"تضامن النواب" توافق على موازنة "القومي للمرأة" بقيمة 663 مليون جنيه    تعليم البحيرة: رفع درجة الاستعداد لاستقبال امتحانات الفصل الدراسي الثاني - صور    رفع 150 طنًا من المخلفات في حملات نظافة مكبرة بالجيزة    تعرف على سعر الذهب المعلن بموقع البورصة المصرية الخميس 8 مايو 2025    منصة "إكس" تحجب حساب عمدة إسطنبول المسجون في تركيا    لا نعلم مصير 3 منهم.. إسرائيل تكشف مستجدات وضع الأسرى في غزة    سفير أوكرانيا: انتهاء الحرب العالمية لحظة فاصلة في التاريخ الإنساني    كيف يؤثر نهائي دوري أبطال أوروبا على صراع الكرة الذهبية؟    وزير الرياضة ومحافظ بني سويف يتفقدان مركز التنمية الشبابية شرق النيل -صور    قيده بالحبل وهدده بالكلاب.. السجن 10 سنوات لميكانيكي هتك عرض شاب بالإسكندرية    "أولياء أمور مصر" يطالب بتفعيل مبادرة "معلم في الخير" لدعم طلاب الشهادات    ضوابط امتحانات المصريين بالخارج للفصل الدراسي الثاني 2025    بعد 18 يوم من وفاته.. تشييع جثمان صبحي عطري غدًا ب دبي    طارق الشناوي: "بوسي شلبي كانت دوما بجوار محمود عبدالعزيز باعتبارها زوجته.. وهذه شهادة حق"    بيتر ميمي يروج ل"المشروع X" ويعلق: "مختلف جدًا"    «اللي في قلبهم على لسانهم».. 5 أبراج لا تعرف المجاملة    في 11 ثانية.. فقط من يتمتع برؤية حادة يعثر على القلم المخفي    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    طب عين شمس: 5 خطوات لضمان نظافة الأيدى بعد غسليها    هل التوتر يسبب أمراض رئوية مزمنة؟    شيكابالا يواصل الغياب عن الزمالك أمام سيراميكا مع أيمن الرمادى    رئيس الوزراء يتفقد مركز سيطرة الشبكة الوطنية للطوارئ والسلامة العامة بالغربية    البورصة: تراجع رصيد شهادات الإيداع لمدينة مصر للإسكان إلى 541 مليون شهادة    محافظ مطروح يتفقد تصميمات الرامبات لتيسير التعامل مع طلبات ذوي الهمم    بغرض السرقة.. الإعدام شنقًا للمتهمين بقتل شاب في قنا    انخفاض عمليات البحث على "جوجل" عبر متصفح سفارى لأول مرة لهذا السبب    زوجة الأب المتوحشة تنهى حياة طفلة زوجها بالشرقية    دمياط تحيي ذكرى انتصارها التاريخي بوضع الزهور على نصب الجندي المجهول    عضو مجلس المحامين بجنوب الجيزة يثبت الإضراب أمام محكمة أكتوبر (صور)    تصاعد دخان أسود من الفاتيكان في اليوم الثاني لمجمع الكرادلة المغلق |فيديو    الهلال السعودي يرصد 160 مليون يورو لضم ثنائي ليفربول    عضو بالنواب: مصر تتحرك بثبات ومسؤولية لرفع المعاناة عن الفلسطينيين    محافظ الفيوم يتابع أنشطة فرع الثقافة في أبريل    ياسمينا العبد ضيف برنامج الراديو بيضحك مع فاطمة مصطفى على 9090 الليلة    رئيس جامعة العريش يكرم الطلاب المشاركين في الكشافة البحرية    مطار مرسى مطروح الدولي يستقبل أولى رحلات الشارتر من التشيك    كرة يد - الاتحاد يكرم باستور علي هامش مواجهة مصر الودية ضد البرازيل    نائب وزير الصحة يتفقد وحدتي الأعقاب الديسة ومنشأة الخزان الصحية بأسوان    أطعمة فائقة التصنيع مرتبطة بزيادة الإصابة بباركنسون    وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات يلتقى محافظ طوكيو لبحث التعاون فى مجالات بناء القدرات الرقمية ودعم ريادة الأعمال    الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة يشهد توقيع اتفاقية للتعاون التقني بين مجموعة السويدي ومركز (سيرسي) الإسباني لأبحاث موارد الطاقة    خالد بيبو: كولر ظلم لاعبين في الأهلي وكان يحلم بالمونديال    تكثيف جهود البحث عن فتاة متغيبة منذ يومين في القليوبية    أسقف المنيا للخارجية الأمريكية: الرئيس السيسي يرعى حرية العبادة (صور)    وزير الصحة يستقبل نقيب التمريض لبحث تطوير التدريب المهني وتعميم الأدلة الاسترشادية    الأهلي ضد الاتحاد السكندري.. الموعد والقناة الناقلة لقمة السلة    الإسماعيلي ضد إنبي.. الدراويش على حافة الهاوية بعد السقوط في مراكز الهبوط    ميدو يفجّرها: شخص داخل الزمالك يحارب لجنة الخطيط.. وإمام عاشور الأهم وصفقة زيزو للأهلي لم تكن مفاجأة    أمين الفتوى يكشف عن 3 حالات لا يجوز فيها الزواج: ظلم وحرام شرعًا    جامعة عين شمس تضع 10 إجراءات لضمان سير امتحانات الفصل الدراسي الثاني بنجاح    موعد إجازة المولد النبوي الشريف لعام 2025 في مصر    الحماية المدنية تسيطر على حريق نشب بهيش داخل أرض فضاء بالصف.. صور    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 8-5-2025 في محافظة قنا    شي وبوتين يعقدان محادثات في موسكو بشأن خط أنابيب الغاز والحرب في أوكرانيا    سعر جرام الذهب اليوم فى مصر الخميس 8 مايو 2025.. تراجع عيار 21    الجيش الباكستاني يعلن إسقاط 12 طائرة تجسس هندية    تعرف على ملخص احداث مسلسل «آسر» الحلقة 28    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رذاذ أمطار التذكار فوق رأس العاشق

