أسعار الذهب في مصر اليوم السبت 6 ديسمبر 2025    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 6 ديسمبر 2025    أسعار الأسماك اليوم 6 ديسمبر.. «البلطي» يبدأ من 30 جنيهًا    أسعار الخضروات اليوم السبت 6-12-2025 في قنا    وزير الخارجية يؤكد دعم مصر الكامل للدور الهام الذي تضطلع به الوكالة الدولية للطاقة الذرية    مصر ترحب بتجديد ولاية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)    أخبار مصر: قصة واقعة الطفل زياد التي هزت بورسعيد، سيناريو هوليوودي في اختفاء فتاة الشرقية، تطبيق منظومة "مرور بلا أوراق"    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 6-12-2025 في محافظة قنا    مفاجأة طبية لدواء جديد يبطئ تطور مرض الزهايمر 8 سنوات    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في قضية رشوة الضرائب الكبرى    بعتيني ليه تشعل الساحة... تعاون عمرو مصطفى وزياد ظاظا يكتسح التريند ويهيمن على المشهد الغنائي    "قتل اختياري".. مسلسل يفتح جرحًا إنسانيًا عميقًا ويعود بقضية تهز الوجدان    استكمال محاكمة 32 متهما في قضية اللجان المالية بالتجمع.. اليوم    أولى جلسات محاكمة عصام صاصا فى مشاجرة ملهى ليلى.. اليوم    ميرتس يدعو لتقاسم أوروبي موحّد لمخاطر الأصول الروسية المجمدة    منتخب مصر الأول يستعد لكأس للأمم الإفريقية بالمغرب    منتخب «طولان» جاهز للإمارات في كأس العرب اليوم    رئيس وزراء الهند يعلن عن اتفاقية مع روسيا ومرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي    هل عادت سوريا إلى عصور الظلام، إلغاء حفل الموسيقار مالك جندلي في حمص يثير غضب السوريين    ليفربول يسعى لتصحيح مساره في الدوري الإنجليزي أمام ليدز يونايتد    «توخيل» يطمئن جماهير إنجلترا: جاهزون لمواجهة كرواتيا وغانا وبنما في المونديال    كشفتها الأجهزة الأمنيةl أساليب جديدة لغسيل الأموال عبر المنصات الرقمية    إجراءات صارمة بعد فيديو السخرية من مدرسة الإسكندرية    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى مدينة 6 أكتوبر دون إصابات    «آخرساعة» تكشف المفاجأة.. أم كلثوم تعلمت الإنجليزية قبل وفاتها ب22 عامًا!    إعلام فلسطيني: طيران الاحتلال الإسرائيلي يستهدف شرق مدينة غزة    مصر والإمارات على موعد مع الإثارة في كأس العرب 2025    حفل توقيع كتاب «حوارات.. 13 سنة في رحلة مع البابا تواضروس» بالمقر البابوي    عمرو مصطفى وظاظا يحتلان المرتبة الأولى في تريند يوتيوب أسبوعًا كاملًا    «تصدير البيض» يفتح باب الأمل لمربي الدواجن    رغم العزوف والرفض السلبي .. "وطنية الانتخابات" تخلي مسؤوليتها وعصابة الانقلاب تحملها للشعب    بدائل طبيعية للمكمّلات.. أطعمة تمنحك كل الفائدة    قائمة أطعمة تعزز صحتك بأوميجا 3    شاهد لحظة نقل الطفل المتوفى بمرسى المعديات فى بورسعيد.. فيديو    خبير اقتصادي: الغاز الإسرائيلي أرخص من القطري بضعفين.. وزيادة الكهرباء قادمة لا محالة    منافس مصر – لاعب بلجيكا السابق: موسم صلاح أقل نجاحا.. ومجموعتنا من الأسهل    قائمة بيراميدز - عودة الشناوي أمام بتروجت في الدوري    منافس مصر - مدافع نيوزيلندا: مراقبة صلاح تحد رائع لي ومتحمس لمواجهته    رويترز: تبادل إطلاق نار كثيف بين باكستان وأفغانستان في منطقة حدودية    النائب عادل زيدان: التسهيلات الضريبية تدعم الزراعة وتزيد قدرة المنتج المصري على المنافسة    كندا ترفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب    عالم مصريات ل«العاشرة»: اكتشاف أختام مصرية قديمة فى دبى يؤكد وجود علاقات تجارية    أحمد مجاهد ل العاشرة: شعار معرض الكتاب دعوة للقراءة ونجيب محفوظ شخصية العام    "بيطري الشرقية" يكشف تفاصيل جديدة عن "تماسيح الزوامل" وسبب ظهورها المفاجئ    نتنياهو بعد غزة: محاولات السيطرة على استخبارات إسرائيل وسط أزمة سياسية وأمنية    تفاصيل مثيرة في قضية "سيدز"| محامي الضحايا يكشف ما أخفته التسجيلات المحذوفة    وفاة عمة الفنان أمير المصري    أزمة أم مجرد ضجة!، مسئول بيطري يكشف خطورة ظهور تماسيح بمصرف الزوامل في الشرقية    الصحة تفحص أكثر من 7 ملايين طالب ضمن مبادرة الرئيس للكشف المبكر عن الأنيميا والسمنة والتقزم بالمدارس    القاصد يهنئ محافظ المنوفية بانضمام شبين الكوم لشبكة اليونسكو لمدن التعلم 2025    دعاء الرزق وأثره في تفريج الهم وتوسيع الأبواب المغلقة وزيادة البركة في الحياة    وزارة الداخلية تحتفل باليوم العالمي لذوى الإعاقة وتوزع كراسى متحركة (فيديو وصور)    عضو الجمعية المصرية للحساسية والمناعة يوضح أسباب تفشّي العدوى في الشتاء    كيف أتجاوز شعور الخنق والكوابيس؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    «الطفولة والأمومة» يضيء مبناه باللون البرتقالي ضمن حملة «16يوما» لمناهضة العنف ضد المرأة والفتاة    لتعزيز التعاون الكنسي.. البابا تواضروس يجتمع بأساقفة الإيبارشيات ورؤساء الأديرة    كيف تُحسب الزكاة على الشهادات المُودَعة بالبنك؟    ننشر آداب وسنن يفضل الالتزام بها يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اعترافات على شاطئ الارتواء العاطفى
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 09 - 2015

يجتاحنا الحب فى لحظة من العمر كفيضان قاس فلا نجرؤ على مقاومته. وينحسر عنا الحب فى لحظة أخرى من العمر فتصير أيامنا كسنابل القمح المحترقة من فرط العطش.
وبين الجفاف والفيضان حوار دائم لا ينتهى.
فإذا كان الجفاف يدمر الروح، فالفيضان الكاسح يغرقها.
وكلاهما الجفاف والفيضان ينسب لنفسه مهمة التطبيق العملى لقول أحد الصوفية «فى العشق الصافى عليك أن تكون عارماً واضحاً مندفعاً وكأنك النهر أو النهار. ولا يليق بك أن ترتدى فى العشق قناع النفاق المزيف».
وهكذا نعرف أن الفيضان العاطفى لا يستأذن قبل أن ينهمر فى نهر العمر.
وهكذا نعرف أن الجفاف العاطفى لا يستأذن قبل أن يلسع سنابل الأيام ويحرقها رماداً.
ويا ويل من يأتيه جفاف الإحساس فى الشباب، وفيضان الإحساس فى الشيخوخة. ؛فحياة مثل هذا الإنسان تخوض به نيران الرغبات والعجز فى ربيع العمر، ثم يخوض نيران الوهم والرغبة فى خلق عالم آخر فى دنيا الشيخوخة.
ولنرقب الآن قصة هذا «الويل الصعب» قصة جفاف العجز فى الشباب ؛وفيضان الرغبة فى الكبر؛ وذوبان العمر فى دوامات الوهم الجميل.
......................
الخديعة الأولى التى تزين لنا السير فى دنيا العشق، هى خديعة بسيطة وقديمة وتقول لكل منا:
أنت العاشق الأول فى هذا الكون، ولم يسبقك أحد إلى معرفة جمال هذا العشق.
ولأن الدنيا _ أثناء الحب _ تتلون بإيقاعات من السحر الشخصى جداً، فالإنسان لا يحاول إستكشاف أسرار تلك الخديعة. ولا يلتفت أحد إلى أن العشق موجود قبل أن يوجد الإنسان.
لكن العشق يطلب من الإنسان طلباً غاية فى الجمال والقسوة. والطلب المغموس في نار الإلحاح هو أن يتنفس الإنسان الهواء خارج قضبان الرتابة .
