رئيس «الرقابة الصحية» يشهد انطلاق فعاليات المؤتمر الدولي للجمعية الرمدية المصرية    وكيل تعليم القاهرة تجري جولة تفقدية لعدد من مدارس إدارة شبرا التعليمية    التضامن الاجتماعي تنظم احتفالية بمرور 10 سنوات على برنامج "تكافل وكرامة" برعاية رئيس الوزراء    حماية المستهلك يصدر بيانًا بشأن حادث تصادم معرض سيارات القطامية    احتفالات في ساحة القديس بطرس بعد انتخاب بابا جديد للفاتيكان    لحظة بلحظة.. الأهلي 0 - 0 المصري    مصرع طالبة دهسًا تحت عجلات القطار بدمياط (تفاصيل)    النيابة العامة تكشف مفاجأة في واقعة وفاة روان طالبة الزقازيق    الصحة: المرور على 145 منشأة طبية خاصة للتأكد من استيفاء الاشتراطات الصحية بمحافظة القاهرة    محمد عبدالعزيز: أشهد أن ارتباط محمود عبدالعزيز ببوسي شلبي كان ملء السمع والبصر    حظ برج الحوت في الأسبوع الثاني من مايو 2025.. لقاء عاطفي غير متوقع    طرح الإعلان الرسمي ل فيلم "المشروع X"    رئيس هيئة الاعتماد والرقابة الصحية يشهد انطلاق فعاليات المؤتمر الدولي للجمعية الرمدية المصرية 2025 "EOS"    محافظ المنيا يناقش ملفات التعليم والصحة والطرق.. ويوجه بتقديم المساعدات اللازمة للمواطنين    الدخان الأبيض يعلن بدء رحلة بابا الفاتيكان الجديد.. الأجراس تدق والاحتفالات تملأ الشوارع    رابط نتيجة الاختبارات الإلكترونية للمتقدمين لوظائف معلم مساعد مادة رياضيات    والا: اتفاق محتمل لتولي صندوق إغاثة غزة مهمة إدخال وتوزيع المساعدات بعيدا عن حماس    حرب الإبادة    تكثيف التحريات لكشف ملابسات العثور على جثة شخص فى الحوامدية    خبراء يحذرون: الزمن هو الخطر الحقيقي في النزاع النووي الهندي الباكستاني    أعمال شغب واعتقال 44 شخصاً خلال احتفالات جماهير باريس سان جيرمان بتأهله لنهائي دوري الأبطال    تشكيل مباراة أفريقيا الوسطى وغانا في أمم أفريقيا للشباب    النجم العالمى مينا مسعود يزور مدينة الإنتاج الإعلامى ويشيد بإمكانياتها    الجونة السينمائي يعلن عن برنامج مميز بالجناح المصري في مهرجان كان    الرياضية تكشف موعد انضمام ماركوس ليوناردو لتدريبات الهلال    تاج الدين: الربو أحد أكثر الأمراض المزمنة غير المعدية شيوعا.. ويتسبب في 450 ألف حالة وفاة سنويا    الحكومة: أسعار جلسات الغسيل الكلوى ثابتة دون زيادة وتقدم مجانًا للمرضى    لدخول السوق الرئيسي.. بدء اكتتاب زيادة رأسمال بريمير هيلثكير في البورصة    وزير الاتصالات: إتاحة 180 خدمة حكومية عبر منصة مصر الرقمية    اختتام فعاليات مؤتمر تنظيم الاتصالات لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بالقاهرة    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    أزعجتهم خلال علاقة محرمة.. سيدة وعشيقها يقتلان رضيعة في الهرم    الفنان محمد عبد السيد يعلن وفاة والده    في 11 ثانية.. فقط من يتمتع برؤية حادة يعثر على القلم المخفي    دمياط تحيي ذكرى انتصارها التاريخي بوضع الزهور على نصب الجندي المجهول    كرة يد - الاتحاد يكرم باستور علي هامش مواجهة مصر الودية ضد البرازيل    مطار مرسى مطروح الدولي يستقبل أولى رحلات الشارتر من التشيك    الهلال السعودي يرصد 160 مليون يورو لضم ثنائي ليفربول    الكرملين: الحوار بين روسيا والولايات المتحدة مستمر    وزير قطاع الأعمال يبحث مع سفير إندونيسيا فرص التعاون الاقتصادي والاستثماري    محافظ الفيوم يتابع أنشطة فرع الثقافة في أبريل    عضو مجلس المحامين بجنوب الجيزة يثبت الإضراب أمام محكمة أكتوبر (صور)    بغرض السرقة.. الإعدام شنقًا للمتهمين بقتل شاب في قنا    انخفاض عمليات البحث على "جوجل" عبر متصفح سفارى لأول مرة لهذا السبب    محافظ مطروح يتفقد تصميمات الرامبات لتيسير التعامل مع طلبات ذوي الهمم    نائب وزير الصحة يتفقد وحدتي الأعقاب الديسة ومنشأة الخزان الصحية بأسوان    خالد بيبو: كولر ظلم لاعبين في الأهلي وكان يحلم بالمونديال    أسقف المنيا للخارجية الأمريكية: