وزير التعليم لأولياء أمور ذوي الهمم: أخرجوهم للمجتمع وافتخروا بهم    "النواب" يناقش تعديل اتفاقية "الأعمال الزراعية" غدا الأحد    جامعة حلوان الأهلية: تقديم كافة التيسيرات للطلاب خلال فترة الامتحانات    2772 فرصة عمل برواتب مجزية في 9 محافظات - تفاصيل وطرق التقديم    بنحو 35 جنيها، ارتفاع أسعار اللحوم السودانية بالمجمعات الاستهلاكية    بيطري الشرقية: مسح تناسلي وتلقيح اصطناعى ل 6 آلاف رأس ماشية    "معلومات الوزراء" يعلن أجندة وبرنامج عمل مؤتمره العلمي السنوي    صوامع الشرقية تستقبل 575 ألف طن قمح في موسم الحصاد    رصيف بايدن!    النمسا تستأنف تمويل الأونروا    قمة كلام كالعادة!    وزارة الدفاع الروسية: الجيش الروسي يواصل تقدمه ويسيطر على قرية ستاريتسا في خاركيف شمال شرقي أوكرانيا    صحة غزة: استشهاد 35386 فلسطينيا منذ 7 أكتوبر الماضي    ما أحدث القدرات العسكرية التي كشف عنها حزب الله خلال تبادل القصف مع إسرائيل؟    بالأرقام.. أفضل 5 لاعبين في بطولة EMEA ببجي موبايل    اليوم.. 3 مصريين ينافسون على لقب بطولة «CIB» العالم للإسكواش بمتحف الحضارة    إصابة 3 طلاب أحدهم ب 90 غرزة في مشاجرة أمام مدرسة بالغربية    الأمن الاقتصادي: ضبط 1710 قضية ظواهر سلبية.. و13 ألف سرقة تيار كهربائي    بعد عرضه في كان، مؤتمر صحفي لطاقم عمل Kinds of Kindness (فيديو)    سوسن بدر توجه رسالة ل ريم سامي بعد زواجها (صور)    لماذا يصاب الشباب بارتفاع ضغط الدم؟    بعد حادث الواحات.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي    رئيس جامعة بنها يتفقد الامتحانات بكليتي الحقوق والعلاج الطبيعي    أستاذ طب وقائي: أكثر الأمراض المعدية تنتشر في الصيف    جهود قطاع أمن المنافذ بوزارة الداخلية خلال 24 ساعة فى مواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    نهائي أبطال إفريقيا.. 3 لاعبين "ملوك الأسيست "في الأهلي والترجي "تعرف عليهم"    استكمال رصف محور كليوباترا الرابط بين برج العرب الجديدة والساحل الشمالي    جوري بكر بعد طلاقها: "استحملت اللي مفيش جبل يستحمله"    أبرزهم رامي جمال وعمرو عبدالعزيز..نجوم الفن يدعمون الفنان جلال الزكي بعد أزمته الأخيرة    تشكيل الشباب أمام التعاون في دوري روشن السعودي    موناكو ينافس عملاق تركيا لضم عبدالمنعم من الأهلي    طريقة عمل الكيكة السحرية، ألذ وأوفر تحلية    محمد صلاح: "تواصلي مع كلوب سيبقى مدى الحياة.. وسأطلب رأيه في هذه الحالة"    ياسمين فؤاد: تطوير المناهج البيئية بالجامعات في مباحثات مع «البنك الدولي»    جامعة كفر الشيخ الثالثة محليًا فى تصنيف التايمز للجامعات الناشئة    مسئولو التطوير المؤسسي ب"المجتمعات العمرانية" يزورون مدينة العلمين الجديدة (صور)    متاحف مصر تستعد لاستقبال الزائرين في اليوم العالمي لها.. إقبال كثيف من الجمهور    فيلم شقو يحقق إيرادات 614 ألف جنيه في دور العرض أمس    «السياحة» توضح تفاصيل اكتشاف نهر الأهرامات بالجيزة (فيديو).. عمقه 25 مترا    "الإسكان": غدا.. بدء تسليم أراضي بيت الوطن بالعبور    بنك الأسئلة المتوقعة لمادة الجغرافيا لطلاب الثانوية العامة 2024    25 صورة ترصد.. النيابة العامة تُجري تفتيشًا لمركز إصلاح وتأهيل 15 مايو    "الصحة" تعلق على متحور كورونا الجديد "FLiRT"- هل يستعدعي القلق؟    بدء تلقي طلبات راغبي الالتحاق بمعهد معاوني الأمن.. اعرف الشروط    خبيرة فلك تبشر الأبراج الترابية والهوائية لهذا السبب    فانتازي يلا كورة.. تحدي الجولة 38 من لعبة الدوري الإنجليزي الجديدة.. وأفضل الاختيارات    "الصحة": معهد القلب قدم الخدمة الطبية ل 232 ألفا و341 مواطنا خلال 4 أشهر    ما حكم الرقية بالقرآن الكريم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل: ينبغي الحذر من الدجالين    «طائرة درون تراقبنا».. بيبو يشكو سوء التنظيم في ملعب رادس قبل مواجهة الترجي    معاريف تكشف تفاصيل جديدة عن أزمة الحكومة الإسرائيلية    تراجع أسعار الدواجن اليوم السبت في الأسواق (موقع رسمي)    مفتي الجمهورية يوضح مشروعية التبرع لمؤسسة حياة كريمة    حادث عصام صاصا.. اعرف جواز دفع الدية في حالات القتل الخطأ من الناحية الشرعية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 18-5-2024    بدء امتحان اللغة العربية لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة والدراسات الاجتماعية بالقاهرة    المستشار الأمني للرئيس بايدن يزور السعودية وإسرائيل لإجراء محادثات    الأرصاد: طقس الغد شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رذاذ أمطار التذكار فوق رأس العاشق