بدت قطرات المطر الهابطة من السحابات العابرة تربت على رأسي لتوقظ تذكارات اليوم الأخير من أعوام كثيرة مرت على وجودي فوق الأرض ، وكل عام منها يصافح بدايات عام جديد آخر، لتصبح تلك الأيام نسيجا متشابكا يغزل أيام العمر.



هاهي عيوني تلتقط نجما متعثرا من فرط سرعته فى أثناء رحلة هبوطه إلى الأرض . وقد قيل لي إن ضوء النجوم المتساقطة قد يستغرق أعواما كثيرة وهو يهبط ، لنرى نحن سكان الأرض ضوءه من بعد ذلك. حدث ذلك في الليل الفاصل بين عامي 1958 و1959 ، حيث تصادف سقوط المطر مع سقوط النجم ذات ليل سكندري قديم ، و كنت أقف بجانب الكورنيش مترقبا حركة الموج ، وهل بإمكانه أن يهيج ليقفز فوق السور الجرانيتي ، أم أن الهواء العاصف قليلا لن يسمح له بتلك اللعبة التي تعودت عليها أمواج الميناء الشرقي .

ويمتزج ذلك بخيط تذكار، لكن مطر عنيف داهمني وأنا أسير بشارع الشانزلزيه الباريسي في منتصف الليل الفاصل بين عامي 1963 و1964، أحتضن يد الحبيبة التي تدرس هناك ، وكانت تهتز بفرح غامر لمجرد أني حضرت المؤتمر الصحفي للجنرال ديجول ، وكنت أهمس لها « أنا لا أهتم بتفاصيل ما جرى في المؤتمر الصحفي ، لكني أهتم أكثر برضوخ ديجول لتعليمات زوجته طنط إيفون والتي قامت بتركيب قفل على باب ثلاجة الطعام بقصر الأليزية كي تمنع امتداد يد الجنرال إلى باب الثلاجة لتختطف قطعة من طبق المحار أو طبقا من كبد الأوز ، وسر غلق الثلاجة بالمفتاح هو حرص طنط إيفون على صحة الجنرال الذي أنقذ فرنسا من تيه الضياع الديمقراطي الذي عاشت فيه لسنوات قبل أن يقرر الجنرال خروج فرنسا من احتلال الجزائر ، وليؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة ، ثم تظهر أمامنا بالشانزليزيه برجيبت باردو نجمة الغواية الفرنسية ، وهي تحمي نفسها من المطر بالطو من النايلون الشفاف ، وتوزع قبلاتها في الهواء على المارة بينما يقود سيارتها عشيقها الجزائري الذي إختارته حبيبا فى أثناء تصويرها لفيلم « الإحتقار « عن رواية ألبرتو مورافيا الإيطالي الأعرج والماجن .