الرئيس السيسي يرعى حرية العبادة (صور)    وزير الصحة يستقبل نقيب التمريض لبحث تطوير التدريب المهني وتعميم الأدلة الاسترشادية    أمين الفتوى يكشف عن 3 حالات لا يجوز فيها الزواج: ظلم وحرام شرعًا    الإسماعيلي ضد إنبي.. الدراويش على حافة الهاوية بعد السقوط في مراكز الهبوط    ميدو يفجّرها: شخص داخل الزمالك يحارب لجنة الخطيط.. وإمام عاشور الأهم وصفقة زيزو للأهلي لم تكن مفاجأة    موعد إجازة المولد النبوي الشريف لعام 2025 في مصر    الحماية المدنية تسيطر على حريق نشب بهيش داخل أرض فضاء بالصف.. صور    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 8-5-2025 في محافظة قنا    الكرملين: محادثات بوتين وشي جين بينج في موسكو ستكون مطولة ومتعددة الصيغ    الجيش الباكستاني يعلن إسقاط 12 طائرة تجسس هندية    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وهكذا بدأ فيضان الحب الجارف
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 12 - 2014

لعل هناك من يشعر مثلي بأن عقارب الساعات صارت تلهث مجنونة في دورانها حتى كدنا نرى اليوم مجرد لحظة لا تكفي لأن نعيش ما نتمناه . وقد يحدث ذلك ونحن محبوسون داخل سياراتنا ، نلعن العجز عن الوصول إلى المكان الذي نرغب في الوصول إليه .
وعندما أفكر في هذا الأمر؛ ينبع من المشاعر خيط من الأسى المبتسم ، لأرى نفسي هذا المالك الوحيد لقدر من جماليات المشاعر يمكن لعيون خيالي إستدعاؤها ؛ فلا أكون هذا الأسير داخل سيارتي . على الرغم من أني محبوس بالسيارة فوق كوبري أكتوبر عند منتصف نهر النيل ، ويسليني ما أراه على ضفة نيل الزمالك ؛ فهذه عربة حنطور تتبختر ، لتسافر بي رؤيتها إلى الحنطور الذي كنت أوقفه بشارع سعد زغلول السكندري؛ فور أن تنزل حبيبتي من مكتب تعلم الكتابة على الآلة الكاتبة تمهيدا لسفرها إلى البعثة الباريسية؛ ، وفور رؤيتها أهمس لها بدعوتها إلى ركوب الحنطور ، فتصعد لأقول لقائد الحنطور « على سيدي المرسي أبو العباس يا أسطى » ، فيتجه الحنطور إلى الكورنيش ، ليبدو تساقط المطر وكأنه يغسل المدينة من إرهاق يوم طويل ، ويزول مني تعب أيام الابتعاد عنها لأني أعمل بالقاهرة ، يزول التعب فور مصافحتها لحظة أن جلست بجانبي ،وفور تلامس اليد ، يفيض قلبي فرحا بموسيقاها ، فهي من تشكل قلبي على هيئتها ، وحين أخبرها بذلك ؛ تهمس بصوت خافت بأني قرأت حقيقة أحاسيسها ، فقلبها أيضا قد تشكل على هيئتي ، وتبدو دقات المطر على سطح الحنطور ، كأنها إحتفال بإكتمال كل منا بالوجود مع الآخر ؛ ولتنساب من ذلك هرمونات الفرح لتغمرنا، لأتذكر كلمات صديقي د. أحمد عكاشة عالم النفس ، بأن « المخ « لحظة لقاء من نحب يفرز ما يسمى «أندورفينات» ، وهى كيمياء خاصة ؛ تهب العشاق دفقات من فرح ، ليعزف الزهو باكتمال الإحساس بجدوى الحياة ، ويبدو انسياب الدم في الشرايين بحقيقة أساسية وهي أن الحياة جديرة أن تعاش . فلمسة اليدين على قدر براءتها تضع حدا فاصلا بين صحراء الساعات التي يحياها العاشقان وكل منهما بعيد عن الآخر ، وما أن تتلامس البشرتان ، ينتهي اللهاث ، ليبدو الكون نزقا من فرط ازدحامه بموسيقى فرح شديد الزهو . ، وتتجه عيوني عبر مياه بحر الميناء الشرقي ، فيكون تمثال سعد زغول على يسارنا ، وتتجه العيون بإتجاه حي بحري والأنفوشي ، فتتعلق العيون بمأذنة جامع سيدي المرسي أبو العباس ، ليرتل القلب بأحاسيس شكر السماء ، لأن الحبيبة تجسدت كما تخيلتها من قبل، نعم ، فأنا أسير تلك الحقائق التي أعرفها وحدي ، حقائق بدأت منذ أن كنت أنا وهي مجرد ذرتين صغيرتين من أصلاب آدم عليه السلام، حين جمعنا الخالق الأكرم قبل أن ننزل إلى الأرض ، لنشهد أنه الواحد الذي أوجدنا ، وأرى فيما يرى المؤمن تماما أني ذبت في عيونها فذابت في عيوني ونطقنا معا « لا إله إلا أنت سبحانك » ، ولم ننس تلك الكلمة أبدا ، لتصير حياة أي منا دون الآخر هي اغتراب في صحراء بحث أي منا عن الآخر ، ويصبح كل لقاء لنا هو موسيقى ابتهاج له قداسة خاصة بنا وحدنا.
