كالقادة ويتحملون الضغوط كالجبال    بدون مكياج.. هدى المفتي تتألق في أحدث ظهور (صور)    نشرة التوك شو| الرقابة المالية تحذر من "مستريح الذهب".. والحكومة تعد بمراعاة الجميع في قانون الإيجار القديم    كندة علوش: الأمومة جعلتني نسخة جديدة.. وتعلمت الصبر والنظر للحياة بعين مختلفة    الهند: أظهرنا قدرا كبيرا من ضبط النفس في انتقاء الأهداف في باكستان    من هو الدكتور ممدوح الدماطي المشرف على متحف قصر الزعفران؟    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    أطباء مستشفى دسوق العام يجرون جراحة ناجحة لإنقاذ حداد من سيخ حديدي    طريقة عمل الرز بلبن، ألذ وأرخص تحلية    ارمِ.. اذبح.. احلق.. طف.. أفعال لا غنى عنها يوم النحر    أمين الفتوي يحرم الزواج للرجل أو المرأة في بعض الحالات .. تعرف عليها    نائب رئيس جامعة الأزهر: الشريعة الإسلامية لم تأتِ لتكليف الناس بما لا يطيقون    وزير الأوقاف: المسلمون والمسيحيون في مصر تجمعهم أواصر قوية على أساس من الوحدة الوطنية    «النهارده كام هجري؟».. تعرف على تاريخ اليوم في التقويم الهجري والميلادي    جدول امتحانات الصف الثاني الثانوي 2025 في محافظة البحيرة الترم الثاني 2025    وكيل الأزهر: على الشباب معرفة طبيعة العدو الصهيوني العدوانية والعنصرية والتوسعية والاستعمارية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اعترافات على شاطئ الارتواء العاطفى
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 09 - 2015

يجتاحنا الحب فى لحظة من العمر كفيضان قاس فلا نجرؤ على مقاومته. وينحسر عنا الحب فى لحظة أخرى من العمر فتصير أيامنا كسنابل القمح المحترقة من فرط العطش.
وبين الجفاف والفيضان حوار دائم لا ينتهى.
فإذا كان الجفاف يدمر الروح، فالفيضان الكاسح يغرقها.
وكلاهما الجفاف والفيضان ينسب لنفسه مهمة التطبيق العملى لقول أحد الصوفية «فى العشق الصافى عليك أن تكون عارماً واضحاً مندفعاً وكأنك النهر أو النهار. ولا يليق بك أن ترتدى فى العشق قناع النفاق المزيف».
وهكذا نعرف أن الفيضان العاطفى لا يستأذن قبل أن ينهمر فى نهر العمر.
وهكذا نعرف أن الجفاف العاطفى لا يستأذن قبل أن يلسع سنابل الأيام ويحرقها رماداً.
ويا ويل من يأتيه جفاف الإحساس فى الشباب، وفيضان الإحساس فى الشيخوخة. ؛فحياة مثل هذا الإنسان تخوض به نيران الرغبات والعجز فى ربيع العمر، ثم يخوض نيران الوهم والرغبة فى خلق عالم آخر فى دنيا الشيخوخة.
ولنرقب الآن قصة هذا «الويل الصعب» قصة جفاف العجز فى الشباب ؛وفيضان الرغبة فى الكبر؛ وذوبان العمر فى دوامات الوهم الجميل.
......................
الخديعة الأولى التى تزين لنا السير فى دنيا العشق، هى خديعة بسيطة وقديمة وتقول لكل منا:
أنت العاشق الأول فى هذا الكون، ولم يسبقك أحد إلى معرفة جمال هذا العشق.
ولأن الدنيا _ أثناء الحب _ تتلون بإيقاعات من السحر الشخصى جداً، فالإنسان لا يحاول إستكشاف أسرار تلك الخديعة. ولا يلتفت أحد إلى أن العشق موجود قبل أن يوجد الإنسان.
لكن العشق يطلب من الإنسان طلباً غاية فى الجمال والقسوة. والطلب المغموس في نار الإلحاح هو أن يتنفس الإنسان الهواء خارج قضبان الرتابة .
ولا أحد من نسل آدم يملك القدرة على الحياة كل الوقت خارج رتابة التعود فكل منا يولد على هذه الأرض وهو مقيد بقيود كثيرة غير مرئية تكبل خلايا المخ.
