رئيس جامعة المنوفية يؤكد الاستعدادات لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    إسلام عفيفى: الدولة لم تراهن على المواطن إلا وكسبت.. والإعلام جسر للتواصل    مصرع شاب بطلقات نارية على يد زوج شقيقته في قنا    محافظ الدقهلية يبحث أسباب الهبوط الأرضي بجسر النيل بميت غمر| صور    بدون وسطاء أو سماسرة.. تفاصيل وخطوات التقديم في فرص العمل باليونان وقبرص    العاصمة الإدارية: تغطية 19% من احتياج الحي الحكومي بالطاقة الشمسية    برلماني: قرارات «العدل الدولية» وضعت الاحتلال في عزلة    مراسل القاهرة الإخبارية: الطائرات الحربية تقصف مدينة رفح الفلسطينية    الأهلي يتوج بدوري أبطال إفريقيا للمرة الثانية على التوالي    يوفنتوس يفوز على مونزا بثنائية في الدوري الإيطالي    لا شكاوى في أول أيام امتحانات الدبلومات الفنية بالقليوبية    رئيس «إسكان النواب»: حادث معدية أبوغالب نتيجة «إهمال جسيم» وتحتاج عقاب صارم    ارتفاع عدد ضحايا التنقيب عن الآثار بجبل نجع سعيد في قنا ل 3 أشخاص    إطلالة ملائكية ل هنا الزاهد بحفل ختام مهرجان كان (صور)    مصدر مطلع: عرض صفقة التبادل الجديد المقدم من رئيس الموساد يتضمن حلولا ممكنة    شكرًا للرئيس.. الإعلام حقلة "وصل" بين التنمية والمصريين    سلوى عثمان تنهمر في البكاء: لحظة بشعة إنك تشوفي باباكي وهو بيموت    شيماء سيف تكشف:" بحب الرقص الشرقي بس مش برقص قدام حد"    الأزهر للفتوى يوضح العبادات التي يستحب الإكثار منها في الأشهر الحرم    الأزهر للفتوى يوضح حُكم الأضحية وحِكمة تشريعها    خلال زيارته لجنوب سيناء.. وفد «صحة النواب» يتفقد أول مستشفى خضراء صديقة للبيئة.. ويوصي بزيادة سيارات الإسعاف في وحدة طب أسرة وادى مندر    أصدقاء وجيران اللاعب أكرم توفيق يتوقعون نتيجة المباراة من مسقط رأسه.. فيديو    «الري»: إفريقيا تعاني من مخاطر المناخ وضعف البنية التحتية في قطاع المياه    أب يذب ح ابنته ويتخلص من جثتها على شريط قطار الفيوم    نتيجة الصف الرابع الابتدائي 2024 .. (الآن) على بوابة التعليم الأساسي    مصلحة الضرائب: نعمل على تدشين منصة لتقديم كافة الخدمات للمواطنين    بعد استخدام الشاباك صورته| شبانة: "مطلعش أقوى جهاز أمني.. طلع جهاز العروسين"    الأربعاء.. يوم تضامني مع الشعب الفلسطيني بنقابة الصحفيين في ذكرى النكبة    الأعلى للجامعات يقرر إعادة تشكيل اللجنة العليا لاختبارات القدرات بتنسيق الجامعات 2024- 2025    وائل جمعة مدافعا عن تصريحات الشناوي: طوال 15 سنة يتعرضون للأذى دون تدخل    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات.. ومواعيد الإجازات الرسمية المتبقية للعام 2024    عاجل.. تشكيل يوفنتوس الرسمي أمام مونزا في الدوري الإيطالي    شريف مختار يقدم نصائح للوقاية من أمراض القلب في الصيف    نائب رئيس جامعة عين شمس تستقبل وفداً من جامعة قوانغدونغ للدراسات الأجنبية في الصين    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي العلمي للمقالات العلمية    بعد إصابة شاروخان بضربة شمس- 8 نصائح للوقاية منها    محافظ أسيوط يكلف رؤساء المراكز والأحياء بتفقد مشروعات "حياة كريمة"    تفاصيل مالية مثيرة.. وموعد الإعلان الرسمي عن تولي كومباني تدريب بايرن ميونخ    5 أبراج محظوظة ب«الحب» خلال الفترة المقبلة.. هل أنت منهم؟    «الملا» يفتتح المرحلة الأولى بغرفة التحكم والمراقبة SCADA بشركة أنابيب البترول    توقيع برتوكول تعاون مشترك بين جامعتي طنطا ومدينة السادات    وزير الأوقاف: تكثيف الأنشطة الدعوية والتعامل بحسم مع مخالفة تعليمات خطبة الجمعة    مهرجان الكى بوب يختتم أسبوع الثقافة الكورية بالأوبرا.. والسفير يعلن عن أسبوع آخر    عقيلة صالح: جولة مشاورات جديدة قريبا بالجامعة العربية بين رؤساء المجالس الثلاثة فى ليبيا    ضبط تشكيل عصابي تخصص في الاتجار بالمواد المخدرة فى المنوفية    علاج 1854 مواطنًا بالمجان ضمن قافلة طبية بالشرقية    باحثة بالمركز المصري للفكر: القاهرة الأكثر اهتماما بالجانب الإنساني في غزة    مفاجآت جديدة في قضية «سفاح التجمع الخامس»: جثث الضحايا ال3 «مخنوقات» وآثار تعذيب    «أكاديمية الشرطة» تنظم ورشة تدريبية عن «الدور الحكومي في مواجهة مخططات إسقاط الدولة»    وزارة التجارة: لا صحة لوقف الإفراج عن السيارات الواردة للاستعمال الشخصي    ضبط 14 طن قطن مجهول المصدر في محلجين بدون ترخيص بالقليوبية    "كولر بيحب الجمهور".. مدرب المنتخب السابق يكشف أسلوب لعب الترجي أمام الأهلي    برنامج تدريبى حول إدارة تكنولوجيا المعلومات بمستشفى المقطم    نهائي دوري أبطال إفريقيا.. الملايين تنتظر الأهلي والترجي    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى    عيد الأضحى 2024 الأحد أم الاثنين؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    مباحثات عسكرية مرتقبة بين الولايات المتحدة والصين على وقع أزمة تايوان    فصيل عراقى يعلن استهداف عدة مواقع فى إيلات ب"مسيرات"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قارب العشق فى نهر الانتظار

بين أمواج المتوسط كانت المركب سوريا تتأرجح فيتأرجح قلبى حلما بالقفز من سطح المركب إلى القارب الفينيسى ليحملنى إلى محطة القطار الذى سأمتطيه وصولا إلى باريس.
ولا أدرى كيف قرأ القبطان أنيس أنسى خريطة قلقى بسبب جهلى بالطريق من ميناء فينيسيا إلى محطة القطار، فهمس لى «سيصحبك إلى المحطة ضابط الاتصالات مدحت هنداوى». ابتسمت لمدحت هنداوى، مندهشا لعدم مقابلته طوال أيام الرحلة على ظهر المركب. واستجمعت ملامحه فى ثوان لأسأله: ابن من أنت من زوجات هنداوى أفندى؟ خجل الشاب وقال «ابن الزوجة الأولى» . ولم يندهش لسرعة معرفتى به ، فهو إبن مدرس الألعاب بمدرسة العروة الوثقى، وكان أكثر من رجال الإسكندرية أناقة، ويحترف عملا جانبيا، وهو جمع التبرعات من أثرياء التجار وأصحاب الشركات الإسكندرية للمؤسسات الخيرية مقابل نسبة عشرة بالمائة من التبرعات، وكان يجمع للمستوصفات التى أسسها والدى بالجمعية الخيرية عشرات المئات من الجنيهات .
