أخبار مصر اليوم: مدبولي يكلف بإحياء مسار خروج بني إسرائيل ضمن مشروع التجلي الأعظم.. وظائف جديدة بمصنع الصلب في الجيزة    لجنة سكرتارية الهجرة باتحاد نقابات عمال مصر تناقش ملفات مهمة    توقيع اتفاقية تعاون لتطوير حلول رقمية مبتكرة فى مجال الرعاية الصحية باستخدام الذكاء الاصطناعى    " المشاط " تلتقي وزيرة الاقتصاد والتخطيط التونسية ومدير عام صندوق الأوبك للتنمية الدولية    محافظ الغربية يتابع أعمال رصف وتطوير شارع عمر زعفان في بسيون    يمنيون ينظمون فعالية تضامنية مع غزة على متن سفينة إسرائيلية محتجزة    الاتحاد الأوروبي ينتقد مناورات الصين واسعة النطاق قبالة تايوان    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: الفيتو الأمريكي الحاجز الوحيد أمام حصولنا على العضوية الكاملة    لاعب الترجي: سنعود لتونس بلقب دوري أبطال أفريقيا    الأرصاد تكشف مفاجأة عن الموجات الحرارية خلال صيف 2024 (فيديو)    العثور على جثة متحللة لمسن في بورسعيد    صبا مبارك تخطف الأنظار على السجادة الحمراء في مهرجان كان    أول تعليق من أحمد الفيشاوي بعد ظهوره الغريب في عرض فيلم بنقدر ظروفك    دنيا سمير غانم «روكي الغلابة» وتتحدى بالبطولة السينمائية في مواجهة تايسون    الوجودية واختياراتنا في الحياة في عرض «سبع ليالي» ب مهرجان نوادي المسرح    "الصحة": اختتام ورشة عمل "تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية" بشرم الشيخ    قرار قضائي جديد بشأن التحقيقات مع سائق «ميكروباص» معدية أبو غالب (القصة كاملة)    طلاب يتضامنون مع غزة من على متن سفينة إسرائيلية يحتجزها الحوثيون    عبير فؤاد تحذر مواليد 5 أبراج في شهر يونيو: أزمات مهنية ومشكلات عاطفية    انقطاع التيار الكهربائى عن بعض أقسام مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح    محمد نور: خطة مجابهة التضليل تعتمد على 3 محاور    في إطار تنامي التعاون.. «جاد»: زيادة عدد المنح الروسية لمصر إلى 310    روديجر: نريد إنهاء الموسم على القمة.. وركلة السيتي اللحظة الأفضل لي    الفريق أول محمد زكى: قادرون على مجابهة أى تحديات تفرض علينا    البورصات الأوروبية تغلق على ارتفاع.. وأسهم التكنولوجيا تصعد 1%    وزير النقل خلال زيارته لمصانع شركة كاف الإسبانية: تحديث وتطوير 22 قطارًا بالخط الأول للمترو    انفجار مسيرتين مفخختين قرب كريات شمونة فى الجليل الأعلى شمال إسرائيل    «بوتين» يوقّع مرسوما يسمح بمصادرة أصول تابعة للولايات المتحدة في روسيا    ما هو منتج كرة القدم الصحفى؟!    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال    محافظ بورسعيد يشيد بجهد كنترول امتحانات الشهادة الإعدادية    متى وكم؟ فضول المصريين يتصاعد لمعرفة موعد إجازة عيد الأضحى 2024 وعدد الأيام    بالفيديو.. خالد الجندي: عقد مؤتمر عن السنة يُفوت الفرصة على المزايدين    خاص.. الأهلي يدعو أسرة علي معلول لحضور نهائي دوري أبطال إفريقيا    افتتاح كأس العالم لرفع الأثقال البارالمبي بالمكسيك بمشاركة منتخب مصر    أجمل عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024 قصيرة وأروع الرسائل للاصدقاء    وزير الري: نبذل جهودا كبيرة لخدمة ودعم الدول الإفريقية    من الجمعة للثلاثاء | برنامج جديد