بدت قطرات المطر الهابطة من السحابات العابرة تربت على رأسي لتوقظ تذكارات اليوم الأخير من أعوام كثيرة مرت على وجودي فوق الأرض ، وكل عام منها يصافح بدايات عام جديد آخر، لتصبح تلك الأيام نسيجا متشابكا يغزل أيام العمر.



هاهي عيوني تلتقط نجما متعثرا من فرط سرعته فى أثناء رحلة هبوطه إلى الأرض . وقد قيل لي إن ضوء النجوم المتساقطة قد يستغرق أعواما كثيرة وهو يهبط ، لنرى نحن سكان الأرض ضوءه من بعد ذلك. حدث ذلك في الليل الفاصل بين عامي 1958 و1959 ، حيث تصادف سقوط المطر مع سقوط النجم ذات ليل سكندري قديم ، و كنت أقف بجانب الكورنيش مترقبا حركة الموج ، وهل بإمكانه أن يهيج ليقفز فوق السور الجرانيتي ، أم أن الهواء العاصف قليلا لن يسمح له بتلك اللعبة التي تعودت عليها أمواج الميناء الشرقي .

ويمتزج ذلك بخيط تذكار، لكن مطر عنيف داهمني وأنا أسير بشارع الشانزلزيه الباريسي في منتصف الليل الفاصل بين عامي 1963 و1964، أحتضن يد الحبيبة التي تدرس هناك ، وكانت تهتز بفرح غامر لمجرد أني حضرت المؤتمر الصحفي للجنرال ديجول ، وكنت أهمس لها « أنا لا أهتم بتفاصيل ما جرى في المؤتمر الصحفي ، لكني أهتم أكثر برضوخ ديجول لتعليمات زوجته طنط إيفون والتي قامت بتركيب قفل على باب ثلاجة الطعام بقصر الأليزية كي تمنع امتداد يد الجنرال إلى باب الثلاجة لتختطف قطعة من طبق المحار أو طبقا من كبد الأوز ، وسر غلق الثلاجة بالمفتاح هو حرص طنط إيفون على صحة الجنرال الذي أنقذ فرنسا من تيه الضياع الديمقراطي الذي عاشت فيه لسنوات قبل أن يقرر الجنرال خروج فرنسا من احتلال الجزائر ، وليؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة ، ثم تظهر أمامنا بالشانزليزيه برجيبت باردو نجمة الغواية الفرنسية ، وهي تحمي نفسها من المطر بالطو من النايلون الشفاف ، وتوزع قبلاتها في الهواء على المارة بينما يقود سيارتها عشيقها الجزائري الذي إختارته حبيبا فى أثناء تصويرها لفيلم « الإحتقار « عن رواية ألبرتو مورافيا الإيطالي الأعرج والماجن .