وذاكرتى لا تنسى هنداوى أفندى، خصوصا فيما حدث فى ذلك الصباح القديم الذى جاء فيه جرسون التريانون ليقول لأبى الجالس فى إنتظار رئيسه وكيل وزارة الصحة على توفيق شوشة باشا «تليفون من حكمدارية الإسكندرية»، قام أبى ليرد على التليفون، بينما كنت أتابع الحوار بين عسكرى الداورية وواحدة من بنات الليل المتسكعات فى محطة الرمل. كانت امرأة ترتدى الملاءة السوداء الخاصة ببنات البلد. وتسير بحركة من تعرض نفسها فى سوق العيون. وراحت تزعق لحظة أن أمسك العسكرى بها مهددا إياها بتحويلها إلى «الكراكون» بتهمة التقاط الرجال. صرخت المرأة بأنها دخلت تلك الصنعة لأن زوجها تاه منها فى معسكرات الإنجليز، ولم تجد ما تطعم به الأطفال إلا الدعارة المسموح بها، وحين سألها العسكرى عن «الرخصة» أظهرت له إذن السماح القديم بممارسة البغاء؛ ومعه « نص فرنك» أى قرشين صاغ فتركها . ومشت تتقصع لتلعن العسكرى الذى يعرف أنه قد تم إلغاء البغاء وتدعو عليه بخراب بيته و بستر نساء عائلته فى آن واحد ، قالت ما أذكره تماما « الله يخرب بيتك ويستر ولاياك». راقبت هذا المشهد وأنا أضحك فى إنتظار أبى بعد أن ينهى التيلفون الذى جاء إليه. وكان « التريانون» هو مقهى أبى المفضل ، وصار يكثر بالجلوس هناك، خصوصا كى يتأمل البحر وينسى تعبه من أجل جمع آلاف الجنيهات كتبرع لتسليح الجيش المصرى وكانت جمعية الهلال الأحمر هى مصدر جمع تلك التبرعات، وقد تطوع أبى لجمع التبرعات إحتسابا لوجه الله ، خصوصا وأنه كان يحلم بالتطوع للقتال فى فلسطين، لكن نظره الضعيف منعه من ذلك؛ ولم يسمح لنفسه بقرش واحد من التبرعات ، وكثيرا ما كان يستقبل هنداوى أفندى الذى يضحك مع أبى قائلا «أنت تجمع الجنيهات للهلال الأحمر الذى تديره ناهد رشاد وصيفة الملك فاروق، وهى من كونت بالنقود الحرس الحديدى الذى يقوم باغتيال أعداء الملك، فكيف تستمر فى جمع النقود لها؟ « واعتبر أبى أن كلمات هنداوى أفندى هى كلمة النهاية فى مسلسل التبرع للهلال الأحمر. ومضى يجمع المعلومات عن وصيفة الملك فاروق، فعلم أنها دخلت فى علاقة عاطفية مع أحد ضباط الحرس الحديدى الذى تركها ليتزوج الراقصة تحية كاريوكا، فحاولت اغتيال العشيق والراقصة، لكنها لم تفلح.
عاد أبى من مكالمة التليفون، ليقف أمامه العسكرى الذى طارد امرأة الليل؛ وقال سائلا أبى: هل هذا «النصف فرنك» حلال أم حرام؟ ولم يكتم أبى ضحكته، فأسرعت أنا بالفتوى قائلا: إن كنت تأخذ النصف فرنك لأنك تحتاجه فهو حلال؛ وإن كنت تأخذه كرشوة فهو حرام .
وابتسم أبى ولم يجب على تساؤل العسكرى الذى قال «البيه الصغير عارف.. ربنا حط على لسانه الحق». ولم ينطق أبى بكلمة؛ فقد كانت أيامه مليئة بما يصد النفس عن الضحك.
وكان مشهورا عند أهل الإسكندرية كرجل من المتبحرين فى الدين، فضلا عن توليه لمنصب سكرتير القومسيون الطبى بجانب إشرافه على الحجر الصحى بالإسكندرية ،
سألنى أبى « هل تستطيع العودة إلى المنزل بمفردك؟
أنا عندى مشوار إلى الحكمدارية .
وعلمت من بعد ذلك أن مشواره إلى حكمدارية البوليس كان بسبب القبض على هنداوى أفندى ، فقد قبض عليه باتهام كاذب ، والسبب هو أن ضابط البوليس قد فطن إلى أن هنداوى أفندى قد أحس بخيانة زوجته الجديدة له مع أحد الضباط؛ فقام بتلفيق اتهام كاذب للزوج المخدوع. وكان هنداوى أفندى قد جمع آلافا من الجنيهات، وخالط مجتمع نادى سبورتنج وصادق مدربة إحدى الألعاب الرياضية وهى نصف مصرية ونصف إيطالية، وتزوجها على أم عياله، واستولت على جزء لا بأس به من ثروته. وعندما علم بخيانتها له؛ دبر له العشيق قضية وهمية ليتم القبض عليه وليذهب والدى إلى الحكمدارية ليفرج عنه بضمانه الشخصى، وليخرج من هناك إلى المأذون ليطلقها ، ثم يعود إلى منزله ليلقى بنفسه من الطابق الثالث فتتكسر أقدامه ولا يحيا من بعد ذلك سوى لعدة أسابيع. وكان مدحت هو أصغر أبناء هنداوى أفندى ، وهو من صار ضابط اللاسلكى على المركب سوريا .