وعيون أي منا سجينة منذ لحظة الميلاد لمشاهد محددة.
قلب كل منا سجين انفعالات مرسومة من قبل.
الأيدى تتحرك فى نطاق محدد مسبقاً.
إن الكائن البشرى سجين حياته من قبل أن تبدأ هذه الحياة.
ورغم ذلك يصرخ أي منا الكائن البشرى صباح مساء «أنا حر.. أنا حر».
والحقيقة : أن أي منا هو سجين رحلة مرسومة من قبل. وأنه _ حتى فى العشق _ كائن محدود لا يملك الاختيار. وإلا فبماذا نفسر قول أحد العشاق لحبيبته:
أنا لا أعرف هل أنت جميلة أم لا، لأنى لا أقيسك بالنساء، لكنى أقيس النساء بك.
وبماذا نفسر قول العاشق لحبيبته قولاً منقولاً عن شاعر عربى مجهول:
يوم القيامة سأقول لحظة الحساب: «يا رب إن حبيبتى هى كل أقوالى أمامك، لأنها كل حياتى بما فيها من صواب وخطأ».
ويثق هذا العاشق فى صدق قوله، فبشرته تتنادى بالشوق إلى بشرة من يحب، و كل خلية من خلايا لحمه الحى تمتلئ بكهرباء تتآلف بسرعة لا نهائية مع الكهرباء التى توجد فى خلايا محبوبته. وكل منهما مدفوع _ قهراً وبجاذبية خلابة _ إلى أحضان الآخر بقوة الحب.
وكثير من عشاق هذا الزمان تدهمهم المفاجأة ، ليصير أي منهم منزوعا _ قهراً _ من أحضان الآخر بقوة الظروف ، تلك الظروف التي ليس لها نموذج سبق إعداده ً لنجاح أى قصة حب، أو فشل قصة حب.
......................
وفى الشرق غالبا ما يقول المجتمع لأى شريك فى قصة حب:
الرضوخ هو البوابة الوحيدة التى يمكنك أن تمر من خلالها إلى امتلاك حياة مع من تحب. ولابد أن تعرف أن رضوخك يغيرك، ويحولك من كائن بشرى إلى لعبة مفرغة المعنى. تنطق كما يطلب منك الآخرون. تصمت حسب أوامر من هم أعلى منك. لابد أن تكيف إحساسك لتكون فى متناول أوامر الجميع. ويجب أن تعرف كيف تتحول فى كثير من لحظات العمر إلى مجرد قطعة قماش بالية يمسح بها كل من يريد خطاياه أو خطايا غيره ؛ أو يمسح بها سخافات الواقع أو ركاكة الأيام. وعندما يصبح العاشق مجرد قطعة قماش بالية لابد له أن يعرف أن هناك من سيمسك بهذا القماش المتهرئ ويصنع منه كيساً يجمع فيه أخطاء الآخرين ويلصقها بالعاشق ، سيسمع قرار الظروف كأنه حكم قدري يقول «باختصار: أنت لن تكون أنت».
ويدافع الإنسان عن حيويته فيتمرد. وما إن يتمرد حتى ينكسر ويسمع صوت البعض ضاحكاً ساخرا:
إنك لم تعرف كيف تكون مسئولاً عن الرضوخ لأوامرى. أنت تتمرد لأنك تريد أن تعيش على تلقائيتك وتهمس لمن تحب بكلمات الرغبة والزهو والبراءة وتلون معها العالم بأضواء ساحرة. ونحن الذين نحتل موقع السيادة في المجتمع لن نسمح لك بذلك. لابد أن تتلقى الآن عذاب العشاق الذين لا يعرفون الرضوخ ولن تصل أبداً إلى شاطئ الارتواء العاطفى.
......................
ولا يملك العاشق المتمرد إلا ثروة من خيال.
وفى الخيال يمكن للعاشق المتمرد أن يمتطى صهوة حصان له هيئة القوة، لكنه مصنوع من قطرات بخار السحاب.
ومهما بلغ العمر بالعاشق المتمرد ؛ فهو لا يمل من امتطاء حصان الوهم اللامسئول؛ ولا يمل من السفر إلى مدن خرافية فسيحة الأرجاء. ويفعل فى الخيال كل ما كان يحلم به. ويعانق من يحب عناقاً سرمدياً لا ينتهى. ويتشاجر معها على أدق التفاصيل التى لا يعرف كيف يعبر عنها فى يومه العادى.