وتطل من السماء خيوط تذكار لمطر ثالث تساقطت على سطح السيارة التاونس القديمة المملوكة لصديق عمري جراح التجميل فؤاد بشاي ميخائيل ، والذي كان يستعد للهجرة من حي الهرم إلى نيويورك، بعد عودته من حرب اليمن ، والتي شهدت عملا لا يقوم به إلا النبلاء فقط ، حين أصابت رصاصة عنق ضابط من مجموعة فؤاد القتالية ،وكان الضابط في قمة جبل بعيد عن موقع وجود د. فؤاد ، ولأن صعود الجبل كان يحمل خطر اصطياده برصاص القناص ، لذلك حرص قائد فؤاد على منعه من التحرك لإنقاذ صديقه الضابط المصاب ، فلم يأبه فؤاد بالتعليمات وصعد زحفا إلى قمة الجبل ، ولم يكن معه سوى موس حلاقة ، قطع به الخرطوم الصغير الموجود بسماعة الكشف ، ويفتح عنق صديقه بحد الموس الثاني ، ليتيح له التنفس، لأن الرصاصة اخترقت العنق ، وحمله على ظهره ليعود به إلى الموقع الأصلي ولينقله إلى صنعاء ليتم شفاؤه من بعد ذلك ، ولأسمع بنفسي تلك الحكاية منه .

تحركت سيارة فؤاد من أمام منزله بشارع عمر بن الخطاب بالهرم ، حاملة جهاز البيك آب وإسطوانتي كونشرتو البيانور رقم واحد لتشايكوفسكي، ومعها إسطوانة السيمفونية التاسعة لبيتهوفن ، لنصل إلى شارع عمر بن الخطاب بمصر الجديدة حيث منزل صديقنا الفنان بسمي ميلاد، ولم ننس شراء إثنين كيلو من السجق الذي تجيد طهيه زوجة صديقنا الفنان بسمي ، وكان فؤاد يعلق ونحن في الطريق « هل يفهم أغبياء زماننا قداسة عمر بن الخطاب كنموذج لحرمة بيوت السماء التي تتبع أي دين ، أم سيظلون على غبائهم لا ينتبهون إلى أن المصريين احبوا عمر بن الخطاب لأنه احترم الكنيسة لحظة افتتاحه المسجد الأٌقصى ورفض دخول كنيسة القيامة ، وأصر على الصلاة خارجها كيلا يدهم أي غبي أي بيت من بيوت السماء ، ولهذا السبب جاءت تسمية شارعين في القاهرة باسمه ، واحد في الجيزة والثاني في مصر الجديدة ، وكان ذلك في اليوم الفاصل بين عامي 1968 ، و1969 ؛ وتستقبلنا ضحكة صديقنا الفنان الرسام المصور بسمي ميلاد إبراهيم على البوابة الحديدية لبيته الذي علق عليه لافتة كلماتها « القصر » ، وكان القصر هو الدور المدفون تحت الأرض بالمنزل رقم واحد من شارع عمر بن الخطاب بمصر الجديدة .

ويقول بسمي « لعلك في شوق لقضاء هذا الليل بالإسكندرية حيث هي عادتك منذ أن حضرت للحياة بالقاهرة ، لأنك في شوق لتذكار الملكة الصعلوكة كليوبترا التي كانت تلتقط واحدا من العامة لتحيا معه لحظات حب مجنون ، ثم تقذفه بعيدا عنها بعد أن تأخذ ما تريد وأعطته الوهم بأنها له للأبد ، فإن صدق هو هذا الوهم ، ذلك فهناك واحد من حراسها قادر على أن ينهي حياته ليرسله إلى ما وراء الحياة نفسها؛ فالرجال عند كليوبترا كانوا مجرد أدوات متعتها ، وحتى قيصر روما بكل عنفوانه ، لم يأخذ منها سوى غواية محكمة لتنجب منه ابنا لم يصل إلى العرش ، حتى أنطونيو القائد الذي ملك قلبها ، واستقر وجدانها على حقيقة أنه الرجل الذي يكفيها عن كل رجال الدنيا ، حتى هذا الرجل ؛ وجدت في نفسها جراءة إرساله إلى ماوراء الحياة وأن تذهب معه منتحرة إلى قاع الميناء الشرقية المواجهة لتمثال سعد زغلول بميدان محطة الرمل .