وتطل من السماء خيوط تذكار لمطر ثالث تساقطت على سطح السيارة التاونس القديمة المملوكة لصديق عمري جراح التجميل فؤاد بشاي ميخائيل ، والذي كان يستعد للهجرة من حي الهرم إلى نيويورك، بعد عودته من حرب اليمن ، والتي شهدت عملا لا يقوم به إلا النبلاء فقط ، حين أصابت رصاصة عنق ضابط من مجموعة فؤاد القتالية ،وكان الضابط في قمة جبل بعيد عن موقع وجود د. فؤاد ، ولأن صعود الجبل كان يحمل خطر اصطياده برصاص القناص ، لذلك حرص قائد فؤاد على منعه من التحرك لإنقاذ صديقه الضابط المصاب ، فلم يأبه فؤاد بالتعليمات وصعد زحفا إلى قمة الجبل ، ولم يكن معه سوى موس حلاقة ، قطع به الخرطوم الصغير الموجود بسماعة الكشف ، ويفتح عنق صديقه بحد الموس الثاني ، ليتيح له التنفس، لأن الرصاصة اخترقت العنق ، وحمله على ظهره ليعود به إلى الموقع الأصلي ولينقله إلى صنعاء ليتم شفاؤه من بعد ذلك ، ولأسمع بنفسي تلك الحكاية منه .

تحركت سيارة فؤاد من أمام منزله بشارع عمر بن الخطاب بالهرم ، حاملة جهاز البيك آب وإسطوانتي كونشرتو البيانور رقم واحد لتشايكوفسكي، ومعها إسطوانة السيمفونية التاسعة لبيتهوفن ، لنصل إلى شارع عمر بن الخطاب بمصر الجديدة حيث منزل صديقنا الفنان بسمي ميلاد، ولم ننس شراء إثنين كيلو من السجق الذي تجيد طهيه زوجة صديقنا الفنان بسمي ، وكان فؤاد يعلق ونحن في الطريق « هل يفهم أغبياء زماننا قداسة عمر بن الخطاب كنموذج لحرمة بيوت السماء التي تتبع أي دين ، أم سيظلون على غبائهم لا ينتبهون إلى أن المصريين احبوا عمر بن الخطاب لأنه احترم الكنيسة لحظة افتتاحه المسجد الأٌقصى ورفض دخول كنيسة القيامة ، وأصر على الصلاة خارجها كيلا يدهم أي غبي أي بيت من بيوت السماء ، ولهذا السبب جاءت تسمية شارعين في القاهرة باسمه ، واحد في الجيزة والثاني في مصر الجديدة ، وكان ذلك في اليوم الفاصل بين عامي 1968 ، و1969 ؛ وتستقبلنا ضحكة صديقنا الفنان الرسام المصور بسمي ميلاد إبراهيم على البوابة الحديدية لبيته الذي علق عليه لافتة كلماتها « القصر » ، وكان القصر هو الدور المدفون تحت الأرض بالمنزل رقم واحد من شارع عمر بن الخطاب بمصر الجديدة .

ويقول بسمي « لعلك في شوق لقضاء هذا الليل بالإسكندرية حيث هي عادتك منذ أن حضرت للحياة بالقاهرة ، لأنك في شوق لتذكار الملكة الصعلوكة كليوبترا التي كانت تلتقط واحدا من العامة لتحيا معه لحظات حب مجنون ، ثم تقذفه بعيدا عنها بعد أن تأخذ ما تريد وأعطته الوهم بأنها له للأبد ، فإن صدق هو هذا الوهم ، ذلك فهناك واحد من حراسها قادر على أن ينهي حياته ليرسله إلى ما وراء الحياة نفسها؛ فالرجال عند كليوبترا كانوا مجرد أدوات متعتها ، وحتى قيصر روما بكل عنفوانه ، لم يأخذ منها سوى غواية محكمة لتنجب منه ابنا لم يصل إلى العرش ، حتى أنطونيو القائد الذي ملك قلبها ، واستقر وجدانها على حقيقة أنه الرجل الذي يكفيها عن كل رجال الدنيا ، حتى هذا الرجل ؛ وجدت في نفسها جراءة إرساله إلى ماوراء الحياة وأن تذهب معه منتحرة إلى قاع الميناء الشرقية المواجهة لتمثال سعد زغلول بميدان محطة الرمل .