وكلما زاد رذاذ المطر ، لا أتكلم ولا تتكلم ، فالكف تعانق الكف ليدور حوار بشرتين برقصة دف يغمرنا ، وعلى الرغم من أننا لا نجلس متلاصقين على كنبة الحنطور ، إلا أن المسافة الفاصلة بيننا ، نصبح بإرادة الحب وحده مسافة التقاء لا افتراق .
ونغرق للحظات في حيرة ، فلا يعرف أحدنا كيف يبتعد عن الآخر ؛ ولا يتقن أحدنا الذوبان تماما في الآخر .
**
أضحك لنفسي لأن التذكارات أخذتني وأنا المحبوس في سيارتي أعلى كوبري أكتوبر، لهذا الفيض من التذكار ، لمجرد أني رأيت عربة حنطور تتهادي في الشارع الموجود كحد فاصل بين الزمالك وبين ميدان التحرير .
ولا تتحرك السيارة إلا قليلا ، لتهجم على الذاكرة صورة الوحش ذى الأصابع النارية التي جذبت كلا منا بعيدا عن الآخر ، لتلقي بأي منا إلى آخر ما يمكن أن تطوحه يداه ، بعيدا عن الآخر، ؛ ليتلقف كل منا بعض من أعوان هذا الوحش ؛ الذين التفوا حولي وحول من أحب ،وقاموا بتكبيل كل واحد منا على حدة ؛ ثم قاموا بتعليق كل منا على صليب من الفتارين والوعود الكاذبة ؛ وأصروا على تحويل الدم النازف منا إلى أرباح وشركات وإعلانات . فلم يبق لنا إلا البكاء لتصنع الدموع بحيرة من ماء ؛ تطير فوقها طيور النورس ذات الغناء الممتلئ بالشجن .
هذا ما يهجم على الذاكرة ، وأنا محبوس داخل سيارتي في هذا الأسبوع الذي أعلن بدء الشتاء ، فتساقط المطر ، وتعود لي تفاصيل قصة الحب الأثيرة ، ففي كل يوم وأي يوم ، وفي كل فصل من فصول العام ، يمكن لذاكرتي أن تغمرني بتفاصيل ما عشناه من ألم أو فرح . ولابد أن أقول لها في خيالي إني أحسد الشاعر الفرنسي الذي أحببناه وهو لوي آرجون ، حين قال بعد موت حبيبته «إلزا « الوقاحة الفعلية هي أني مازلت أعيش بعد رحيلك» .
وعن نفسي فأنا أعيش معنى ما قاله آرجون؛ فبعد أن زهقت الحلوة من وضعها المعلق على الصليب ذى البريق الاجتماعي كأستاذة جامعة ، رحلت بجراحة قاسية إلى خالقها ، وكنت قد انفصلت عنها كي تتفرغ لحياتها بعيدا عن ضغوط أشواقي ؛و فؤجئت بها وقدرحلت إلى الخالق تشكو له أشواقها إلى السباحة في فيضان الحب الجارف الذي جمعنا لحظة اللقاء الأول ، ورغم رحيلها إلا أني مازلت أراها بعيون الخيال تسبح بحمد الخالق من أجل أن أسافر إليها في ملكوته سبحانه . ولكن مازالت في عمري أيام أو سنوات ، أمارس فيها حق الوقاحة بأن أعيش بعد رحيلها ، ولم أمنع نفسي من التجول في عيون النساء بحثا عنها أو حتى عمن تشبهها ، ويقول لي أصدقائي أطباء النفس أن ما أفعله هو الجنون
لأني أتبعثر كثيرا ، وهي لن تستطيع أن تكون إيزيس التي تجمع بقاياك كي تهبك الوليد الذي يحكم الكون ، فأبتسم للأطباء قائلا « هذا قدري وأنا مسافر فيه إليها .