كان بسمي ينطق بذلك ليؤكد لي حضور صديقي إيهاب هنداوي من الإسكندرية لنعيش معا لحظات انتقال الحياة من عام إلى عام جديد . وإيهاب هو من كان يؤكد لنا وجود آثار للملكة كيلوبترا تحت مياه الميناء الشرقي السكندري ، ولم يكن يمل الحديث عنها ، فهو العاشق لهواية الغطس.ولا أنسى أبدا كيف كان يلتهب _ قديما_ بتلك الحكايات حينما كنا نمر أمام النادي اليوناني الموجود في نهاية الشارع الذي تحده مقابر الأجانب السكندرية؛ والذي توجد على جانبه الآخر حدائق الشلالات ، وكانت حكاياته أيامها لا تمل عن ضرورة إقتحامنا بشكل أو بآخر للنادي اليوناي أو النادي الإيطالي لعلنا نعثر على صداقة مع بنات الأجانب، وكأنه يريد الانتقام لكرامة والده « هنداوي أفندي» الذي كان مدرسا للألعاب في مدرسة العروة الوثقى ، والذي إحترف جمع التبرعات من أجانب الإسكندرية للجمعيات الخيرية المنتشرة في أحياء الإسكندرية الفقيرة ، وهو من تلقى غواية إمرأة ذات نصف إيطالي ونصف مصري ، وصرف عليها مئات الجنيهات التي كسبها من بيع كوبونات التبرع والتي أصدرتها السيدة ناهد رشاد وصيفة الملك فاروق باسم الهلال الأحمر في عام 1948، وكانت تعطي من يبيع كوبونات بالف جنيه ، نسبة عشرة بالمائة من الألف ، وطبعا كانت كوبونات التبرع تلك بهدف علني هو شراء أسلحة للمقاتلين بحرب 1948 ضد العصابات الإسرائيلية ، ثم اكتشفنا بعد قيام ثورة يوليو أن ناهد رشاد أسست بهذا المال شبكة الحرس الحديدي المكون من محترفي اغتيالات ، وأوكلت لهم مهمة قتل أي شخص تشير إليه ، بدعوى أنها تحافظ على عرش الملك فاروق .

وحين تزوج هنداوي أفندي والد صديقي إيهاب من تلك الحلوة ؛ عاش معها لشهور غاية في السعادة كما كان يحكي لأبي ، فهنداوي أفندي كان صديقا لأبي أيضا . ثم أنقلبت سعادة هنداوي أفندي إلى شقاء مجنون بعد أن ضبط الزوجة الجديدة في وضع غير لائق بكابينة على شاطئ كامب شيزار . وكان شريكها في ذلك الأمر أحد أثرياء المدينة ، وهو من استطاع بعلاقاته أن يضع هنداوي أفندي في حجز قسم باب شرقي إلى أن استغاث الرجل بأبي ، وكان صاحب نفوذ بالمدينة ، وحدث أن اشترطت نصف الإيطالية نصف المصري على أن تتسلم ورقة الطلاق من يد أبي؛ فرأيتها لأول مرة ، وهي تتسلم الورقة لتسمع من أبي قوله بأن الثري الذي وعدها بالزواج لن يتزوجها ، فتنهدت بثقة بأنها تعلم ما تقول . ولم تكن تعلم أن الثري سوف يتخلى عنها ؛ لتفتح بعد هذا التخلي ناديا ليليا لإستقبال جنود حفظ السلام الذين كانوا يفصلون بين مصر وإسرائيل بعد حرب 1956 , وكنت كلما مررت على هذا النادي الليلي الذي تملكه أتذكر جمالها الذي جمع بين حيوية آفا جاردنر والدفء الغجري لصوفيا لورين. وحين كنت أسير بصحبة صديقي إيهاب إبن هنداوي أفندي بجانب ذلك النادي الليلي ، كان يبصق على جداره ، وهو يقول « سرقت أبي ابنة الأبالسة «. ولم يكن يريد تذكر أن والده بعد أن خرج من قسم الشرطة وطلق تلك اللعوب ، عاد إلى بيته الأصلي الموجودة به زوجته وأم أولاده الخمسة ، ليلقي بنفسه من بلكونة الطابق الثاني ، ليصير عاجزا يتحرك بعكازين طوال الوقت . ونقلوه من مدرسة العروة الوثقى ليكون أمينا لمكتبة مدرستا الثانوية ، وكان يحترف رواية كاذبة واحدة ، هي أنه أصيب في حرب عام 1948 ، حين كان يحارب في فلسطين لمقاومة عصابات الصهيونية . ولم نكن نصدقه ولا نعاير صديقنا إيهاب بروايات أبيه ، لأن إيهاب المتفوق بغير حد في بطولات السباحة وهو من كان يرفع اسم مدرستنا عاليا .