انطلق القارب التاكسى فى قنوات فينيسيا المائية، لنصل إلى محطة القطار الذى سيحملنى إلى باريس. وقد لاحظ كلنا _ الضابط مدحت وأنا _ أننا لم نتكلم ، فقد كان ذاكرة كل منا تثرثر بالتفاصيل القديمة عما جرى لوالده مع الفاتنة نصف الإيطالية .
وودعنى مدحت لأركب القطار ، فغفوت لأرى نفسى جامعا لنتف من قطع سحاب التذكارات ، وصنعت منها حصانا أمتطيته ، متجولا فى طرقات مدن أيامى القديمة ، فى انتظار تحرك القطار إلى باريس .
أخذت أفكر فى أن اليونان التى غادرتها إلى فينسيا، كان لليونان فى القلب حكايات ضاحكة فى مشوار العمر؛ فهو أول بلد سمعت عن فلاسفته، وكانت حكايات أساتذتى عن هؤلاء الفلاسفة تكاد أن تتشابه مع حواديت جحا ، وكلنا نحب جحا ونتركه يسرح فى خيالاتنا، وتذوب أفكاره _ بشكل ما _ فى دمائنا. كنت كثير الضحك مع زملائى طلبة قسم فلسفة بجامعة الإسكندرية، وأدعو كل واحد منهم أن يرى بعيون الخيال زوجة الفيلسوف سقراط وهى تبحث لها عن عشيق بدلا من أن تذيب عمرها مع هذا المتأمل الفيلسوف الساذج. فهى تعانى من ضغط رؤية كل النساء من حولها غارقات فى المتعة، بينما تعيش هى مجبرة على أن تفتح أذنيها لتسمع كلاما عن الفضيلة والرذيلة والشجاعة، ولم تكن تفهم كيف تعيش مع الكلمات؛ بينما تعيش غيرها من النساء فى حياة مترفة بلا نهاية، وكأنها ارتكبت حماقة واحدة؛ ألا وهى الزواج من رجل لا يمل السير فى الأسواق ووراءه تلاميذ يقولون إنهم يتعلمون منه، وترى أنه لا يستطيع أن يُعلم أحدا سوى الخيبة. ولذلك لم تكف يوما عن الإمساك به لتجره من قفاه، لعله يترك كثير الكلام فيما لا تفهمه ، وليمارس ما تتمناه ألا وهو الغرق فى دوامات الحب؛ فهى تطلب منه أن يترك كهرباء أفكاره الصاعقة، لأنها مجرد حشو للآذان بثرثرة فارغة عن إعادة بناء العالم ليسع أحلام البشر.
بطبيعة الحال، لم تكن تلك هى صورة سقراط الفعلية، ولكنها صورة من صنع خيالى الذى لا يكف عن التفكير فى متع الحب، كما أن المعلومات الدقيقة عن سقراط وزوجته ، غير موجودة، بل إن فلسفته ومحاكمته ليس لها سجلات إلا فيما رواه أفلاطون وزينون وكلاهما كان من تلاميذه.
ومن المؤكد أن سقراط الفيلسوف لم يفطن إلى حقائق أساسية تملأ وجدانى، حيث إجتاحنى الحب كفيضان قاس؛لا قدرة لى على مقاومته. و عندما انحسر عنى لقاء الحبيبة بعد سفرها إلى باريس صارت أيامى كسنابل القمح المحترقة من فرط العطش وبين الجفاف والفيضان تأتينى رسائلها التى تبدأ بكلمة «أحتاجك» فيدور بينى وبين الإحساس بالإحتياج حوار يتراقص بين صورتين، صورتها من أجل الدكتوراه، وصورتها وهى بجانبى، وحين تمد يدها بحثا عنى لا تجدنى فتكتب لى «أحتاجك»، وحين أمد يدى طالبا ملمس خدها بكف يدى لا ألمس إلا الفراغ، فأكره كل حياتى، وأتلمس أقرب خيانة لها تلوح لى فى أفق الأيام .