كان بسمي ينطق بذلك ليؤكد لي حضور صديقي إيهاب هنداوي من الإسكندرية لنعيش معا لحظات انتقال الحياة من عام إلى عام جديد . وإيهاب هو من كان يؤكد لنا وجود آثار للملكة كيلوبترا تحت مياه الميناء الشرقي السكندري ، ولم يكن يمل الحديث عنها ، فهو العاشق لهواية الغطس.ولا أنسى أبدا كيف كان يلتهب _ قديما_ بتلك الحكايات حينما كنا نمر أمام النادي اليوناني الموجود في نهاية الشارع الذي تحده مقابر الأجانب السكندرية؛ والذي توجد على جانبه الآخر حدائق الشلالات ، وكانت حكاياته أيامها لا تمل عن ضرورة إقتحامنا بشكل أو بآخر للنادي اليوناي أو النادي الإيطالي لعلنا نعثر على صداقة مع بنات الأجانب، وكأنه يريد الانتقام لكرامة والده « هنداوي أفندي» الذي كان مدرسا للألعاب في مدرسة العروة الوثقى ، والذي إحترف جمع التبرعات من أجانب الإسكندرية للجمعيات الخيرية المنتشرة في أحياء الإسكندرية الفقيرة ، وهو من تلقى غواية إمرأة ذات نصف إيطالي ونصف مصري ، وصرف عليها مئات الجنيهات التي كسبها من بيع كوبونات التبرع والتي أصدرتها السيدة ناهد رشاد وصيفة الملك فاروق باسم الهلال الأحمر في عام 1948، وكانت تعطي من يبيع كوبونات بالف جنيه ، نسبة عشرة بالمائة من الألف ، وطبعا كانت كوبونات التبرع تلك بهدف علني هو شراء أسلحة للمقاتلين بحرب 1948 ضد العصابات الإسرائيلية ، ثم اكتشفنا بعد قيام ثورة يوليو أن ناهد رشاد أسست بهذا المال شبكة الحرس الحديدي المكون من محترفي اغتيالات ، وأوكلت لهم مهمة قتل أي شخص تشير إليه ، بدعوى أنها تحافظ على عرش الملك فاروق .

وحين تزوج هنداوي أفندي والد صديقي إيهاب من تلك الحلوة ؛ عاش معها لشهور غاية في السعادة كما كان يحكي لأبي ، فهنداوي أفندي كان صديقا لأبي أيضا . ثم أنقلبت سعادة هنداوي أفندي إلى شقاء مجنون بعد أن ضبط الزوجة الجديدة في وضع غير لائق بكابينة على شاطئ كامب شيزار . وكان شريكها في ذلك الأمر أحد أثرياء المدينة ، وهو من استطاع بعلاقاته أن يضع هنداوي أفندي في حجز قسم باب شرقي إلى أن استغاث الرجل بأبي ، وكان صاحب نفوذ بالمدينة ، وحدث أن اشترطت نصف الإيطالية نصف المصري على أن تتسلم ورقة الطلاق من يد أبي؛ فرأيتها لأول مرة ، وهي تتسلم الورقة لتسمع من أبي قوله بأن الثري الذي وعدها بالزواج لن يتزوجها ، فتنهدت بثقة بأنها تعلم ما تقول . ولم تكن تعلم أن الثري سوف يتخلى عنها ؛ لتفتح بعد هذا التخلي ناديا ليليا لإستقبال جنود حفظ السلام الذين كانوا يفصلون بين مصر وإسرائيل بعد حرب 1956 , وكنت كلما مررت على هذا النادي الليلي الذي تملكه أتذكر جمالها الذي جمع بين حيوية آفا جاردنر والدفء الغجري لصوفيا لورين. وحين كنت أسير بصحبة صديقي إيهاب إبن هنداوي أفندي بجانب ذلك النادي الليلي ، كان يبصق على جداره ، وهو يقول « سرقت أبي ابنة الأبالسة «. ولم يكن يريد تذكر أن والده بعد أن خرج من قسم الشرطة وطلق تلك اللعوب ، عاد إلى بيته الأصلي الموجودة به زوجته وأم أولاده الخمسة ، ليلقي بنفسه من بلكونة الطابق الثاني ، ليصير عاجزا يتحرك بعكازين طوال الوقت . ونقلوه من مدرسة العروة الوثقى ليكون أمينا لمكتبة مدرستا الثانوية ، وكان يحترف رواية كاذبة واحدة ، هي أنه أصيب في حرب عام 1948 ، حين كان يحارب في فلسطين لمقاومة عصابات الصهيونية . ولم نكن نصدقه ولا نعاير صديقنا إيهاب بروايات أبيه ، لأن إيهاب المتفوق بغير حد في بطولات السباحة وهو من كان يرفع اسم مدرستنا عاليا .