للإعلامي إبراهيم فايق    قبل قصد بيت الله الحرام| قاعود: الإقلاع عن الذنوب ورد المظالم من أهم المستحبات    الجودو المصري يحجز مقعدين في أولمبياد باريس 2024    وزارة الصحة تؤكد: المرأة الحامل أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرى    محافظ كفر الشيخ يتفقد السوق الدائم بغرب العاصمة    ما حكم سقوط الشعر خلال تمشيطه أثناء الحج؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    فيديو.. ابنة قاسم سليماني تقدم خاتم والدها ليدفن مع جثمان وزير الخارجية الإيراني    رئيس الوزراء يتابع مشروعات تطوير موقع التجلي الأعظم بسانت كاترين    رئيس الوزراء يتابع موقف تنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل    محافظ أسيوط يناشد المواطنين بالمشاركة في مبادرة المشروعات الخضراء الذكية    الكشف على 1021 حالة مجانًا في قافلة طبية بنجع حمادي    رئيس وزراء أيرلندا: أوروبا تقف على الجانب الخطأ لاخفاقها فى وقف إراقة الدماء بغزة    ننشر حيثيات تغريم شيرين عبد الوهاب 5 آلاف جنيه بتهمة سب المنتج محمد الشاعر    تاج الدين: مصر لديها مراكز لتجميع البلازما بمواصفات عالمية    الرعاية الصحية تعلن نجاح اعتماد مستشفيي طابا وسانت كاترين بجنوب سيناء    المراكز التكنولوجية بالشرقية تستقبل 9215 طلب تصالح على مخالفات البناء    الهلال السعودي يستهدف التعاقد مع نجم برشلونة في الانتقالات الصيفية    تعليم القاهرة تعلن تفاصيل التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الأبتدائي للعام الدراسي المقبل    رجل متزوج يحب سيدة آخري متزوجة.. وأمين الفتوى ينصح    حماس: معبر رفح كان وسيبقى معبرا فلسطينيا مصريا.. والاحتلال يتحمل مسئولية إغلاقه    الداخلية تضبط 484 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1356 رخصة خلال 24 ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليس من اللائق أن تحبها أكثر من اللازم

ما أن يقترب العام من نهايته حتى يهديني ذكرى ميلاد تلك اللحظة التي وقفت فيها أمامها ، فوجدت كل تاريخي قد إجتمع في رسالة واحدة تضم تفاصل عمري ؛ لتسافر من عيوني إلى عيونها ، وموجز الرسالة هو كلمة واحدة هي « أحتاجك « . وفي نفس اللحظة أستقبلت عيوني رسالة تحمل كل تاريخها موجزة في كلمة واحدة « أنا لك إلى الأبد ».
ومن بعد ذلك بدأ كل منا ينظر إلى قدره المتجسد أمامه ، لتعزف موسيقى الفرح والشجن في زحام له صفاء شديد ، كأن هناك فرقة موسيقية تعزف مقطوعة «الباتيتك» لبيتهوفن ، لتمتزج تلك الموسيقى بأغنية المطرب محمد رشدي « صياد ورحت أصطاد صادوني .. عداوية « وهي التي نسجها هذا الموهوب المرتوي بآهاتنا وأحلامنا عبد الرحمن الأبنودي. أما كيف تمتزج الموسيقى الكلاسيك بالموسيقى القادمة من عمق الصعيد وأشرعة مراكب النيل ، فذلك لم يكن لي به أدنى دخل ، ولست إلا راويا لما حدث . وعلى الرغم من أن اللقاء كان في الممر الضيق الفاصل بين مدرجات آداب الإسكندرية وبين الفناء الذي توجد به كافتريا الكلية، إلا أن صوت أمواج البحر كانت تصل إلينا، فالشتاء العاصف كان يحمل الموج عاليا قافزا فوق سور الكورنيش، وكأن صوت الموج القافز فوق الكورنيش يردد جملة واحدة « ستكون لك بأعماقها كل الوقت، لكنك ستكون لها بعض الوقت ، وسيفرض عليك تاريخ عائلتها أن تعيد تشكيل نفسك على مزاج ذلك التاريخ ، لكنك لن تستطيع ، فتاريخ عائلتك لن يكون هو العائق بينكما، فقط سيكون العائق هو عدم قدرتك على تقدير مسارات حياتك ، فأنت لست هذا الكائن الذي يمكن أن يقوم أحد بتشكيله على هوى الركود المبتسم لقيود “المفروض والواجب” . لأن « المفروض والواجب « في حياتك يختلفان عن المعنى المتفق عليه عند أصحاب الأرض الشاسعة الموروثة من الأقدمين ، حيث كان جدها على سبيل المثال يمسك بالكرباج ليضرب أي زوج وأي زوجة من الفلاحين إن إشتكى أحدهما من الآخر ، فالشكوى من هؤلاء عند الجد يعني رغبة أي منهما في التزويغ من العمل الشاق في الحقل ، أو أن أحدهما سيدعي على الآخر بأمور لم تحدث ، فضلا عن أن من يعملون في أرض الجد ليس من حقهم الغضب أو ممارسة أي مشاكسة زوجية. أما «المفروض والواجب «عندي فهو شديد الاختلاف ، لأني أنتمي لأسرة يمكن للصغير فيها أن يناقش أي كبير في أي أمر، بشرط واحد هو اختيار الكلمات التي تقدم الاحترام للكبير ويمنع غلظة الكبار مع الصغير، كما أن ميراث والدي عن أبيه لا يزيد عن أربعين فدانا ، وهو رقم يقل عما كتبه جدها باسمها فور أن سمع ذات نهار قديم قبل ثورة يوليو بسنوات ؛ أن أحد أعضاء مجلس النواب اقترح تحديد ملكية العائلات الكبيرة للأراضي الزراعية ، فكتب باسم كل مولود من أحفاده قرابة المائة فدان .
ولم أكن أعلم أن لعدد الأفدنة الكبيرة المملوكة لأي عائلة تحدد نوعية «المفروض والواجب « والتي تختلف عن « المفروض والواجب « لأصحاب الملكيات الأصغر . ولم أكن حين دخلت الجامعة أقيس الأمر بنفس تلك المقاييس ، ولكن كان هناك حاجز آخر، هو إختلاف مجال الدراسة ؛ فهي كدارسة للأدب الفرنسي يمكنها أن تقوم بتحليل شخصية مدام بوفاري ، أو شخصية العاشق الذي أجاد تمثيل جراءة الحب على المتزوجة تقليديا في رواية «الأ حمر والأسود» التي كتبها فيلسوف الحب المدعو « ستندال »، أما دراستي فكانت الفلسفة وعلم النفس والإجتماع ، وحين جئنا إلى «علم الإجتماع » كان علينا التدرب عمليا بزيارات لأسر الأحداث الموجودين على ذمة قضايا في مكان يسمى « إصلاحية الأحداث « . ومجرد زيارة مبنى إصلاحية الأحداث كفيل بأن تقرر بينك وبين نفسك أنك في موقع تم بناؤه بواسطة زبانية جهنم ، فالوجوه تضج بالخداع الفواح الذي لم تلمسه ذرة من البراءة في أي وقت ، وآثار الندوب على الوجوه تحكي لك بصمت عن فنون ممارسة الوحشية فور إطفاء أنوار المكان ليلا . وإذا ما تم تكليفك بأن تدرس حالة واحدة من الأحداث ، ستجد نفسك كما وجدت نفسي في زيارة لمنطقة المقابر حيث يسكن أهل الحدث الذي كلفني أستاذ علم الإجتماع بدراسة حالة أسرة هذا المتهم بالسرقة والنشل. أيقنت لحظتها أن تأميم عبد الناصر لقناة السويس وبناء السد وزرع مصر من أقصاها بالمصانع والمزارع لن يكفي لتشغيل كل هؤلاء الذين يعيشون على هامش الهامش . وما أن تركت منطقة المقابر مزدحما بضجيج اليأس ؛ ووصلت إلى مبنى الكلية، سمعت ما لم أكن أتوقعه ، فقد فاجأني زميل بقرار إلغاء الزيارات الميدانية المقررة على طلبة قسم الفلسفة والاجتماع وعلم النفس بناء على تقرير من المباحث العامة التي تتابع النشاط السياسى بين شباب الجامعات ، وقد أكدت تقارير المباحث أن العديد من الطلبة الممارسين لتلك الزيارات الميدانية؛ يثرثرون كثيرا في السياسة