يفعل العاشق المتمرد كل ذلك فى رحلات الخيال رغم أنه فى الواقع اليومى يلعب على مسرح الحياة اليومية لعبة الرجل الرزين الذى لا يهتم بفشل عاطفى سابق. وتنهمر دقائق عمره في لعبة الاندفاع دوماً من نجاح اجتماعى إلى نجاح اجتماعى آخر. ويعلم يقينا أنه هارب بالنجاح الاجتماعى من الالتفات إلى آهات القلب الشرسة التى تبكى بدموع كاوية أيام الحب الجميل.
يحاول العاشق المتمرد ألا يلتفت إلى حقيقته ككائن معلق على صليب من الشوق. وألا ينظر بجانبه حتى لا يرى حبيبته معلقة هي الأخرى على صليب آخر من الشوق. وكل منهما يحاول النسيان بالإنغماس في العمل ،
إنه يهرب بالعمل، لكن ما إن يلتقط أنفاس الراحة حتى يمتطى صهوة حصان السحاب ويرحل إلى مدينة هشة مصنوعة من أزهار الفل والياسمين. وللمدينة الهشة ذات العطر شاطئ تتماوج فيه مياه الذكريات.
ويجلس العاشق على هذا الشاطئ ويشرب خمر أحلام يقظة هائلة. فماذا يقول العاشق لنفسه؟‍‍‍‍‍!
......................
يقول العاشق لنفسه:
هكذا تتفتح أمام عيونى أحلام يقظتى، فأرى فيما يرى المتيقظ الحالم أن حبيبتى تأتى من أيام الربيع القديم لترتشف كل وجودى بعينها ؛ فأذيبها فى أحضانى لتهديني أبناء لهم وجوه الإشراق.
لكن دموعا جافة تهجم على عيون العاشق كأنها الشوك فيلتفت إلى أن الحلم ينقشع وتمتد أصابع خشنة من أيدى الواقع لتقتلع من عيونه هذا الحلم. وتصفعه تلك الأيدى صفعات غير مرئية تهدر إحساسه بإنسانيته. ولا يجد مفراً من أن يدق أبواب مدينة أحلام اليقظة بعنف لعله يستعيد توازنه.
هنا أسأل أنا هذا العاشق: وهل تفتح لك مدينة أحلام اليقظة أبوابها؟
يضحك العاشق ضحكات خشنة من جفاف أنفاسه المتوترة ليقول:
_نعم تفتح مدينة أحلام اليقظة أبوابها بعد أن تسحقنى آهات التوسل والابتهال، فأدلف إلى شوارع المدينة الهشة المصنوعة من أوراق الفل والياسمين، وأرى فيما يرى الحالم اليقظ أن هناك كوخاً على شاطئ تلك المدينة. تقف ببابه من أحب وهى تقول بصوت من الموسيقى اللينة الهامسة «لأني أحبك ولأنك
صياد كل أسماك البحار. لابد أن تأتى لى ببعض من الأسماك لنأكل. فلا يصح أن تترك الحبيبة بلا طعام». وأسير بالخطوات الواثقة فوق مياه هذا البحر وأنادى: «أريد بعض السمك طعاماً لى ولمن أحب». وتخرج كل أسماك البحار فى طوابير هاتفة «لبيك أيها العاشق». وأنادى حبيبتى لأقول لها بفخر «يمكنك أن تشوى لنا هذه الأسماك لنأكل من خير هذا البحر».
وأفاجأ أنا السائل بأن العاشق يتكوم على الأرض مرتجفاً :فأسأله ماذا بك؟
يقول العاشق: لقد أزعجنى أن أصل بالحوار معك إلى هذه النقطة من أحاسيس دهمتني ؛ أنت لا تتصور ماذا فعلت بى حبيبتى.
قلت متسائلاً: ألم تشو لك السمك الطازج؟
قال العاشق حزيناً ذلك الحزن الخشن: فاجأتنى حبيبتى بأن لها أصابع مسحورة أرادت أن تستخرج بها هيكلى العظمى من لحمى لتصنعه وقوداً لشواء طعام العشق.
أتساءل: وهل تركتها تفعل ذلك؟
قال العاشق: لقد ترددت قليلاً. وفكرت أن أترك لها عظامى. لكنى اندفعت – بقوة مجهولة – لأخرج أصابع حبيبتى من لحمى.