.............

تتابع التذكارات من رذاذ المطر لتعود بي _ بسبب موسقى كونشرتو البيانيو لتشيكوفسكي ،لتسافر بي إلى اليوم الفاصل بين عامي 1958 ، و1959 فى أثناء وقوفي على رصيف الكورنيش، خوفا من سقوط زجاجة ما من شباك عمارة مطلة على البحر ، حيث احترف بعض السكان السكندريين إلقاء تلك الزجاجات وكأنها بديل عن القلل التي تأتي سيرتها عبر القول الفرحان برحيل ضيف ثقيل ، فنقول « ارمي وراه قلة أو اكسر وراه زير » ، فكأننا نودع العام الذي رحل راغبين في نسيان تجاربه المؤلمة ، لعلنا نملك أحلاما أخرى طازجة وغير ملوثة بالفشل .ولن أنسى كيف تذكرت لحظة رؤيتي لإيهاب ابن هنداوي أفندي أني نظرت إلى ساعتي في اليوم الفاصل بين نهاية ديسمبر عام 1958 وبداية نهار اول يناير 1959

، جاء التذكار لأني ركزت عيوني لحظتها على ساعتي لأجدها الحادية عشرة والنصف ، وخشيت ان يدق تليفون بيتنا بصوت الحبيبة عند الثانية عشر تماما فلا تجد ردا مني ، فأسرعت لاهثا لأعود إلى البيت مخترقا الشارع الفاصل بين حدائق الشلالات ، وبين شارع بيتنا . وأضحك لتمثال لملائكة وهم يحملون تابوتا يرتفع بجانب سور مقابر الأجانب ، والتمثال من نحت سيد من سادات النحت في عالمنا هو « رودان « . وكانت الملائكة البرنزية تحمل تابوت واحد من أثرياء الثغر السكندري ، واستطاع هذا الثري إقناع رودان بأن ينحت له هذا التمثال المحتضن لتابوته لأنه لا يرغب في البقاء محبوسا في تابوت تحت الأرض ، ويفضل أن يذوب جسده داخل تابوت من المرمر الصافي ، و كان التمثال يرتفع عاليا ليظهر لكل من يسير في الشارع ، وكأن صاحبه يرفض أن يكون بين الأموات في مدافن الأجانب وكنت أقول دائما لهذا التمثال» والله صاحب مزاج يا إبن المجنونة « . نعم فمن منا يمكن أن يفكر في نهاية حياته داخل تابوت ؟ لكن الإسكندرية هي مدينة تضم جنونا داخل أي إنسان يعيش فيها ، ويخيل إلي أن أبناء هذه المدينة يطلون على الكون بعيون الخيال موجهين سؤالا واحدا لكل سكان الأرض « ماذا يعجبكم في الحياة العاقلة الموزونة المدروسة ؟ إنها حياة مملة ، فليحيا الجنون.

ولا أدري لماذا تسرب في أعماقي ضحكة ، لأن الجنون ليس حقا مقصورا على أهل الإسكندرية ، فقد صافحت عيوني سطور الجريدة التي تحمل حكايات ابن أسيوط الذي أطلق النار على شقيقته فى أثناء سيرها بثوب الزفاف وبجانبها عريسها ، فأمسكت بيد العريس ، فغار شقيقها ليردي العريس قتيلا بثلاث رصاصات متتالية ، وقلت لابد أن هذا القاتل مجنون أيضا ، وما أن أنهيت قولي هذا حتى خرج من خيالي صورة مأذون قرية أبي الذي زارنا في الصباح ليوقع عقد شراء آخر فدان تملكه أسرتي ، وبعد أن تسلمت منه ثمن الأرض ، راح يثرثر بحكايات القرية ، وظل يقسم بأغلظ الايمانات أن أهل القرية مجانين ، ذلك أنهم استقبلوا خبر زواج تفيدة خياطة البلدة الأرملة ذات الخمسة والثلاثين عاما من خطيب ابنتها الطالب بكلية الشريعة ، بعد أن دخل البيت طالبا يد الإبنة ، لكنه وقع في هوى الأم ، ولما كانت الأم تملك خمسة فدادين بجانب إحترافها لخياطة ملابس أكابر نساء القرية ، لذلك لم يندهشوا من هذا الزواج ، لكنهم اندهشوا عندما علموا أن العريس هرب ذات صباح ومعه الابنة التي كان من المفروض أن يتزوجها. وظلت القرية لسنوات لا تعلم عن الاثنين أدنى خبر ، على الرغم من إبلاغ الشرطة والبحث عن الإثنين في المستشفيات ، ثم ظهرت البنت بعد ذلك بشهور وهي راقصة مشهورة تنشر الصحف أخبارها ، ووراءها عازف الرق الذي كان طالبا بكلية الشريعة . وحين تم القبض علي الراقصة لاستجوابها عن علاقتها بزوج الأم ، أجابت بأنها لم تتزوجه ولكنه قادها إلى شارع محمد علي لتصبح هذه الراقصة التي تكسب الآلاف , وأقر طالب الشريعة السابق أنه أرسل قسيمة الطلاق إلى زوجته الأولى ، وليس عليه أي حكم جنائي ، لذلك فليس من حق أحد أن يسجنه ، أو يحاسبه ، فقد تزوج على سنة الله ورسوله وطلق على سنة الله ورسوله . وأظهر كعب حوالة بريدية بعدة مئات من الجنيهات أرسلها إلى تفيدة الخياطة ، والمبلغ هو قيمة مؤخر صداقها ، مضافا له نفقة عام كامل . وراح مأذون القرية يقول « الناس قلبت آيات السماء ، فالدين يقول إن السماء خلقت الإنسان فاجرا وعليه أن يحمي نفسه من الفجور بالتقوى . لكن البشر استطابت لهم حياة الفجور لذلك نسوا حكاية التقوى تلك » , ولم يتذكر مأذون القرية أنه شخصيا احترف لسنوات عديدة نشر شائعة بين أهل القرية بأن الحكومة ستعفي العيال من التجنيد إن ثبت زواجهم ، وكان يعقد زيجات أطفال بشهادات تسنين مزورة يصدرها ويحررها مع طبيب الوحدة الصحية ، و لم يكف الطبيب أو المأذون عن ذلك إلى أن مات الإثنان في حادث سيارة . و بقي من المأذون في قلبي إيمان بأن الجنون موجود داخل كل كائن.

.............

وأصل إلى المنزل ليدق التليفون في الثانية عشرة تماما ليأتيني صوت الحبيبة ، لتتمنى لي عاما سعيدا ، فأتمنى أن أسكن في هذا الكوخ الذي أراه في قاع صوتها الموسيقي ، لأكون ذائبا بكل وجودي في كل وجودها ، لنغلق التليفون بعد ساعة من الحوار الذي يضج بموسيقى أشواق إثنين من العشاق ، لم يمر على فراقهما سوى ساعات بسيطة ، فقد كنا معا بالكلية حتى الرابعة بعد الظهر ، وتواعدنا على اللقاء التيلفوني في الثانية عشرة عند ميلاد العام الجديد . وكان لدينا الوقت لأستذكر أنا محاضرات الفلسفة ، وتستذكر هي محاضرات الأدب الفرنسي ، ومن المؤكد أننا تناقشنا مع أهالينا عن أحوال العالم ، لكن كان أي منا يخفي الآخر داخل وجوده ، فنحن وحدنا من نعلم أن أيا منا موجود داخل الآخر بلا افتراق . ولن تمر سوى ساعات قليلة للغاية لنلتقي في الكلية من جديد . وما ان تنتهي محاضرة تحضرها وأخرى أحضرها ، حتى نعاود اللقاء ، لتخرج الكلمات من فمها معانقة الكلمات من فمي ، وكأن كل منا يقتسم الجمل والحروف فننطقها ، فقد إمتلك الحب إدارة حوارنا بما يرغب ، فلا نختلف ، لأننا نذوب اتفاقا .ولذلك أنهيت حوارنا التيلفوني بقولي « أنا لا أوافق أهل الإسكندرية على حكاية إلقاء الزجاجات من الشبابيك إلى الشارع ، رغبة في وداع عام لم نحبه لعلنا نعيش عاما جديدا نحبه ، فأيامي معها هي يوم واحد لا يمكن قياسه بالساعات أو الشهور ، فهو يوم ممتد منذ ميلاد إي منا إلى أن ينتهي الكون .