وكأن الصوت المتظم لعجلات القطار المتحرك من فينيسا إلى باريس يقرأ فى مقولات أحد الصوفية «فى العشق الصافى عليك أن تكون عارياً عارماً واضحاً مندفعاً وكأنك النهر أو النهار. ولا يليق بك أن ترتدى فى العشق قناع الأدب المزيف».
ويستمر توغل القطار فى ريف إيطاليا، ليقطع أوروبا، ولا أتوقف عن ترجمة حركة عجلات القطار كشلال فيضان عاطفى لا يستأذن قبل أن ينهمر فى نهر اللحظات، تماما كما كان جفافى العاطفى لا يمل من لسع سنابل الأيام ويحرقها رماداً. لكن هاأنا ذا فى القطار إليها.
.............
أخذت أسلى وقتى بمراقبة قصة هذا «الويل الصعب» قصة جفاف العجز عن لقاها فى أى وقت، وفيضان الحلم شوقا إليها، وتدور عجلات القطار كأنها تجعل من كل ما مضى آلاما من أوهام .
.............
الخديعة الأولى التى تزين لنا السير فى دنيا العشق، هى خديعة بسيطة وقديمة وتقول لكل منا:أنت العاشق الأول فى هذا الكون، ولم يسبقك أحد إلى معرفة جمال هذا العشق.
ولأن الدنيا أثناء الحب تتلون بإيقاعات من السحر الشخصى جداً، فالإنسان لا يحاول أن يكشف أسرار تلك الخديعة. ولا يلتفت أحد إلى أن العشق موجود قبل أن يوجد الإنسان.
لكن العشق يطلب من الإنسان طلباً غاية فى الجمال والقسوة. إنه يطلب من الإنسان أن يتنفس الهواء خارج صناديق الرتابة والتعود.
ولا أحد من نسل آدم يملك القدرة على الحياة كل الوقت خارج صناديق التعود والرتابة.. فالإنسان يولد على هذه الأرض وهو مقيد بقيود كثيرة غير مرئية تكبل خلايا المخ.
عيون الإنسان سجينة منذ لحظة الميلاد لمشاهد محددة.
قلب الإنسان سجين انفعالات مرسومة من قبل.
الأيدى تتحرك فى نطاق محدد مسبقاً.
الكائن البشرى سجين حياته من قبل أن تبدأ هذه الحياة.
ورغم ذلك يصرخ الكائن البشرى صباح مساء «أنا حر.. أنا حر».
والحقيقة : أنه سجين رحلة مرسومة من قبل. وأنه _ حتى فى العشق _ كائن محدود لا يملك الاختيار. وإلا فبماذا نفسر قول أحد العشاق لحبيبته قولاً منقولاً عن شاعر عربى مجهول: يوم القيامة سأقول لحظة الحساب. «يا رب إن حبيبتى هى كل أقوالى أمامك، لأنها كل حياتى بما فيها من صواب وخطأ».
ويثق هذا العاشق فى صدق قوله، فبشرته تتنادى بالشوق إلى بشرة من يحب ؛ وكل خلية من خلايا لحمه الحى تمتلئ بكهرباء تتآلف بسرعة لا نهائية مع الكهرباء التى توجد فى خلايا محبوبته. وكل منهما مدفوع _ قهراً _ إلى أحضان الآخر بقوة الحب. وكل كائن منهما منزوع _ قهراً _ من أحضان الآخر بقوة المجتمع. فالمجتمع يطبع سلفاً نموذجاً محدداً لنجاح أى قصة حب، أو فشلها.
.............
يدافع الإنسان عن حيويته فيتمرد. وما أن يتمرد حتى ينكسر ويسمع الإنسان صوت المجتمع ضاحكاً: أنت لم تعرف كيف تكون مسئولاً عن الرضوخ لأوامرى. أنت تتمرد لأنك تريد أن تعيش على تلقائيتك وتهمس لمن تحب بكلمات الرغبة والعناق والذوبان والأناقة والزهو والبراءة وتلون معها العالم بأضواء ساحرة. وأنا _ كمجتمع _لا أسمح لك بذلك. لابد أن تتلقى الآن عذاب العشاق الذين لا يعرفون الرضوخ ولن تصل أبداً إلى شاطئ الارتواء المكتمل.
ولا يملك العاشق المتمرد إلا ثروة من خيال. فى الخيال يمكن للعاشق المتمرد أن يمتطى صهوة حصان له هيئة القوة، لكنه مصنوع من بخار السحاب.