...................
تتحرك السيارة ببطء على كوبري أكتوبر ، ولا أجد مفرا سوى النظر إلى السماء ، فأرى السحب تتشكل على هيئات غريبة ذات لون رمادي . وتحت اللون الرمادي يوجد لون بنفسجي . هنا تأتي إلى الذاكرة حواراتي مع صديق أيام دراستي ، وهو الفنان سيف وانلي الذي كتبت تاريخ حياته وعشت داخل تفاصيل أيامه ، حيث كانت كلماته قليلة ، ولكن عيونه لا ترى سوى الألوان ، وأندهش حين روى لي أن صديق شبابه شارل زهار الذي هاجر إلى باريس قد عاد إلى الإسكندرية ليقول له « لن تكون رساما مصورا عالميا دون أن ترسم المرأة ياسيف . ولن تنطلق إلى رحاب العالمية عندما تكتفي برسم مراكب ومشاهد المسرحيات والأوبرات « وما أن سافر شارل زهار إلى الأقصر ، قام سيف وانلي برسم أكثر من مائتي لوحة للمرأة ، وأهدانا في روز اليوسف بعضا منها ، لتختفي بعض من تلك اللوحات ولا نجدها على مدى أعوام كثيرة ، ومازلت كلمة سيف وانلي معلقة في ذاكرتي « لا يأخذ اللوحة إلا عاشق للفن ، وسأرسم بدلا من اللوحات التي ضاعت عشرات غيرها « .
...................
أتأمل السحاب الداكن المعلق في السماء فوق كوبري أكتوبر ، لأجد ألوانه تتغير ، فتسافر بي الذاكرة إلى المقهى اليوناني على خليج المكسيك بولاية فلوريدا حيث يعيش صديق عمري الفنان بسمي ميلاد إبراهيم ، هذا الذي اتصل بي بالأمس ليدعوني إلى معرضه بواحدة من أكبر دور العرض للوحات الفنية في تامبا ، تلك القرية الهادئة التي تضم عشرات الوجوه من البشر ، وتتميز بوجود جالية يونانية تعيش على صيد السمك ، و يجتمع الصيادون في المقهى المطل على خليج المكسيك ، وعلى البعد بعدة كيلومترات بسيطة توجد قيادة الجيش الأمريكي الذي يملك أكبر قوة نيران على ظهر الكون ، وبفضل تلك القوة القاهرة توزع الولايات المتحدة قهرها على الكون بأركانه . وبطبيعة الحال لا تتذكر تلك القيادة تحذير الجنرال أيزنهاور قبل أن يغادر البيت الأبيض « إحذروا الوقوع في فخ شركات السلاح ، فتدخلون في حروب لا داعي لها « . لا تتذكر قيادة القوات الأمريكية ذلك التحذير ، لذلك دخلت في حروب لا لزوم لها بداية من حرب فيتنام وصولا إلى حرب أفغانستان ، ثم حرب احتلال بغداد ، ولا أحد يريد تذكر حقيقة وجود إسرائيل في منطقتنا كوسيلة لترويج السلاح الذي نشتريه نحن في البلدان العربية ، فعندما تأخذ إسرائيل السلاح وتثير نزعات عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ، تندفع البلدان العربية لشراء مزيد من السلاح ، فتزداد أرباح شركات السلاح ، وعندما أقول لأصدقائي «إن إسرائيل ليست سوى معرض للسلاح ، ما أن تمتلكه حتى نسرع نحن طلبا لمقابله ، فتزداد أرباح الشركات المنتجة لأدوات القتل « ، هنا يضحك الأصدقاء متسائلين » وكيف نواجه خصومتهم لنا ؟ « أقول » بأن نعيد ترتيب أوراق حياتنا فنصنع سلاحنا ونزيد من اعتمادنا على أنفسنا علميا وحياتيا، فينظر لي الأصدقاء كأني مجنون يخترق حجب عدم قبول سيادة أمريكا على الكون .
...................