.............

وفي نفس ذلك الليل الفاصل بين نهاية 1963 وبداية 1964 قررنا _ الحبيبة وأنا _أن نبدأ عامنا الجديد في قمة المونمارتر ، ولا أعرف كيف استوعب وجودي كل موسيقى الإبتهاج الشجي ، وأنا أقف مع الحبيبة أمام البيت الذي تعارك فيه جوجان مع فان جوخ ، لأن كل منهما يريد من الآخر أن يرسم بأسلوبه ، ونفاجأ بأن ضوءا بسيطا سطع من حجرة هي حجرة حارس البيت ، وتمتد أمام حجرة الحارس حديقة متسعة , وكانت غرفة الحارس مسكونة بشخص أعرفه تمام المعرفة ، هو كلود إستييه رئيس تحرير جريدة الليبراسيون ، وهو من سطع نجمه كواحد من الصحفيين الكبار الذين شاركوا في المناداة باستقلال الجزائر . وظهرت صديقته كريستين التي تقوم برسم صفحات مجلة الإكسبريس ، ليرحب الإثنان بنا ، فتقول كريستين « هل حضرت لترى عاما جديدا من فوق هضبة الممارتر ؟ العام الجديد سيولد كبريء ثم ستقوم بتلويثه الولايات المتحدة كعادتها منذ أن شاركت في تحرير أوربا .

ولم أندهش لهجوم كريستين على الولايات المتحدة لأن الجنرال ديجول بذات نفسه قرر أن يلقي بحلف الإطلنطي خارج باريس ، ليستقر في بروكسل عاصمة بلجيكا ، لكن الولايات المتحدة لم ترغب في مزيد من تطاول ديجول عليها وعلى إسرائيل ؛ لذلك اتجهت أجهزتها في أوروبا لتعمل ضده منذ عام 1964 وحتى أستوت لها تكوين معارضة تضم جزءا من اليسار المتطرف ، وكثير من الفوضويين ، ونسبة لا بأس بها ممن يتمنون أن تغدق عليهم الولايات المتحدة ببعض من دولاراتها ، وحاولت الولايات المتحدة مساندة خصم سياسي لديجول في انتخابات عام 1965 هو جاستون دي فير ، لكن اعتذاز فرنسا بديجول لم يجعلها تقبل إنتخاب دي فير ، فبقي ديجول في الحكم إلى أن ثار الشاب بواسطة مجموعة من الشباب المتمرد ليتنازل ديجول عن حكم فرنسا ولتعود باريس إلى حضن الخضوع الرتيب لمن سماها الفيلسوف ماكسيم ردونسون « نعم لإمريكا إمبراطورية شر . ويجب على العالم الوقوف في وجه شرورها » . وتبعه من بعد ذلك فيلسوف آخر هو جارودي ، وأسماها« الدولة التي تسرق الأمل من عالمنا », وطبعا كان مصير جارودي هو الإنزواء خصوصا بعد أن هاجم الصهيونية بشكل شديد الوضوح إلى أن مات بالإكتئاب

.............

أخذ رذاذ مطر التذكار يدق فوق رأسي لتأتي صورة من أحببتها ورحلت عن عالمنا ، لأهمس لها « ليست الحماقة هي رحيلك ، ولكن الحماقة أن صورتك موجودة داخل كل قطرة مطر تسقط على ذاكرتي .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.