ويتحدثون عن الفقر ، وهم مادة خصبة يمكن للشيوعيين أن يجندوهم ، وضحكت من قلبي لأننا في الأسبوع الأسبق تلقينا خبر إلغاء تدريس الفلسفة الحديثة نظرا لأنها تشجع على الإلحاد وازدراء الأديان كما قالت البرقية الصادرة من مكتب رئيس المجلس الأعلى للجامعات السيد كمال الدين حسين ، وهو من كان موصوفا بأنه طيب القلب وتم ظلمه بتوليه هذا المنصب المسئول عن عموم التعليم في مصر . وكان واحدا من أساتذتنا هو الدكتور سعد جلال أستاذ على النفس يؤكد أن الرجل لا يصلح لجلوس على نفس المقعد الذي جلس عليه طه حسين ، وأن جمال عبد الناصر أخطأ خطأ جسيما بتعيين هذا الشخص في هذا الموقع ، وكان دليل الدكتور سعد جلال هو المقارنة بين البعثة التي أوفده طه حسين للدراسة بجامعة ستانفورد ، فقد كان طه حسين يعقد مقابلة شخصية بكل مبعوث ، ولما كان سعد جلال هو الأول بإمتياز على طلبة قسم التاريخ لذلك قام طه حسين بتحويل مسار دراسته بأن سأله « ألا تريد أن تدرس تاريخ حياة الأشخاص الذين يحتاجون لدراسة حياتهم كي يجعلوا حياتهم أكثر راحة؟ » وهكذا عرض طه حسين على سعد جلال أن يتحول من دراسة تاريخ الشعوب إلى دراسة علم النفس . وكان د. سعد جلال يقارن بين بعثته إلى ستانفورد وبين بعثة أخرى تقررت لواحد من طلبة آداب الإسكندرية . وكان هذا الطالب قد قضى بالجامعة أربعة عشر عاما لأنه كثير الرسوب ، ولكنه كان من الشباب الذي يجيد جمع الحشود أثناء أي زيارة كمال الدين حسين لأي كلية بأية جامعة .
..............
كنت أقارن دراستي للفلسفة وعلم النفس والاجتماع في قسم واحد من أقسام آداب الإسكندرية ، محدثا نفسي بأننا ندرس قشور كل علم من العلوم الثلاثة ، وأننا لن نتقن أي علم منها ، وكنت احسد الحبيبة التي تدرس الأدب الفرنسي ، وتستمتع بقراءة تاريخ حياة فلوبير مؤلف « مدام بوفاري » وأضحك لها وهي تمسك مضرب التنس في نادي إسبورتنج السكندري ؛الذي كان يضم خلاصة القمة في المجتمع السكندري ، ولم يلحق به بعد ثورة يوليو إلا فئات الحكم الجديد. وحين دعتني الحبيبة للعب معها في ملعب التنس ، كان من السهل عليها أن تغلبني لسبب بسيط هو أن قضيت الليل كله أكتب لها كلمة واحدة في كراسة كاملة ، والكلمة هي « أحبك » وبجانبها قولي « لا أطيق الحياة دون أن أرى نفسي في عيونك » . وما أن فتحت الكراسة وقرأت السطر الأول حتى اضطرم وجهها بحمرة الفرح ، وجعلتها تقسم بالله أن تقرأ الكراسة كلها في ليلة واحدة ، فقالت « معنى ذلك أن أصاب بالجنون لأني سأحتاجك بجانبي ولن تكون موجودا لأننا لا نعيش معا في بيت واحد». أجبتها بأني سأكون بجانب التيلفون ، لتحدثني حين تزهق من قراءة « أحبك .. ولا أطيق الحياة دون أن آرى نفسي في عيونك» . فقالت « لاأعدك «. لكن جرس التليفون قطع سكون منزلنا في الثانية عشر منتصف الليل ، وأضاء صوتها أعماقي وهي تقول « حرام إنك تتعب نفسك وتكتب كلمة وجملة كل تلك المرات « . اجبت : لو أن فلوبير الذي قام بتأليف رواية مدام بوفاري فعل ذلك مع الغازية التي أحبها حين زار مصر ، وزارها في منفاها ، لأن أحد أبناء أسرة محمد علي أحبها ، ورفضته ، فقام بتحديد إقامتها بإحدى قرى الصعيد ، لو أن فلوبيبر فعل ذلك مع الغازية التي سحرته لسافرت معه إلى باريس حيث دعاها إلى ذلك ، لكنها رفضت لانه لم يقل لها باللغة العربية أنها حبيبة قلبه « .