وعلى مقهى الصيادين المطل على خليج المكسيك كان بسمي ميلاد إبراهيم ينبهني إلى مشهدين أحدهما في التلفزيون ، حيث كان أوباما _ أيامها _ يقدم أوراق ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة عبر حضوره حفل جرحى الحرب العراقية ، وتقدمه إلى منصة الأحتفال شابة بالملابس العسكرية ، ثم تركز الكاميرا عليها وهي تقول له « أنظر ما تفعله الحرب « ، وترفع قماش رجل البنطلون الذي ترتديه ،فنرى ساقا صناعية ، وتعلن لأوباما « من سيرضى الزواج أو الحياة مع امرأة مقطوعة الساقين وتعيش الآن بأطراف صناعية جيدة الصناعة لكن ململس الأطراف الصناعية لا يماثل بشرة ساق المرأة ؟ « فيقدم لها أوباما الوعد بأن يسحب جنود الولايات المتحدة من أفغانستان والعراق . لكنه يحاول حاليا أن يجعل الأخرين يحاربون نيابة عن أمريكا.
ويقول لي بسمي « ملعون أبو السياسة التي تسرق سيقان فتاة هنا، وتزهق أرواح أناس في الشرق الأوسط ، ما رأيك في أن نتجاهل حديث السياسة ، لنرقب السحاب هنا فوق خليج السويس ؟ .
وكان بسمي يشير إلى كل من الصديقتين الطبيبتين النفسيتين د. مارلي ود. إيزابيلا ، ومن خلفهما ظهر د. ثاير خبير دراسة المزاج البشري . أضحك قائلا : د. ثاير عجوز يقترب من الخامسة والثمانين ويعيش علاقة عاطفية مع د . إيزابيلا إبنة البرازيل التي لم تصل إلى الأربعين ، وهي من تفوقت في الطب النفسي هنا في الولايات المتحدة . يقول بسمي: لعل د. ثاير أكثر شجاعة منا ، فهو كبيكاسو المصور العظيم لم يجعل العمر عائقا بينه وبين عناق من يحب.
ويتابع صديقي : لقد قدم الطب أدوية لسد الفجوة بين شيخوخة الرجل وبين حقه في ممارسة الحب . وقد تقول أنت إن هذا تزييف ، وتنسى أن الزيف والحقيقة لعبة متبادلة ياصديقي ، فعندما كان الإنسان الأول يرتدي ملابس من أوراق الشجر ، لاحظ أن المرأة تزين شعرها بزهور ، فقال لها « لماذا تزيفين جمالك ؟ « فقالت له» لأني أحب أن أرى نفسي هكذا » ، وعندما جاءت الموضات والتصميمات حاولت كل إمرأة أن تشد خصرها بحبال وكاوتشوك مطاطي ، من أجل أن يظهر وسطها أنحف ، ثم استخدمت الكيماويات لتضخم من صدرها ، وتزيل تجاعيد الرقبة والوجه من أجل أن يراها الرجل بعيون الخيال . أقول لبسمي : هذا ما حكى عنه الفيلم الأخير الذي صور حياة شكسبير ، حيث كانت إحدى الممثلات ترغب بكل وسيلة أن تكون بطلة لأي مسرحية له، فحاولت غواية شكسبير ، ولكنه كان يشعر بأنها لا تعطي قلبها ، بل تبحث عمن يحقق لها حلمها في أن يصفق لها الجمهور ، وتأكد من ذلك عندما دخل عليها ذات مرة إلى غرفتها فوجدها في حالة عناق مع رجل دميم جدا يملك مسرحا ، وكان الدميم يعيش معها لحظات العناق وهو يلعنها ، لأنها تقبل به عشيقا من أجل تصفيق الجمهور . ولذلك لم يقبل شكسبير أن يعانق سوى الجميلة التي أحبها فعلا ، ولكن والدها كان قد اتفق مع أحد الإقطاعيين ليزوجها إياه . فتدخلت ملكة إنجلترا كي تسمح للعاشقين بفترة يعيشان فيها عمق التجربة ، ومن بعد ذلك يعودان إلى الواقع ، ولحظتها تساءل شكسبير عن الزيف والحقيقة ، ما الزيف ؟ ما الحقيقة ؟ فالزيف في الأصل هو حقيقة خيالية ، تماما كما أن الحقيقة هي زيف قبلنا تصديقه. هكذا صار الزيف والحقيقة هما وجهان لحياتنا في أيامنا هذه .