ولا أحد من نسل آدم يملك القدرة على الحياة كل الوقت خارج رتابة التعود فكل منا يولد على هذه الأرض وهو مقيد بقيود كثيرة غير مرئية تكبل خلايا المخ.
وعيون أي منا سجينة منذ لحظة الميلاد لمشاهد محددة.
قلب كل منا سجين انفعالات مرسومة من قبل.
الأيدى تتحرك فى نطاق محدد مسبقاً.
إن الكائن البشرى سجين حياته من قبل أن تبدأ هذه الحياة.
ورغم ذلك يصرخ أي منا الكائن البشرى صباح مساء «أنا حر.. أنا حر».
والحقيقة : أن أي منا هو سجين رحلة مرسومة من قبل. وأنه _ حتى فى العشق _ كائن محدود لا يملك الاختيار. وإلا فبماذا نفسر قول أحد العشاق لحبيبته:
أنا لا أعرف هل أنت جميلة أم لا، لأنى لا أقيسك بالنساء، لكنى أقيس النساء بك.
وبماذا نفسر قول العاشق لحبيبته قولاً منقولاً عن شاعر عربى مجهول:
يوم القيامة سأقول لحظة الحساب: «يا رب إن حبيبتى هى كل أقوالى أمامك، لأنها كل حياتى بما فيها من صواب وخطأ».
ويثق هذا العاشق فى صدق قوله، فبشرته تتنادى بالشوق إلى بشرة من يحب، و كل خلية من خلايا لحمه الحى تمتلئ بكهرباء تتآلف بسرعة لا نهائية مع الكهرباء التى توجد فى خلايا محبوبته. وكل منهما مدفوع _ قهراً وبجاذبية خلابة _ إلى أحضان الآخر بقوة الحب.
وكثير من عشاق هذا الزمان تدهمهم المفاجأة ، ليصير أي منهم منزوعا _ قهراً _ من أحضان الآخر بقوة الظروف ، تلك الظروف التي ليس لها نموذج سبق إعداده ً لنجاح أى قصة حب، أو فشل قصة حب.
......................
وفى الشرق غالبا ما يقول المجتمع لأى شريك فى قصة حب:
الرضوخ هو البوابة الوحيدة التى يمكنك أن تمر من خلالها إلى امتلاك حياة مع من تحب. ولابد أن تعرف أن رضوخك يغيرك، ويحولك من كائن بشرى إلى لعبة مفرغة المعنى. تنطق كما يطلب منك الآخرون. تصمت حسب أوامر من هم أعلى منك. لابد أن تكيف إحساسك لتكون فى متناول أوامر الجميع. ويجب أن تعرف كيف تتحول فى كثير من لحظات العمر إلى مجرد قطعة قماش بالية يمسح بها كل من يريد خطاياه أو خطايا غيره ؛ أو يمسح بها سخافات الواقع أو ركاكة الأيام. وعندما يصبح العاشق مجرد قطعة قماش بالية لابد له أن يعرف أن هناك من سيمسك بهذا القماش المتهرئ ويصنع منه كيساً يجمع فيه أخطاء الآخرين ويلصقها بالعاشق ، سيسمع قرار الظروف كأنه حكم قدري يقول «باختصار: أنت لن تكون أنت».
ويدافع الإنسان عن حيويته فيتمرد. وما إن يتمرد حتى ينكسر ويسمع صوت البعض ضاحكاً ساخرا:
إنك لم تعرف كيف تكون مسئولاً عن الرضوخ لأوامرى. أنت تتمرد لأنك تريد أن تعيش على تلقائيتك وتهمس لمن تحب بكلمات الرغبة والزهو والبراءة وتلون معها العالم بأضواء ساحرة. ونحن الذين نحتل موقع السيادة في المجتمع لن نسمح لك بذلك. لابد أن تتلقى الآن عذاب العشاق الذين لا يعرفون الرضوخ ولن تصل أبداً إلى شاطئ الارتواء العاطفى.
......................
ولا يملك العاشق المتمرد إلا ثروة من خيال.
وفى الخيال يمكن للعاشق المتمرد أن يمتطى صهوة حصان له هيئة القوة، لكنه مصنوع من قطرات بخار السحاب.
ومهما بلغ العمر بالعاشق المتمرد ؛ فهو لا يمل من امتطاء حصان الوهم اللامسئول؛ ولا يمل من السفر إلى مدن خرافية فسيحة الأرجاء. ويفعل فى الخيال كل ما كان يحلم به. ويعانق من يحب عناقاً سرمدياً لا ينتهى. ويتشاجر معها على أدق التفاصيل التى لا يعرف كيف يعبر عنها فى يومه العادى.