ضحكت الحبيبة وسألتني « كيف سيكون لنا بيت واحد ؟ أجبتها بأني سأواصل الليل بالنار في التدريب الصحفي ليتم تعييني في روز اليوسف « . سألتني : هل ستكون كإحسان عبد القدوس أم فتحي غانم أم أحمد بهاء الدين ؟ . قلت بثقة : سأكون أنا ولن أكون أحدا غيري ، هذا ما اتفقت عليه مع فتحي غانم على وجه التحديد ، حين سألني في أي فرع سأمارس العمل الصحفي ؟ فأجبته « سأمارس التحقيق الصحفي عن كل ما يخص الرجل والمرأة » ، وضحك فتحي غانم لحظتها ليقول لي « معنى ذلك أنك ستناقش علاقة كل شيء بأي شيء ، فالعالم موجود من أجل الرجل والمرأة ، سياسة ، حرب ، سلام ؛حب ، فن ، كل الدنيا معلقة في العلاقة بين الرجل والمرأة .
ومازلت أذكر كيف أخبرني بأني سأكون أول من يطلب تعيينه بمجلة صباح الخير بعد تجربة مثيرة . فقد أنهى ذات أربعاء إجتماعا مع المحررين الذين سبقوني ، وكنا في الأول من يوليو 1959 ، وعرض عليهم أن يسافر أي واحد منهم للإسكندرية ليأتي من هناك بأخبار وقصص الصيف ، فلم يوافق أحد منهم على السفر . وحين أخبرتني زميلتي نجاح عمر بذلك ، دخلت طالبا الإذن بالسفر ، فقال « لكن أنت لم يتم تعيينك ولا أستطيع صرف بدل سفر لك » قلت: حين أعود يمكنك أن تكتب لي مكافأة « . وكنا في الثانية عشرة ظهرا ، ونزلت لأعرض على سائق تأكسي أن يقضي معي 14 ساعة مقابل خمسة عشر جنيها ، وهو مبلغ يبدو كالثروة الهائلة بالنسبة لذلك الزمن . وسافرت إلى الإسكندرية لأدور على أقسام الشرطة وكازينوهات البلاجات ، ومقهى حراس الشواطئ ، ولأعود إلي بيت الأسرة لأكتب قرابة المأئة حكاية وخبر ، ونزلت لأرسل رسالتي إلى فتحي غانم لتصله بطائرة مصر للطيران التي تغادر الإسكندرية في التاسعة والنصف لتصل في العاشرة ، ولتكون على مكتبه في الحادية عشرة صباح الخميس . وحدثت أستاذي فتحي غانم تليفونيا ، فقال لي « فور أن نفتح أبواب التعيين للمحررين تحت التمرين ستكون أنت أول من يتم تعينيهم .