ومهما بلغ العمر بالعاشق المتمرد فهو لا يمل من امتطاء حصان الوهم اللامسئول ولا يمل من السفر إلى مدن خرافية فسيحة الأرجاء. ويفعل فى الخيال كل ما كان يحلم به. ويعانق من يحب عناقاً سرمدياً لا ينتهي. ويتشاجر معها على أدق التفاصيل التى لا يعرف كيف يعبر عنها فى يومه العادي.
يفعل العاشق المتمرد كل ذلك فى رحلات الخيال رغم أنه فى الواقع اليومى يلعب على مسرح الحياة اليومية لعبة الرجل الرزين الذى لا يهتم بفشل عاطفى سابق. ويتوهم أنه يخدع كل من حوله بلعبة الاندفاع دوماً من نجاح اجتماعى إلى نجاح اجتماعى آخر. ويرتاب فى نفسه لأنه أثناء الهرب بالنجاح الاجتماعى، يسمع فى أعماقه آهات القلب الشرسة التى تبكى بدموع كاوية أيام الحب الجميل. ويحاول العاشق المتمرد ألا يلتفت إلى حقيقته ككائن معلق على صليب من الشوق. ويحاول ألا ينظر بجانبه كى لا يرى حبيبته معلقة على صليب آخر من الشوق؛ فيحاول الهرب بالغرق فى العمل؛ لكن ما إن يلتقط أنفاس الراحة حتى يمتطى صهوة حصان السحاب ويرحل إلى مدينة هشة مصنوعة من أزهار الفل والياسمين. وللمدينة الهشة ذات العطر شاطئ تتماوج فيه مياه الذكريات.
ويجلس العاشق على هذا الشاطئ ويشرب خمر أحلام يقظة هائلة. فماذا يقول العاشق لنفسه؟‍‍‍‍‍
يقول العاشق لنفسه: هكذا تتفتح أمام عيونى أحلام يقظتي، فأرى فيما يرى المتيقظ الحالم أن حبيبتى تأتى من أيام الربيع القديم لترتشف كل وجودى بعينها وشفتيها فأذيبها فى أحضانى لأولدها أبناء لهم وجوه الإشراق.
ويبكى العاشق بدموع جافة كأنها الشوك ليقول: لكن الحلم ينقشع وتمتد أصابع خشنة من أيدى الواقع لتقتلع من عيونى هذا الحلم. وتصفعنى تلك الأيدى وتهدر إحساسى بإنسانيتي. ولا أجد مفراً من أن أدق أبواب مدينة أحلام اليقظة بعنف لعلى أستعيد توازني.
هنا أسأل أنا هذا العاشق: وهل تفتح لك مدينة أحلام اليقظة أبوابها؟!
يضحك العاشق ضحكات خشنة من جفاف أنفاسه المتوترة ويقول:
نعم تفتح مدينة أحلام اليقظة أبوابها بعد أن يسحقنى ذل التوسل والابتهال، فأدلف إلى شوارع المدينة الهشة المصنوعة من أوراق الفل والياسمين، وأرى فيما يرى الحالم اليقظ أن هناك كوخاً على شاطئ تلك المدينة. تقف ببابه من أحب وهى تقول بصوت من الموسيقى اللينة الهامسة «أنا جاريتك. وأنت صياد كل أسماك البحار. لابد أن تأتى لى ببعض من الأسماك لنأكل. فلا يصح أن تترك جاريتك بلا طعام». وأسير بالخطوات الواثقة فوق مياه هذا البحر وأنادى: «أريد بعض السمك طعاماً لى ولمن أحب». فتخرج كل أسماك البحار فى طوابير هاتفة «لبيك أيها العاشق». وأنادى حبيبتى لأقول لها بفخر «يمكنك أن تشوى لنا هذه الأسماك لنأكل من خير هذا البحر». ويتكوم العاشق مرتجفاً فأسأله ماذا بك؟
يقول العاشق: لقد أزعجنى أن أصل بالحوار معك إلى هذه النقطة من أحاسيس أنت لا تتصور ماذا فعلت بى حبيبتى.
قلت متسائلاً: ألم تشو لك السمك الطازج.