يفعل العاشق المتمرد كل ذلك فى رحلات الخيال رغم أنه فى الواقع اليومى يلعب على مسرح الحياة اليومية لعبة الرجل الرزين الذى لا يهتم بفشل عاطفى سابق. وتنهمر دقائق عمره في لعبة الاندفاع دوماً من نجاح اجتماعى إلى نجاح اجتماعى آخر. ويعلم يقينا أنه هارب بالنجاح الاجتماعى من الالتفات إلى آهات القلب الشرسة التى تبكى بدموع كاوية أيام الحب الجميل.
يحاول العاشق المتمرد ألا يلتفت إلى حقيقته ككائن معلق على صليب من الشوق. وألا ينظر بجانبه حتى لا يرى حبيبته معلقة هي الأخرى على صليب آخر من الشوق. وكل منهما يحاول النسيان بالإنغماس في العمل ،
إنه يهرب بالعمل، لكن ما إن يلتقط أنفاس الراحة حتى يمتطى صهوة حصان السحاب ويرحل إلى مدينة هشة مصنوعة من أزهار الفل والياسمين. وللمدينة الهشة ذات العطر شاطئ تتماوج فيه مياه الذكريات.
ويجلس العاشق على هذا الشاطئ ويشرب خمر أحلام يقظة هائلة. فماذا يقول العاشق لنفسه؟‍‍‍‍‍!
......................
يقول العاشق لنفسه:
هكذا تتفتح أمام عيونى أحلام يقظتى، فأرى فيما يرى المتيقظ الحالم أن حبيبتى تأتى من أيام الربيع القديم لترتشف كل وجودى بعينها ؛ فأذيبها فى أحضانى لتهديني أبناء لهم وجوه الإشراق.
لكن دموعا جافة تهجم على عيون العاشق كأنها الشوك فيلتفت إلى أن الحلم ينقشع وتمتد أصابع خشنة من أيدى الواقع لتقتلع من عيونه هذا الحلم. وتصفعه تلك الأيدى صفعات غير مرئية تهدر إحساسه بإنسانيته. ولا يجد مفراً من أن يدق أبواب مدينة أحلام اليقظة بعنف لعله يستعيد توازنه.
هنا أسأل أنا هذا العاشق: وهل تفتح لك مدينة أحلام اليقظة أبوابها؟
يضحك العاشق ضحكات خشنة من جفاف أنفاسه المتوترة ليقول:
_نعم تفتح مدينة أحلام اليقظة أبوابها بعد أن تسحقنى آهات التوسل والابتهال، فأدلف إلى شوارع المدينة الهشة المصنوعة من أوراق الفل والياسمين، وأرى فيما يرى الحالم اليقظ أن هناك كوخاً على شاطئ تلك المدينة. تقف ببابه من أحب وهى تقول بصوت من الموسيقى اللينة الهامسة «لأني أحبك ولأنك
صياد كل أسماك البحار. لابد أن تأتى لى ببعض من الأسماك لنأكل. فلا يصح أن تترك الحبيبة بلا طعام». وأسير بالخطوات الواثقة فوق مياه هذا البحر وأنادى: «أريد بعض السمك طعاماً لى ولمن أحب». وتخرج كل أسماك البحار فى طوابير هاتفة «لبيك أيها العاشق». وأنادى حبيبتى لأقول لها بفخر «يمكنك أن تشوى لنا هذه الأسماك لنأكل من خير هذا البحر».
وأفاجأ أنا السائل بأن العاشق يتكوم على الأرض مرتجفاً :فأسأله ماذا بك؟
يقول العاشق: لقد أزعجنى أن أصل بالحوار معك إلى هذه النقطة من أحاسيس دهمتني ؛ أنت لا تتصور ماذا فعلت بى حبيبتى.
قلت متسائلاً: ألم تشو لك السمك الطازج؟
قال العاشق حزيناً ذلك الحزن الخشن: فاجأتنى حبيبتى بأن لها أصابع مسحورة أرادت أن تستخرج بها هيكلى العظمى من لحمى لتصنعه وقوداً لشواء طعام العشق.
أتساءل: وهل تركتها تفعل ذلك؟
قال العاشق: لقد ترددت قليلاً. وفكرت أن أترك لها عظامى. لكنى اندفعت – بقوة مجهولة – لأخرج أصابع حبيبتى من لحمى.