وكان هذا الوعد سببا في منحي لنفسي إجازة لمدة ثلاثة أيام قضيتها في منزل الأسرة ، مع قضاء النهار على بلاج ميامي ، لأرى حبيبة القلب ، ولأرى عبد الحليم حافظ وهو يملي على محاميه مجدي العمروسي خطابا إلى شركة مرسيدس بلون السيارة التي قرر إهداءها له كمال أدهم رجل الدولة السعودي. قال عبد الحليم لمجدي العمروسي» هو لون عيونها إيه ؟ « وحين حدثت الحبيبة عما قاله عبد الحليم أشارت هي إلى كابينة مواجهة لكابينة إحسان عبد القدوس قائلة « الحلوة اللي قاعدة هناك دي عيونها بنفسجي قريبة من الأخضر « . فضحكت كثيرا على دقة الحبيبة في تحديد لون إمرأة كان الشاطئ كله يعلم أنها طلبت الطلاق لتتزوج من عبد الحليم .
ولم أكن أعلم أني حين قررت أنا والحبيبة أن نلتقي في سينما فلوريدا الصيفية ، أن حبيبة عبد الحليم ستجلس في الصف الأخير وسيدخل عبد الحليم في منتصف الفيلم ليجلس بجانبها. وقد فوجئنا بهما خلفنا مباشرة .
..............
لم أكن أعلم أن طلبي للقاء والد الحيبية سيكلفني رفضه ، حين سألني عن رأيي في التأميم والإصلاح الزراعي ، وفوجئ بأن أفكاري تقترب كثيرا من أفكار ينادي بها جمال عبد الناصر ، بل ورويت له ما سبق وشاهدته في قاع الإسكندرية وقصة من يعيشون في المقابر ، ويوجد أبناؤهم في إصلاحية الأحداث ، هنا أيقن الرجل أنه أمام شاب متهور قد تقوده أفكاره إلى السجن ذات يوم قادم . وأعلن رفضه لفكرة الزواج خصوصا وأن الحبيبة مرشحة لبعثة باريسية .
..............
لم يدرس أحد طاقة التحدي التي كانت موجودة في قلبي ، ولكن فتحي غانم هو من رأى تلك الطاقة ، فقال لي فور رؤيته لي حزينا بعد رفض والد الحيبية زواجنا «لقد وعدتك بالتعيين ، وأحب أن أبلغك بأنه تم تعيينك بمرتب قدره سبعة عشر جنيها ، فإن كانت قادرة على أن تعلن قرارها بالزواج منك ، بدلا من أن تسافر إلى البعثة ، فهذا يسهل عليك حياتك ، أو على الأقل يمكنها أن تسافر وتلحق بها وتتزوجا هناك . أو إن لم يناسبها أي عرض من الإثنين ، فدعني أقول لك : ليس من اللائق أن تحبها أكثر من مستقبلك ».
أجبته « لا أظن أن هناك حبا أكبر منها ، لأني أعيش في داخل بئر خيالي ، كل جدرانها هو صورتها ، وأصعد إلى السحاب ، فأجدها هناك .
وضحك فتحي غانم قائلا « نحن نحتاج إلى من يعيشون جنون الإخلاص العاطفي حتى ولو يتوهمونه «. وكان فتحي غانم يعلم أني لا أتوهم .
..............

طاحونة الأيام تجري بي لتسافر هي إلى باريس لدراسة الكاتب الذي أحببته مارسيل بورست صاحب الرواية التي كانت لا تفارق فتحي غانم في نصها الفرنسي « البحث عن الزمن المفقود «؛ والتي كان ينقل بضعة صفحات منها حين يقابل موقفا تصعب معالجته في إحدى رواياته ، أما أنا فقد قادني عملي لأدور مصر من اقصاها إلى أقصاها ، بحثا عن طريقة لا أحب بها حبيبتي أكثر من اللازم ، فأجدني في كل محافظة من محافظات هذا البلد أحبها أكثر .
وأفاجأ ذات يوم بأن علي متابعة رحلة دخول فرقة من لجان تصفية الإقطاع التي كان يرأسها عبد الحكيم عامر نائب جمال عبد الناصر ، الى قرية جد الحبيبة ، وكان الموجود بقصر الجد هو خالها الأكبر ، الذي إنفجر شريان مخه لتأتيه السكته الدماغية فور سماعه بخبر وجود لجنة لتصفية الإقطاع قد دخلت القرية التي تملكها الأسرة من ألفها إلى يائها ، بعقود بيع صورية تمت قبل قيام ثورة يوليو ولا يملك أحد أكثر من مائة فدان . وبدأت أبحث في وجوه الفلاحين عن أي مضروب بكرباج هذا الخال.