وتصل كل من د. مارلي ود. إيزابيلا حيث أجلس أنا وبسمي . أتذكر أن د. إيزابيلا التي كانت من قبل صديقة وحبيبة لد. ثاير، ثم تركته لترتبط بالمهندس فرناندو ابن بلدها البرازيل ، ولكن يبدو أنها عادت مرة أخرى لصحبة ثاير على الرغم من أنه تعدى الثمانين.
يقول بسمي : كنت أتحدث مع منير عن الزيف والحقيقة ، وكأنه كان ينتظركما ، فهو يثق مثلما أثق في أنكما تملكان الكثير من الخبرة عن حيرة الإنسان سواء في القرن السابق أو أيامنا هذه.
تقول إيزابيلا : يبدو يا بسمي أنك كنت تتحدث مع منير عن الحياة مع فلسفة أنصاف الحلول ، والتكيف معها .وأنت تعلم أن منير يخدعنا ، فهو يقبل سرا الحياة مع أنصاف الحلول ، ويعلن للجميع أنه يحلم بفرض حلوله كاملة على الحياة .
تقول د. مارلي : أنا أعلم أن منير يستدعي كل يوم في خياله الزمان الذي يحياه ليجسده أمامه ويوجه له الصفعات والركلات ؛ وكأن الزمان الذي نحياه هو إرهابي استطاع أن يهدينا الكثير من الحماقات ؛ حماقة تسلله إلى حياة كل منا بدعوى تطويرها ؛ فأضاف إلى أحلامنا الكثير من أدوات الرفاهية وسرق من واقعنا القدرة على الانسجام مع النفس . إن صديقنا الكاتب المصري يتهم القرن الذي نعيشه بأنه قرن سافل ارتكب حماقة سرقة بوصلة التوازن النفسي ، فصرنا عاجزين عن تحديد ماذا نريد وإلى أين نتجه . وصارت حياتنا دائخة بين التغني والتدني ؛ التغني بإنجازات مادية رهيبة ؛ والتدني الذي تعاني منه الروح من فرط إهانتنا لها .وليست الصرخات المؤلمة للمرض النفسي والاكتئاب إلا مظهرا بسيطا لهذا التغني وذاك التدني . وحين عاد البعض إلى الجذور بحثا عن راحة الإيمان ؛ وجدنا السحرة والمشعوذين يهجمون على فكرة الإيمان ليزيفوها ؛ ويحولوا المحبة الصافية في كل عقيدة إلى كراهية للغير وتنافر معه .
أبتسم لمارلي : ها أنت تبدين كالساحرة التي تسبح في أعماقي لتقرأ كل أفكاري . تقول مارلي : إن الصداقة معك تستحق ذلك.
قالت إيزابيل: نحن أهل الطب النفسي يغمرنا الإعجاب العميق بمن يملكون ناصية الكلام ويحولون الحروف إلى مشارط يفتحون بها بطن الواقع ليخرجوه أمامنا .
قلت لهما : أرجو ألا أصدق رأي أي منكما في كلماتي ؛ رغم أن الحقيقة البسيطة أني عشت أغلب عمري في القرن العشرين وأعيش ما فوق السبعين في القرن الواحد والعشرين ، ولا أعرف هل ما أحياه الآن هو من أعوام نهايات العمر أم أن هناك مزيدا من الحياة مازال أمامي ، فأنا المولود على صوت قنابل الحرب العالمية الثانية ؛ وعشت رؤية كل مخترعات هذا القرن وهي تحاول أن تضيف مالا لجيوب المخترعين ؛ وتضيف بؤسا لا نهاية له لقلوب الذين شغلتهم بالرغبة في امتلاكها . وقد رأيت من يفخر بتدخين السجائر لحظة إضافة الفلتر لها بدعوى أنها سوف تخفف من السعال ؛ ورأيت من يفخر بسيارته الجديدة وكأنها ستطير به فوق عربات الكارو . ورأيت من يزهو بمنصبه وكأنه سيحرك التاريخ ؛ ورأيت من يقوم بغواية المرأة حتى يتزوجها ثم تكتشف أنها لم تحبه بل وقعت في شرك الإعجاب بالثراء . ثم رأيت الأيام تكنس السيجارة والسيارة والمنصب ؛والمرأة ، ويتكوم أصحاب تلك الأشياء في صف واحد إما في الجامع أو في الكنيسة . ودائما أتساءل : هل العودة إلى الدين هي اعتذار من الشخص لنفسه باتساع رؤيته لما طمح فيه أم رغبة في الحصول على كنوز الدنيا والآخرة ؟ قالت مارلي : دعني أعلن سخطي عليك لأنك تغمر حياتنا منذ أن عرفتك بالأسئلة ولا تعطينا جوابا واحدا ؟
ضحكت إيزابيل قائلة : أنت غاضبة منه ؛ لأنه كشف عن رغبتك الدفينة في أن تصبحي متصوفة . ولكنك تخافين من قيود التصوف .