قلت للعاشق: هذا حق من حقوقك.
بكى العاشق: أنت لا تعرف ماذا حدث من بعد ذلك، لقد انقشع الحلم كله ورأيت نفسى مطروداً خارج المدينة الهشة، مدينة أحلام اليقظة وذابت من خيالى ملامح حبيبتى. ولم يبق فى الذاكرة إلا زهرة فل تحتضن زهرة ياسمين وتذكرنى الزهرتان بأنى كائن وحيد.
قلت للعاشق: وماذا فعلت بعد طردك من تلك المدينة؟
قال العاشق: صار اسمى فى إحساسى لا يدل على كائن حى. وصرت أنظر إلى نفسى كمجرد قالب متحرك فى دنيا من الملل.
قلت للعاشق: وكيف تقاوم الملل.
قال العاشق: أنا لا أكف عن الدق على أبواب مدينة أحلام اليقظة.
قلت: وهل انفتح لك الباب؟
قال: لم يكن أمام إصرارى إلا أن ينفتح الباب. وانفتح باب مدينة أحلام اليقظة فى صحوة غروب. وامتدت عيونى لترقب حصاناً يجر عربة حنطور وهو غاية فى الفرح. واندهشت من هذا الحصان الفرحان.. وتضاعفت دهشتى عندما غمز لى الحصان بعيونه ليلفتنى إلى من يركب فى عربته ويتستر بمظلة الحنطور. دققت النظر فى داخل عربة الحنطور فرأيت أمراً غاية فى الدهشة. رأيت نفسى أعانق حبيبتى. وسائق الحنطور يضرب بالكرباج عيون الناس التى تحاول التلصص بالسعادة ويصرخ فيهم: «مادمتم أيها الوحوش البلهاء لا تقيمون منازل للعشق الحلال والزواج، ومادمتم تحسبون كل شئ بالنقود وتتجاهلون حساب نداءات العشق التي توهج على الوجوه، مادمتم كذلك فأنا سأقاومكم وسأجعل من حنطورى فندقاً متحركاً للعشق المؤقت».
ومضى قائد الحنطور يضرب عيون الناس بالكرباج، لكن الكرباج أصاب عيونى التى تلصصت لأرى نفسى.
هنا صرت لا أرى شيئاً. وأحسست بلون من الألم الممتزج بالسعادة. فالمشهد الأخير الذى أغلقت عليه عيونى هو مشهد توهج شمس قبلاتى لحبيبتى داخل ذلك الحنطور.
وأقول للعاشق: ولكن كيف عالجت عيونك؟
تنهد ليقول: أبداً. كل الذى حدث أن سمعت غناء صوت عبد الحليم حافظ «الحلوة.. الحلوة عينيك يا حبيبتى» وتسللت من الأغنية أصابع حبيبتى المسحورة لتفتح لى عيونى فصرت أرى من جديد، وكانت المفاجأة التالية أن كلمات الأغنية تحولت إلى شجرة وارفة الظلال. ورأيت نفسى عصفوراً وحبيبتى عصفورة. ولنا أكثر من عش. وأحاطتنا العصافير لتقيم لنا زفافاً خاصاً. فنحن أول اثنين من البشر يتم تحويلهما إلى عصافير هرباً من أزمة المساكن. وامتد ذراعاى كأنهما أجنحة تحضن حبيبتى. لكن طلقة من بندقية أصابتنا معاً. لنقع على الأرض.
انزعجت لأقول للعاشق: وهل عرفت من ذلك الأحمق الذى أطلق عليكما النار؟
قال العاشق: نعم؟ إنه يوم تجسد فى طلقة بندقية واسم ذلك اليوم.. الخامس من يونيه من عام 1967.
أقول للعاشق: وماذا فعلت من بعد ذلك؟
قال العاشق: اصمت أنت واسمع إلى النهاية.. لقد أخذت حبيبتى من يدها إلى المقهى الذى أثرثر فيه مع نفسى لعله مقهى ريش بشارع طلعت حرب. وقدم لنا الجرسون «فلفل» أطباق الأرز بالكبد والكلاوى. ودار بينى وبين حبيبتى هذا الحوار.
قلت لها: من أنت بالضبط؟
قالت: أنا المعشوقة الذائبة شوقاً وأنت العاشق الأبدى الباقى، وحبنا هو الجنة واللعنة فى آن واحد. قلت: أنا دائم الشوق إلى جنتك لأنى أعرف كل أسرارها، وأجيد استخراج كنوزها، لكنى لا أرى فى يومى إلا واقع اللعنة.