.............

تتابع التذكارات من رذاذ المطر لتعود بي _ بسبب موسقى كونشرتو البيانيو لتشيكوفسكي ،لتسافر بي إلى اليوم الفاصل بين عامي 1958 ، و1959 فى أثناء وقوفي على رصيف الكورنيش، خوفا من سقوط زجاجة ما من شباك عمارة مطلة على البحر ، حيث احترف بعض السكان السكندريين إلقاء تلك الزجاجات وكأنها بديل عن القلل التي تأتي سيرتها عبر القول الفرحان برحيل ضيف ثقيل ، فنقول « ارمي وراه قلة أو اكسر وراه زير » ، فكأننا نودع العام الذي رحل راغبين في نسيان تجاربه المؤلمة ، لعلنا نملك أحلاما أخرى طازجة وغير ملوثة بالفشل .ولن أنسى كيف تذكرت لحظة رؤيتي لإيهاب ابن هنداوي أفندي أني نظرت إلى ساعتي في اليوم الفاصل بين نهاية ديسمبر عام 1958 وبداية نهار اول يناير 1959

، جاء التذكار لأني ركزت عيوني لحظتها على ساعتي لأجدها الحادية عشرة والنصف ، وخشيت ان يدق تليفون بيتنا بصوت الحبيبة عند الثانية عشر تماما فلا تجد ردا مني ، فأسرعت لاهثا لأعود إلى البيت مخترقا الشارع الفاصل بين حدائق الشلالات ، وبين شارع بيتنا . وأضحك لتمثال لملائكة وهم يحملون تابوتا يرتفع بجانب سور مقابر الأجانب ، والتمثال من نحت سيد من سادات النحت في عالمنا هو « رودان « . وكانت الملائكة البرنزية تحمل تابوت واحد من أثرياء الثغر السكندري ، واستطاع هذا الثري إقناع رودان بأن ينحت له هذا التمثال المحتضن لتابوته لأنه لا يرغب في البقاء محبوسا في تابوت تحت الأرض ، ويفضل أن يذوب جسده داخل تابوت من المرمر الصافي ، و كان التمثال يرتفع عاليا ليظهر لكل من يسير في الشارع ، وكأن صاحبه يرفض أن يكون بين الأموات في مدافن الأجانب وكنت أقول دائما لهذا التمثال» والله صاحب مزاج يا إبن المجنونة « . نعم فمن منا يمكن أن يفكر في نهاية حياته داخل تابوت ؟ لكن الإسكندرية هي مدينة تضم جنونا داخل أي إنسان يعيش فيها ، ويخيل إلي أن أبناء هذه المدينة يطلون على الكون بعيون الخيال موجهين سؤالا واحدا لكل سكان الأرض « ماذا يعجبكم في الحياة العاقلة الموزونة المدروسة ؟ إنها حياة مملة ، فليحيا الجنون.