ولم أتابع جولاتي مع لجان تصفية الإقطاع لأني كنت قد حصلت على إذن السفر إلى باريس وقطعت تذكرة على المركب سوريا لاصل إلى فينيسيا ثم بالقطار أصل إلى باريس . وكل ذلك لأنفذ قرار قلبي بأن أحبها أكثر ، فما فائدة الحب إن كانت الحبيبة في بلد وأنا في بلد آخر ؟ الفائدة الوحيدة هو أن أهمس لها أحبك وتكون بجانبي .
وحين ألتقيت بالحبيبة في باريس قالت لي « هل ذهبت إلى قريتنا لتشمت في عائلتي ؟ « أجبتها : أنت تعرفين أن أصل عائلتك من المماليك ، أي أن أحدا منهم لا يملك شرفا أحسده عليه « قالت: جمال عبد الناصر أفسدك فأنت ابن الفلاحين ، وافسدني لأني لا أطيق قبول فكرة وضع الحراسة على أرض عائلتي ولا أطيق أيضا مجرد التفكير في كراهية من قام بتأميم قناة السويس وبدأ في بناء السد العالي .
..............
ورغم ذلك لا يمكن تخيل أن دسائس صغيرة بدأت تتسرب إلى نسيج علاقتنا ، لأني لم أكن على هوى أي فرد في عائلتها ، فضلا عن كراهيتي التي بلا حدود لإدعاء الإنتماء إلى قمة المجتمع دون جدارة علمية أو سياسية ، بل برصيد ثراء سابق.
كما أن أسلوب حياتي اليومي لا يعرف نظاما ، ولا أستطيع قبول الحياة في قالب عائلي حريص على قضاء الوقت مع أولاد العم وأبناء الخالة ، وقضاء أيام في عزبة فلان أو تناول العشاء عن أسرة فلان ، فقد نشأت ككائن بري يرفض الحياة سابقة التجهيز.
..............
ومضت سنوات من الارتفاع العاطفي والمطبات الحياتية لننفصل ، وليأتيني ذات ظهر نبأ رحيلها من العالم عبر جراحة قاسية بالعمود الفقري . وحاولت قبول رحيلها عن الدنيا بالسفر إلى فلوريدا حيث صديقي الفنان بسمي ميلاد ألذي أخبرني أن صديقنا د. فؤاد بشاي ميخائيل سيكون موجودا معه . وهناك و
على خليج المكسيك بولاية فلوريدا أشار صديقي الفنان بسمي ميلاد إلى صديقة ثالثة عالمة نفس أيضا ، قادمة لتلحق بكل من الطبيبتين النفسييتين د. مارلي ود. إيزابيلا اللتين توقدان حلقة النقاش هو الحب والكراهية بأحد فنادق المدينة . قال بسمي « هذه الطبيبة إسمها تريز لوجان راهبة سابقة وتركت الدير لتهرب من كل أيرلندا إلى نيويورك ثم إلى شيكاغو، وكانت صديقة أثيرة لعاكف أبادير النحال الدارس للأدب العربي والخلافات بين المذاهب الإسلامية ، وفوق كل ذلك هو دليلنا إلى دنيا الإيرلنديين .
وعلى ضوء أمواج خليج المكسيك ،ولدت أمامي النسخة طبق الأصل من الحبيبة ، وهي الطبيبة النفسية الثالثة التي أشار إليها بسمي الرسام « أقول لبسمي « هل تستحضر أرواح من نفتقدهم عاطفيا ؟ أجابني : لست أنا الذي أستحضر أرواح من نفتقدهم عاطفيا ولكنه صديقك فؤاد بشاي ميخائيل الذي أحال نفسه إلى التقاعد وقرر أن يعيش في فيرجينيا بعد خمسة وثلاثين عاما من الوجود في غرفة الجراحة لإزالة آثار أي رفض من الإنسان لما يراه غير جميل ، فهو جراح تجميل كما تعلم .