وغرق العاشق فى صمت. أردت أن أجعله يفيق.
فقال: أنت لا تعلم ما حدث لنا فى تلك اللحظة. إنه الهول. لقد تحول موقع المقهى إلى صحراء. وقامت ريح عاصفة. وتحولت رمال العاصفة إلى أحجار. والأحجار ترجمنا من كل ناحية. صرخت حبيبتى فى وجهى «أنت لا تحمينى من الأحجار جيداً».
قلت: أنا أفعل كل ما فى طاقتى.
قالت: أنا لعنة تتحول فى أحضانك إلى جنة، لكن لابد أن أبتعد عنك.
قلت: تذكرى أننا قطعنا وعداً هائلاً على أنفسنا وهو أن نجعل هذا العالم مكاناً صالحاً لإقامة كل العشاق.
قالت ساخرة بتكبر عنيد: أنت لن تستطيع أن تغير من نفسك شيئاً. وكل الذى يتغير فيك هو بعض من حنانى إليك. وعندما أنزع عنك حنانى تصير كائناً لا معنى له.
قلت: ستندمين على ذلك مثل ندمى تماماً.
ونزعت حنانها عنى وما إن فعلت ذلك حتى سمعت بكاءها كنشيج طويل وهى تصرخ قائلة: «يا ويلى صرت أنا الإنسانة التى لا معنى لها». وحدث من بعد ذلك أن توقفت حبيبتى على بقعة من الأرض. وتلك البقعة تبدو كأنها قرص الكترونى يدور بسرعة رهيبة حول نفسه. وتحولت الأرض التى أقف عليها إلى بقعة ثانية تبدو أيضا كقرص الكترونى يدور بسرعة رهيبة حول نفسه وأدور معه بنفس السرعة. وكلما اقتربت منى الغيبوبة من فرط الدوار فأنا أحك جلدى بأظافرى فأشم رائحة عطرها تحت جلدى فأفيق؛ وأنظر إليها فى دوارها المتسارع فأجدها تقاوم الغيبوبة وتحك جلدها لتشم عطرى تحت جلدها، فتفيق. تسألنى حبيبتى: لماذا لا تتقدم لإنقاذى. أقول صارخاً: أنا لا أعرف كيف أنقذ نفسى.
وفجأة انفلت كل منا من دوامته وطرنا فىالهواء. سقطت هى بعيداً عنى. وسقطت بعيداً عنها. ظللت أرقب المكان الذى وقعت أنا فيه. فوجدته سرداباً آخره ضوء باهر. وتجسدت ملامح حبيبتى فى نهاية السرداب. دخلت السرداب الموحش. لكن السرداب يمتد ويمتد. وحبيبتى تقول بصوت ميكانيكى لا حياة فيه: «أراك سجيناً لا تعرف الطريق إلى حريتك».
أقول متعباً: حريتى تتحقق عندما أشم الهواء الخارج من أنفاسك. تقول باكية بكاء ميكانيكاً: أنا محكوم علىَّ بأن أتنفس هواء كل الأماكن إلا المكان الذى توجد أنت فيه. أقول حزيناً: إن سيقانى صارت ثقيلة كأنها من حديد صدئ. وأنت الآن وهم من لحم ودم. ولا أملك إلا أن أطلق عليك رصاصات الشوق الصافى. وأخرجت قلبى من بين ضلوعى لأجعله بندقية ممتلئة برصاصات أشواقى. لكن كل الرصاصات لا تصيبها. فأصرخ «إن شئت أتيت لى وإن شئت رحلت عنى». فتقول حبيبتى: «عندما أحضر إليك فإنى لا أجدك رغم أنك أمامى. وعندما تأتى لى فلن تجدنى رغم أنى أمامك.
ويقول كاتب السطور للعاشق:
- أمازلت تطلق الرصاص من بندقية قلبك.
قال العاشق:و ماذا أملك غير ذلك. لأنى لو لم أفعل لانتبهت إلى واقعى الصعب. فأنا لا أعرف هل أنا أعيش جفاف الإحساس أم فيضان المشاعر.
وتركت العاشق ليعيش اليوم – كل يوم – بساعاته المصنوعة من الويل الصعب الذى يذوب فى دوامات الوهم الجميل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.