ولا أدري لماذا تسرب في أعماقي ضحكة ، لأن الجنون ليس حقا مقصورا على أهل الإسكندرية ، فقد صافحت عيوني سطور الجريدة التي تحمل حكايات ابن أسيوط الذي أطلق النار على شقيقته فى أثناء سيرها بثوب الزفاف وبجانبها عريسها ، فأمسكت بيد العريس ، فغار شقيقها ليردي العريس قتيلا بثلاث رصاصات متتالية ، وقلت لابد أن هذا القاتل مجنون أيضا ، وما أن أنهيت قولي هذا حتى خرج من خيالي صورة مأذون قرية أبي الذي زارنا في الصباح ليوقع عقد شراء آخر فدان تملكه أسرتي ، وبعد أن تسلمت منه ثمن الأرض ، راح يثرثر بحكايات القرية ، وظل يقسم بأغلظ الايمانات أن أهل القرية مجانين ، ذلك أنهم استقبلوا خبر زواج تفيدة خياطة البلدة الأرملة ذات الخمسة والثلاثين عاما من خطيب ابنتها الطالب بكلية الشريعة ، بعد أن دخل البيت طالبا يد الإبنة ، لكنه وقع في هوى الأم ، ولما كانت الأم تملك خمسة فدادين بجانب إحترافها لخياطة ملابس أكابر نساء القرية ، لذلك لم يندهشوا من هذا الزواج ، لكنهم اندهشوا عندما علموا أن العريس هرب ذات صباح ومعه الابنة التي كان من المفروض أن يتزوجها. وظلت القرية لسنوات لا تعلم عن الاثنين أدنى خبر ، على الرغم من إبلاغ الشرطة والبحث عن الإثنين في المستشفيات ، ثم ظهرت البنت بعد ذلك بشهور وهي راقصة مشهورة تنشر الصحف أخبارها ، ووراءها عازف الرق الذي كان طالبا بكلية الشريعة . وحين تم القبض علي الراقصة لاستجوابها عن علاقتها بزوج الأم ، أجابت بأنها لم تتزوجه ولكنه قادها إلى شارع محمد علي لتصبح هذه الراقصة التي تكسب الآلاف , وأقر طالب الشريعة السابق أنه أرسل قسيمة الطلاق إلى زوجته الأولى ، وليس عليه أي حكم جنائي ، لذلك فليس من حق أحد أن يسجنه ، أو يحاسبه ، فقد تزوج على سنة الله ورسوله وطلق على سنة الله ورسوله . وأظهر كعب حوالة بريدية بعدة مئات من الجنيهات أرسلها إلى تفيدة الخياطة ، والمبلغ هو قيمة مؤخر صداقها ، مضافا له نفقة عام كامل . وراح مأذون القرية يقول « الناس قلبت آيات السماء ، فالدين يقول إن السماء خلقت الإنسان فاجرا وعليه أن يحمي نفسه من الفجور بالتقوى . لكن البشر استطابت لهم حياة الفجور لذلك نسوا حكاية التقوى تلك » , ولم يتذكر مأذون القرية أنه شخصيا احترف لسنوات عديدة نشر شائعة بين أهل القرية بأن الحكومة ستعفي العيال من التجنيد إن ثبت زواجهم ، وكان يعقد زيجات أطفال بشهادات تسنين مزورة يصدرها ويحررها مع طبيب الوحدة الصحية ، و لم يكف الطبيب أو المأذون عن ذلك إلى أن مات الإثنان في حادث سيارة . و بقي من المأذون في قلبي إيمان بأن الجنون موجود داخل كل كائن.

.............

وأصل إلى المنزل ليدق التليفون في الثانية عشرة تماما ليأتيني صوت الحبيبة ، لتتمنى لي عاما سعيدا ، فأتمنى أن أسكن في هذا الكوخ الذي أراه في قاع صوتها الموسيقي ، لأكون ذائبا بكل وجودي في كل وجودها ، لنغلق التليفون بعد ساعة من الحوار الذي يضج بموسيقى أشواق إثنين من العشاق ، لم يمر على فراقهما سوى ساعات بسيطة ، فقد كنا معا بالكلية حتى الرابعة بعد الظهر ، وتواعدنا على اللقاء التيلفوني في الثانية عشرة عند ميلاد العام الجديد . وكان لدينا الوقت لأستذكر أنا محاضرات الفلسفة ، وتستذكر هي محاضرات الأدب الفرنسي ، ومن المؤكد أننا تناقشنا مع أهالينا عن أحوال العالم ، لكن كان أي منا يخفي الآخر داخل وجوده ، فنحن وحدنا من نعلم أن أيا منا موجود داخل الآخر بلا افتراق . ولن تمر سوى ساعات قليلة للغاية لنلتقي في الكلية من جديد . وما ان تنتهي محاضرة تحضرها وأخرى أحضرها ، حتى نعاود اللقاء ، لتخرج الكلمات من فمها معانقة الكلمات من فمي ، وكأن كل منا يقتسم الجمل والحروف فننطقها ، فقد إمتلك الحب إدارة حوارنا بما يرغب ، فلا نختلف ، لأننا نذوب اتفاقا .ولذلك أنهيت حوارنا التيلفوني بقولي « أنا لا أوافق أهل الإسكندرية على حكاية إلقاء الزجاجات من الشبابيك إلى الشارع ، رغبة في وداع عام لم نحبه لعلنا نعيش عاما جديدا نحبه ، فأيامي معها هي يوم واحد لا يمكن قياسه بالساعات أو الشهور ، فهو يوم ممتد منذ ميلاد إي منا إلى أن ينتهي الكون .