قلت للعاشق: هذا حق من حقوقك.
بكى العاشق: أنت لا تعرف ماذا حدث من بعد ذلك، لقد انقشع الحلم كله ورأيت نفسى مطروداً خارج المدينة الهشة، مدينة أحلام اليقظة وذابت من خيالى ملامح حبيبتى. ولم يبق فى الذاكرة إلا زهرة فل تحتضن زهرة ياسمين وتذكرنى الزهرتان بأنى كائن وحيد.
قلت للعاشق: وماذا فعلت بعد طردك من تلك المدينة؟
قال العاشق: صار اسمى فى إحساسى لا يدل على كائن حى. وصرت أنظر إلى نفسى كمجرد قالب متحرك فى دنيا من الملل.
قلت للعاشق: وكيف تقاوم الملل.
قال العاشق: أنا لا أكف عن الدق على أبواب مدينة أحلام اليقظة.
قلت: وهل انفتح لك الباب؟
قال: لم يكن أمام إصرارى إلا أن ينفتح الباب. وانفتح باب مدينة أحلام اليقظة فى صحوة غروب. وامتدت عيونى لترقب حصاناً يجر عربة حنطور وهو غاية فى الفرح. واندهشت من هذا الحصان الفرحان.. وتضاعفت دهشتى عندما غمز لى الحصان بعيونه ليلفتنى إلى من يركب فى عربته ويتستر بمظلة الحنطور. دققت النظر فى داخل عربة الحنطور فرأيت أمراً غاية فى الدهشة. رأيت نفسى أعانق حبيبتى. وسائق الحنطور يضرب بالكرباج عيون الناس التى تحاول التلصص بالسعادة ويصرخ فيهم: «مادمتم أيها الوحوش البلهاء لا تقيمون منازل للعشق الحلال والزواج، ومادمتم تحسبون كل شئ بالنقود وتتجاهلون حساب نداءات العشق التي توهج على الوجوه، مادمتم كذلك فأنا سأقاومكم وسأجعل من حنطورى فندقاً متحركاً للعشق المؤقت».
ومضى قائد الحنطور يضرب عيون الناس بالكرباج، لكن الكرباج أصاب عيونى التى تلصصت لأرى نفسى.
هنا صرت لا أرى شيئاً. وأحسست بلون من الألم الممتزج بالسعادة. فالمشهد الأخير الذى أغلقت عليه عيونى هو مشهد توهج شمس قبلاتى لحبيبتى داخل ذلك الحنطور.
وأقول للعاشق: ولكن كيف عالجت عيونك؟
تنهد ليقول: أبداً. كل الذى حدث أن سمعت غناء صوت عبد الحليم حافظ «الحلوة.. الحلوة عينيك يا حبيبتى» وتسللت من الأغنية أصابع حبيبتى المسحورة لتفتح لى عيونى فصرت أرى من جديد، وكانت المفاجأة التالية أن كلمات الأغنية تحولت إلى شجرة وارفة الظلال. ورأيت نفسى عصفوراً وحبيبتى عصفورة. ولنا أكثر من عش. وأحاطتنا العصافير لتقيم لنا زفافاً خاصاً. فنحن أول اثنين من البشر يتم تحويلهما إلى عصافير هرباً من أزمة المساكن. وامتد ذراعاى كأنهما أجنحة تحضن حبيبتى. لكن طلقة من بندقية أصابتنا معاً. لنقع على الأرض.
انزعجت لأقول للعاشق: وهل عرفت من ذلك الأحمق الذى أطلق عليكما النار؟
قال العاشق: نعم؟ إنه يوم تجسد فى طلقة بندقية واسم ذلك اليوم.. الخامس من يونيه من عام 1967.
أقول للعاشق: وماذا فعلت من بعد ذلك؟
قال العاشق: اصمت أنت واسمع إلى النهاية.. لقد أخذت حبيبتى من يدها إلى المقهى الذى أثرثر فيه مع نفسى لعله مقهى ريش بشارع طلعت حرب. وقدم لنا الجرسون «فلفل» أطباق الأرز بالكبد والكلاوى. ودار بينى وبين حبيبتى هذا الحوار.
قلت لها: من أنت بالضبط؟
قالت: أنا المعشوقة الذائبة شوقاً وأنت العاشق الأبدى الباقى، وحبنا هو الجنة واللعنة فى آن واحد. قلت: أنا دائم الشوق إلى جنتك لأنى أعرف كل أسرارها، وأجيد استخراج كنوزها، لكنى لا أرى فى يومى إلا واقع اللعنة.