أقول لفؤاد : بما أنك عاشق للموسيقى ومعك تعلمنا كيف نحس الموسيقى لا أن نفهمها ، هل يمكن أن تقول لنا كيف تتسرب روح وملامح امرأة من ريف مصر إلى جسد أمرأة من ريف أيرلندا فتتطابق معها في الشكل ؟ أجابني فؤاد : لا تغرق في التطابق بين هيئة إمرأتين تتشابهان شكلا ، لأن الموضوع الذي عاشته أي منهما لابد وأنه مختلف . أضحك قائلا : لكن صوت الموج في خليج المكسيك يتطابق مع صوت الموج الذي كان يقفز في الشتاء فوق الكورنيش امام كلية الآداب . يبتسم فؤاد ، فهو الأكثر حكمة فينا والذي يتفرغ حاليا إما لزراعة مساحة صغيرة من الأرض تحيط ببيته بجانب جامعة فيرجينيا ويدرس تاريخ الافكار التي تصنع تطور الكون بجامعة فيرجينيا، ويزور بسمي بعض الأحيان في فلوريدا ، ومن ابتسامته أرى ملامح سخرية ستطل ، لأني استحضرت صورة حبيبة رحلت لأجسدها في صورة امرأة قدمت من أيرلندا بعد قصة عذاب تخصها وحدها ، وكان فؤاد يعرف القصة من خلال عاكف أبادير النحال الذي رحل عن عالمنا ، ولكن ما أن نتواصل نحن الأصدقاء حتى يطل علينا بالتذكار . قال فؤاد: الطبيبة النفسية التي تتطابق في خيالك مع صورة حبيبتك الأولى هي تريز لوجان ، راهبة سابقة ، وطبيبة نفسيه حالية ، وتؤمن بأن الزمن يهبنا من الأحلام مالا يجب أن نبعثر أنفسنا في التوهان بعيدا عن السير إلى ما يحقق ما نتمناه .
أقول لفؤاد : كأنك تقرأ رسالة الموج التي سمعتها أنا أمام آداب الإسكندرية ، ولكني لم أثق في رسائل الموج ، لذلك ضللت طريقي إلى توهان لم أعرف له نهاية حتى كتابتي لتلك السطور .
قال بسمي : لست وحدك التائه ، فكلنا نتوه حين تدهمنا حدائق أنوثة نرى فيها مشوار العمر ، لكنا نسير إلى شوك يوخز أعماقنا بالتذكار .
وانتبه ثلاثتنا على صوت الطبيبة النفسية مارلي وهي تقول لتريز لوجان « بما أنك طبيبة تجدين إعادة تأهيل التائهين عن أهدافهم دعيني أقدم لك واحدا من أهم أصحابي التائهين ، هذا الكاتب الصحفي القادم من القاهرة
أخذت أرقب خطوات تريز لوجان ، فهمست لفؤاد بشاي : إنها هي التي خرجت من السمفونية التاسعة لبيتهوفن لتمتزج بأغنية محمد رشدي « « صياد ورحت أصطاد صادوني .. عداوية « وهي التي نسجها صديق عمري عبد الرحمن الأبنودي ، هنا قالت الطبيبة النفسية إيزابيلا « ليس من اللائق أن يتكلم ثلاثتكم بالعربية أمام ثلاث نساء لا يعرفن منها حرفا واحدا . قال فؤاد بشاي: إن منير يرى أن تريز لوجان خرجت من السمفونية التاسعة لبيتهوفن لتمتزج بأغنية شعبية مصرية .. شديدة المصرية .
وما أن قام فؤاد بترجمة كلمات أغنية عدوية لمحمد رشدي ، ما أن قام فؤاد بذلك حتى ازدحمت الوجوه كلها بابتسام تدثر بصوت موج بحر خليج المكسيك الصاخب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.