صرخت قائلا : إن كنت ستتبعين طريقة د. توماس مور في التصوف فأهلا بك في نادي من يفهمون في دهاليز النفس البشرية .
وسادت لحظة من الصمت في حوارنا . فلامس توماس مور وقع السحر على كل من قرأ له . وكل من إيزابيل ومارلي قد أحب كتاباته. وأنا أصادق كتابات د. توماس مور منذ عام 1992 ، فهو واحد من الذين تأسرني أفكارهم. وهو عالم نفسي أمضى اثنتي عشرة عاما راهبا في أحد الأديرة ؛ ثم خرج إلى الحياة بعد أن درس الطب النفسي ؛ وقال « رسالة السماء أن نجعل أهل الأرض يفيقون من صرخات الألم ، ويمتلكون ناصية التوازن النفسي « ومضى الرجل يمارس بناء جسر بين فهم حقيقة ما تحتاجه الروح من غذاء غير متعصب ؛ وبين ما يحتاجه الجسد من تعبير عن حقائق الحب والطعام والمأوى والنمو . وقد درس الرجل حقائق الإيمان في الحضارات الإنسانية ؛ و درس الأديان والعقائد من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام إلى عقائد جنوب شرق آسيا كالبوذية والكونفوشوسية والهندوسية . ومضى صارخا في برية زماننا ليبدد عواصف الإحساس بالوحدة عند البشر .
أقول لمارلي وإيزابيل : هل اسم هذا الرجل على لساني يفضح سرا خاصا عنه مع واحدة منكما أم هو فضح لسر خاص تمتلكانه معا وتتردد أي منكما في مناقشته مع غريب .
قالت إيزابيل : مؤلفات الرجل هي واحتي ؛ ومنه أتعلم كيف أكتشف بعيون الخيال جزيرة من جزر الاطمئنان التائهة في أعماقي . وقالت مارلي :أنت تعلم د. توماس مور يوجد تحت جلد كل من يعملون في الطب النفسي المعاصر ؛ ذلك أنه يحاول أن يتوصل إلى تعليم الأطباء كيف يكتشفون جوهر الإيمان في أي مريض يشكو . وهو يؤمن بأن تجاهل غذاء الروح ، مع الضغط على الإنسان باللهث وراء الرفاهية الكاذبة ؛ هو نوع من زيادة حجم الصراخ في الكون ؛ صراخ المرض النفسي بأشكاله المختلفة .
وضحكت بابتسامة نصف تائهة ونصف ساخرة ؛ ذاكرا أن في درج مكتبي قصة قصيرة ؛ عن صراع إنسان هذا الزمان مع الأشياء ؛ القصة بعنوان « الأشياء « أوجز فيها كيف يقوم الانبهار بالأشياء بمهمة قتل الحب . ومجتمعنا الشرقي غرق لأذنيه في الإجراءات والأشياء التي تقتل الحب .
قالت إيزابيل : كأنك تتفق مع توماس مور هذا الراهب الذي ترك الدير لعلاج النفس البشرية من أوهام الحضارة وأحزانها . أنت تعلم أني أحب الذهب والفضة والسيارة والكرسي المريح والسرير الملكي وفتارين الشارع الخامس . أقول : أنت من البرازيل ومغفورة لك حالة الانبهار بالأشياء . صرخت مارلي : وهل سنقيم ميزانا نزن به الأشياء التي نشتريها ؟ لقد غمرنا العصر الذي نعيش فيه بالإعلانات . وتحركت الإعلانات إلى النخاع ؛ فداوينا اكتئاب الإحساس بالوحدة والإحساس بأننا زائدون على حاجة العالم بالشراء لتلك الأشياء ؛ ولا أحد دفع ثمنها غيرنا ؛ ولم نشترها بمال من الرشوة كبعض من مسئولي العالم الثالث . ولم نفعل شيئا يستحق أن ندان به في محكمتك أنت وتوماس مور هذا الذي أحب كتاباته وكأنه فرانز فانون الطبيب النفسي الذي وهب حياته لتحرير الجزائر ، ومات قبل أن يتحقق حلمه في رؤيتها محررة من فرنسا ؛ فتوماس مور وفانون كلاهما يلمس وتر الإيمان بشيء خفي في الإنسان هو الروح . ولكني لا أحب هذا الزهد المزيف .