وغرق العاشق فى صمت. أردت أن أجعله يفيق.
فقال: أنت لا تعلم ما حدث لنا فى تلك اللحظة. إنه الهول. لقد تحول موقع المقهى إلى صحراء. وقامت ريح عاصفة. وتحولت رمال العاصفة إلى أحجار. والأحجار ترجمنا من كل ناحية. صرخت حبيبتى فى وجهى «أنت لا تحمينى من الأحجار جيداً».
قلت: أنا أفعل كل ما فى طاقتى.
قالت: أنا لعنة تتحول فى أحضانك إلى جنة، لكن لابد أن أبتعد عنك.
قلت: تذكرى أننا قطعنا وعداً هائلاً على أنفسنا وهو أن نجعل هذا العالم مكاناً صالحاً لإقامة كل العشاق.
قالت ساخرة بتكبر عنيد: أنت لن تستطيع أن تغير من نفسك شيئاً. وكل الذى يتغير فيك هو بعض من حنانى إليك. وعندما أنزع عنك حنانى تصير كائناً لا معنى له.
قلت: ستندمين على ذلك مثل ندمى تماماً.
ونزعت حنانها عنى وما إن فعلت ذلك حتى سمعت بكاءها كنشيج طويل وهى تصرخ قائلة: «يا ويلى صرت أنا الإنسانة التى لا معنى لها». وحدث من بعد ذلك أن توقفت حبيبتى على بقعة من الأرض. وتلك البقعة تبدو كأنها قرص الكترونى يدور بسرعة رهيبة حول نفسه. وتحولت الأرض التى أقف عليها إلى بقعة ثانية تبدو أيضا كقرص الكترونى يدور بسرعة رهيبة حول نفسه وأدور معه بنفس السرعة. وكلما اقتربت منى الغيبوبة من فرط الدوار فأنا أحك جلدى بأظافرى فأشم رائحة عطرها تحت جلدى فأفيق؛ وأنظر إليها فى دوارها المتسارع فأجدها تقاوم الغيبوبة وتحك جلدها لتشم عطرى تحت جلدها، فتفيق. تسألنى حبيبتى: لماذا لا تتقدم لإنقاذى. أقول صارخاً: أنا لا أعرف كيف أنقذ نفسى.
وفجأة انفلت كل منا من دوامته وطرنا فىالهواء. سقطت هى بعيداً عنى. وسقطت بعيداً عنها. ظللت أرقب المكان الذى وقعت أنا فيه. فوجدته سرداباً آخره ضوء باهر. وتجسدت ملامح حبيبتى فى نهاية السرداب. دخلت السرداب الموحش. لكن السرداب يمتد ويمتد. وحبيبتى تقول بصوت ميكانيكى لا حياة فيه: «أراك سجيناً لا تعرف الطريق إلى حريتك».
أقول متعباً: حريتى تتحقق عندما أشم الهواء الخارج من أنفاسك. تقول باكية بكاء ميكانيكاً: أنا محكوم علىَّ بأن أتنفس هواء كل الأماكن إلا المكان الذى توجد أنت فيه. أقول حزيناً: إن سيقانى صارت ثقيلة كأنها من حديد صدئ. وأنت الآن وهم من لحم ودم. ولا أملك إلا أن أطلق عليك رصاصات الشوق الصافى. وأخرجت قلبى من بين ضلوعى لأجعله بندقية ممتلئة برصاصات أشواقى. لكن كل الرصاصات لا تصيبها. فأصرخ «إن شئت أتيت لى وإن شئت رحلت عنى». فتقول حبيبتى: «عندما أحضر إليك فإنى لا أجدك رغم أنك أمامى. وعندما تأتى لى فلن تجدنى رغم أنى أمامك.
ويقول كاتب السطور للعاشق:
- أمازلت تطلق الرصاص من بندقية قلبك.
قال العاشق:و ماذا أملك غير ذلك. لأنى لو لم أفعل لانتبهت إلى واقعى الصعب. فأنا لا أعرف هل أنا أعيش جفاف الإحساس أم فيضان المشاعر.
وتركت العاشق ليعيش اليوم – كل يوم – بساعاته المصنوعة من الويل الصعب الذى يذوب فى دوامات الوهم الجميل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.