.............

وفي نفس ذلك الليل الفاصل بين نهاية 1963 وبداية 1964 قررنا _ الحبيبة وأنا _أن نبدأ عامنا الجديد في قمة المونمارتر ، ولا أعرف كيف استوعب وجودي كل موسيقى الإبتهاج الشجي ، وأنا أقف مع الحبيبة أمام البيت الذي تعارك فيه جوجان مع فان جوخ ، لأن كل منهما يريد من الآخر أن يرسم بأسلوبه ، ونفاجأ بأن ضوءا بسيطا سطع من حجرة هي حجرة حارس البيت ، وتمتد أمام حجرة الحارس حديقة متسعة , وكانت غرفة الحارس مسكونة بشخص أعرفه تمام المعرفة ، هو كلود إستييه رئيس تحرير جريدة الليبراسيون ، وهو من سطع نجمه كواحد من الصحفيين الكبار الذين شاركوا في المناداة باستقلال الجزائر . وظهرت صديقته كريستين التي تقوم برسم صفحات مجلة الإكسبريس ، ليرحب الإثنان بنا ، فتقول كريستين « هل حضرت لترى عاما جديدا من فوق هضبة الممارتر ؟ العام الجديد سيولد كبريء ثم ستقوم بتلويثه الولايات المتحدة كعادتها منذ أن شاركت في تحرير أوربا .

ولم أندهش لهجوم كريستين على الولايات المتحدة لأن الجنرال ديجول بذات نفسه قرر أن يلقي بحلف الإطلنطي خارج باريس ، ليستقر في بروكسل عاصمة بلجيكا ، لكن الولايات المتحدة لم ترغب في مزيد من تطاول ديجول عليها وعلى إسرائيل ؛ لذلك اتجهت أجهزتها في أوروبا لتعمل ضده منذ عام 1964 وحتى أستوت لها تكوين معارضة تضم جزءا من اليسار المتطرف ، وكثير من الفوضويين ، ونسبة لا بأس بها ممن يتمنون أن تغدق عليهم الولايات المتحدة ببعض من دولاراتها ، وحاولت الولايات المتحدة مساندة خصم سياسي لديجول في انتخابات عام 1965 هو جاستون دي فير ، لكن اعتذاز فرنسا بديجول لم يجعلها تقبل إنتخاب دي فير ، فبقي ديجول في الحكم إلى أن ثار الشاب بواسطة مجموعة من الشباب المتمرد ليتنازل ديجول عن حكم فرنسا ولتعود باريس إلى حضن الخضوع الرتيب لمن سماها الفيلسوف ماكسيم ردونسون « نعم لإمريكا إمبراطورية شر . ويجب على العالم الوقوف في وجه شرورها » . وتبعه من بعد ذلك فيلسوف آخر هو جارودي ، وأسماها« الدولة التي تسرق الأمل من عالمنا », وطبعا كان مصير جارودي هو الإنزواء خصوصا بعد أن هاجم الصهيونية بشكل شديد الوضوح إلى أن مات بالإكتئاب

.............

أخذ رذاذ مطر التذكار يدق فوق رأسي لتأتي صورة من أحببتها ورحلت عن عالمنا ، لأهمس لها « ليست الحماقة هي رحيلك ، ولكن الحماقة أن صورتك موجودة داخل كل قطرة مطر تسقط على ذاكرتي .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.