قال العاشق حزيناً بصوت حزن خشن: فاجأتنى حبيبتى بأن لها أصابع مسحورة أرادت أن تستخرج بها هيكلى العظمى من لحمى لتجعله وقوداً لشواء أسماك العشق.
أتساءل: وهل تركتها تفعل ذلك؟
قال العاشق: لقد ترددت قليلاً. وفكرت أن أترك لها عظامي. لكنى اندفعت – بقوة مجهولة – لأخرج أصابع حبيبتى من لحمي.
قلت للعاشق: هذا حق من حقوقك.
بكى العاشق: أنت لا تعرف ماذا حدث من بعد ذلك لقد انقشع الحلم كله ورأيت نفسى مطروداً خارج المدينة الهشة، مدينة أحلام اليقظة وذابت من خيالى ملامح حبيبتي. ولم يبق فى الذاكرة إلا زهرة فل تحتضن زهرة ياسمين وتذكرنى الزهرتان أنى كائن وحيد.
قلت للعاشق: وماذا فعلت بعد طردك من تلك المدينة؟
قال العاشق: صار اسمى فى إحساسى لا يدل على كائن حي. وصرت أنظر إلى نفسى كمجرد قالب متحرك فى دنيا من الملل.
قلت للعاشق: وكيف تقاوم الملل.
قال العاشق: أنا لا أكف عن الدق على أبواب مدينة أحلام اليقظة.
قلت: وهل انفتح لك الباب؟
قال: لم يكن أمام إصرارى إلا أن ينفتح الباب. وانفتح باب مدينة أحلام اليقظة فى صحوة غروب. وامتدت عيونى لترقب حصاناً يجر عربة حنطور وهو غاية فى الفرح. واندهشت من هذا الحصان الفرحان. وتضاعفت دهشتى عندما غمز لى الحصان بعيونه ليلفتنى إلى من يركب فى عربته ويتستر بمظلة الحنطور. دققت النظر فى داخل عربة الحنطور فرأيت أمراً غاية فى الدهشة. رأيت نفسى أعانق حبيبتي. وسائق الحنطور يضرب بالكرباج عيون الناس التى تحاول التلصص بالسعادة ويصرخ فيهم: «مادمتم أيها الوحوش البلهاء لا تقيمون منازل للعشق الحلال والزواج، ومادمتم تحسبون كل شئ بالنقود وتتجاهلون حقوق المحبين ؛ ، مادمتم كذلك فأنا سأقاومكم وسأجعل من حنطورى فندقاً متحركاً للعشق المؤقت».
ومضى قائد الحنطور يضرب عيون الناس بالكرباج، لكن الكرباج أصاب عيونى التى تلصصت لأرى نفسي.
هنا صرت لا أرى شيئاً. وأحسست بلون من الألم الممتزج بالسعادة. فالمشهد الأخير الذى أغلقت عليه عيونى هو مشهد توهج شمس قبلاتى لحبيبتى داخل ذلك الحنطور.
وأقول للعاشق: ولكن كيف عالجت عيونك.
تنهد ليقول: أبداً. كل الذى حدث أن سمعت غناء صوت عبد الحليم حافظ «الحلوة.. الحلوة عينيك يا حبيبتي» وتسللت من الأغنية أصابع حبيبتى المسحورة لتفتح لى عيونى فصرت أرى من جديد، وكانت المفاجأة التالية أن كلمات الأغنية تحولت إلى شجرة وارفة الظلال. ورأيت نفسى عصفوراً وحبيبتى عصفورة. ولنا أكثر من عش وأحاطتنا العصافير لتقيم لنا زفافاً خاصا. فنحن أول اثنين من البشر يتم تحويلهما إلى عصافير هرباً من أزمة المساكن. وامتدت ذراعاى كأنهما أجنحة تحضن حبيبتي. لكن طلقة من بندقية أصابتنا معاً. لنقع على الأرض.
انزعجت لأقول للعاشق: وهل عرفت من ذلك الأحمق الذى أطلق عليكما النار؟
قال العاشق: نعم؟ إنه يوم تجسد فى طلقة بندقية؛ يوم سافرت الحبيبة لتتركنى وحيدا . ولكنها عادت لى _ بالخيال _فأخذتها من يدها إلى المقهى الذى أثرثر فيه مع نفسى لعله مقهى ريش بشارع طلعت حرب. وقدم لنا الجرسون «فلفل» أطباق الأرز بالكبد والكلاوي. ودار بينى وبين حبيبتى هذا الحوار.