تقول د. إيزابيل : تعلمين أني أعالج رئيس طائفة دينية من تلك الطوائف التي تملأ أمريكا ؛ وهو سجين حاليا بتهم النصب على أعضاء الجماعة ؛ وقد وجد احتياج الناس إلى الحياة البسيطة أمرا مطلوبا ومحبوبا ؛ فأخذ منهم عشرات الآلاف من الدولارات ، وكان يركز على كل جهده على النساء اللاتي وصلن إلى الخامسة والثلاثين وما فوق دون زواج ، ويقيم معهن علاقات مليئة بالمحبة أولا ، ثم بالوحشية ثانيا . وعندما لم يتزوج واحدة كان قد وعدها بالزواج قامت بتصويره في كل حالاته ، صورته وهو يبكي أثناء كلماته ومواعظه ؛ وصورته ؛ وهما يمارسان الحب ؛ وصورته وهو يطلب منها أفعالا لا تليق برجل دين . وصورته وهو يعتدي على فتاة في الخامسة عشرة دون أن يدري وكان هذا الفيلم هو بوابة الجحيم بالنسبة له . ولأن من حقه العلاج النفسي ؛ فأنا أزوره في السجن ، وقد حاول في البداية أن يضمني إلى طائفته ؛ وأثني على جمالي أكثر من مرة . ولكنك تعلمين الكلمات الحاسمة التي تمنع أي محترف اغتصاب من ممارسة هوايته . ورأيته أكثر من مرة وهو يبكي بدموع من فقد القدرة على ممارسة النصب . والغريب أنه وقع أسير عشق الفتاة الصغيرة التي اغتصبها ؛ ولكن لأن سجنه سيستمر عشر سنوات فهو لا يعلم هل ستنتظره أم ستأخذها دوامة الحياة . ويتهم من أدخلته السجن بأنها شريرة وأن الشيطان سينتقم له منها ؛ ويظل يحكي عن الشياطين والملائكة وكأنهم جنوده الخاضعين لإمرته . وهذا ما جعلني أثق أنه مريض نفسيا ويحتاج إلى أن يعيد إداركه لنفسه كمجرد إنسان وليس رسولا كما أوهم البعض ولكن فيما يبدو أن وضع الإنسان كقائد سري لقوى غيبية ؛ هو وضع مميز ، بحيث لا يترك لصاحبه فرصة التنازل عنه ، أو حتى فرصة الخروج من المسرحية الكاذبة التي باعها للغير . وأنا أحكي لكما عنه ، لأن مارلي ظنت أن توماس مور يبيع في زماننا وهم الاهتمام بالروح . وأنا لا أوافقها على ذلك . فهو في رأيي يطلب من الأطباء أن يوازنوا بين احتياج الإنسان للعناية بروحه . فالطب النفسي في زماننا تولى مهمة رجل الدين الذي ينقي بالدعوة إلى الإيمان أعماق الإنسان .
أقول : وأنا معك فقد قرأت كتاب العناية بالروح ورأيت أنه يحدد ثلاثة وحوش تفترس الإنسان . هى القوة والجنس والدين . وكل من الوحوش الثلاثة كانت في الأصل جسورا لتحقيق التوازن في المجتمعات ؛ فأنت حين تمتلك قوة المال ، إن لم تدعه يعمل لصالح من حولك فأنت تغرق في المتع الصغيرة ليخونك مالك ويصير عدوك ، بالإضافة إلى عداء من يرون استمتاعك ، وهم يعانون من الحرمان . وأنت إن لم تأخذ الجنس كوسيلة للتعبير عن الحب المستمر والمسئول ؛ لوجدت نفسك مجنونا بإثبات مهارة تكلفك الصعب ؛ فأنت تتحول في نظر نفسك إلى لاعب في حلبة ملاكمة مطلوب فيها أن تهزم من أمامك ، لا أن تعبر عن حبك وتعاطفك باللقاء الموسيقي المنسجم والمكتمل . وأنت إن لم تفهم الدين كطريق لفهم ضعف غيرك ، واحترام ضعفك الشخصي وضعف الآخرين ، وبنيت بينك وبينهم جسور غفران ومحبة ، إن لم تفعل ذلك فلن تكون متدينا بل مجرد متعصب صغير الأطماع تريد لنفسك جنة الله بينما تصنع لنفسك جحيما يوميا اسمه محاكمة الغير والتعالي عليهم .
...................
وصلت مع تذكاراتي إلى تلك النقطة ، وانساب المرور على كوبري أكتوبر لأصل إلى بيتي منهكا من فرط معاناتي من الحبس في السيارة ولولا التذكار لكنت قد وضعت نفسي تحت عجلات السيارات على هذا الكوبري المزدحم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.