_ من أنت بالضبط؟
_أنا المعشوقة الذائبة شوقاً وأنت العاشق الأبدى الباقي، وحبنا هو الجنة واللعنة فى آن واحد.
_ أنا دائم الشوق إلى جنتك لأنى أعرف كل أسرارها، وأجيد استخراج كنوزها، لكنى لا أرى فى يومى إلا واقع اللعنة.
وغرق العاشق فى صمت. أردت أن أجعله يفيق.
فقال: أنت لا تعلم ما حدث لنا فى تلك اللحظة. إنه الهول. لقد تحول موقع المقهى إلى صحراء. وقامت ريح عاصفة. وتحولت رمال العاصفة إلى أحجار. والأحجار ترجمنا من كل ناحية. صرخت حبيبتى فى وجهى «أنت لا تحمينى من الأحجار جيداً».
قلت: أنا أفعل كل ما فى طاقتي.
قالت: أنا لعنة تتحول فى أحضانك إلى جنة، لكن لابد أن أبتعد عنك.
قلت: تذكرى أننا قطعنا وعداً هائلاً على أنفسنا وهو أن نجعل هذا العالم مكاناً صالحاً لإقامة كل العشاق.
قالت ساخرة بتكبر عنيد: أنت لن تستطيع أن تغير من نفسك شيئاً. وكل الذى يتغير فيك هو بعض من حنانى إليك. وعندما أنزع عنك حنانى ستصير كائناً لا معنى له.
قلت: ستندمين على ذلك مثل ندمى تماماً.
ونزعت حنانها عنى وما إن فعلت ذلك حتى سمعت بكاءها كنسيج طويل وهى تصرخ قائلة: «يا ويلى صرت أنا الإنسانة التى لا معنى لها».
وحدث من بعد ذلك أن توقفت حبيبتى على بقعة من الأرض. وتلك البقعة تبدو كأنها قرص إليكترونى يدور بسرعة رهيبة حول نفسه. وتحولت الأرض التى أقف عليها إلى بقعة كقرص إليكترونى آخر يدور بسرعة رهيبة حول نفسه وأدور معه بنفس السرعة. وكلما اقتربت منى الغيبوبة من فرط الدوار فأنا أحك جلدى بأظافرى فأشم رائحة عطرها تحت جلدى فأفيق؛ وأنظر إليها فى دوارها المتسارع فأجدها تقاوم الغيبوبة وتحك جلدها لتشم عطرى تحت جلدها، فتفيق. تسألنى حبيبتي: لماذا لا تتقدم لإنقاذي. أقول صارخاً: أنا لا أعرف كيف أنقذ نفسي. وفجأة انفلت كل منا من دوامته وطرنا فى الهواء. سقطت هى بعيداً عني. وسقطت بعيداً عنها. ظللت أرقب المكان الذى وقعت أنا فيه. فوجدته سرداباً آخره ضوء باهر.. وتجسدت ملامح حبيبتى فى نهاية السرداب. دخلت السرداب الموحش. لكن السرداب يمتد ويمتد. وحبيبتى تقول بصوت ميكانيكى لا حياة فيه: «أراك سجيناً لا تعرف الطريق إلى حريتك».
أقول متعباً: حريتى تتحقق عندما أشم الهواء الخارج من أنفاسك.
تقول باكية بكاء ميكانيكياً: أنا محكوم عليَّ أن أتنفس هواء كل الأماكن إلا المكان الذى توجد أنت فيه. أقول حزيناً: إن سيقانى صارت ثقيلة كأنها من حديد صدئ. وأنت الآن وهم من لحم ودم. ولا أملك إلا أن أطلق عليك رصاصات الشوق الصافي.
وأخرجت قلبى من بين ضلوعى لأجعله بندقية ممتلئة برصاصات أشواقي. لكن كل الرصاصات لا تصيبها. فأصرخ «إن شئت أتيت لى وإن شئت رحلت عنى». فتقول حبيبتى: «عندما أحضر إليك فإنى لا أجدك رغم أنك أمامي. وعندما تحضر إلى فلن تجدنى رغم أنى أمامك».
وصل القطار إلى باريس لأجد الحبيبة بكل أشواقها وأشواقى وتلك حكاية ما أن تبدأ حتى لا تنتهى .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.