يأتينا عيد الحب «الفالنتاين داى» ونحن غارقون فى الأحمر، لون الدماء المصرية التى أصبحت خبرا يوميا عاديا تقرؤه فى رسائل قصيرة على الموبايل. ماذا حدث للشعب الذى خدع العالم على مدار آلاف السنين بسلميته وصبره؟! من أين أتى كل هذا العنف والحماقة والتعصب والتشكك؟! كم أشتاق إلى الحب وأغنياته، أشعر أنه غاضب منا، لا يريد أن يفرد أجنحته الرقيقة فوق سمائنا. هل يمكن للحب أن يهجرنا؟ أم أنه خائف مثلنا ومختبئ فى الصدور ينتظر أن نفتش عنه؟.. سألوا أعرابية يوما عن الحب فقالت: جل والله عن أن يُرى، وخفى عن أبصار الورى، فهو فى الصدور كامن ككمون النار فى الحجر، إن قدحته أورى وأن تركته توارى . الحب موجود لكنه محتاج إلى مجهود. من قديم الزمان والكل يحاول أن يفهم سر الحب، سر الجاذبية بين آدم وحواء، حاولت الأساطير أن تقدم إجابة وتفسيرا. فى محاورات سقراط الشهيرة، يتحدث أرستوفان عن أسطورة الإنسان المدور التى يفسر بها التجاذب العاطفى بين الرجل والمرأة وأطواره وأسراره، يحكى أرستوفان أن الإنسان فى عصوره السحيقة لم يكن كما نعهده اليوم من ذكر وأنثى، وإنما كان هناك نوع سابق لهذين النوعين، مخلوق مدور مكون من ذكر وأنثى معا، وكان لهذا المخلوق ظهر مستدير، مزدوج الأطراف له وجهان ركبا على عنق مستديرة وكان مشيه دحرجة، هذا الكائن كان متمردا على الآلهة متطلعا لأسرارها، مهاجما لها مستغنيا عنها. غضبت الآلهة وقرر زيوس كبيرها أن يؤدب هذا الكائن فشطره نصفين حتى يصبح أكثر ضعفا وأقل حيلة. وبعد شطر الكائن المدور، صار كل نصف يتوق إلى نصفه الآخر، وحب البشر بعضهم لبعض تأصل فى قلوبهم منذ ذلك الوقت السحيق، وذلك الحب الذى يسعى لأن يوحد كائنين فى كائن واحد ليتكامل ويصل إلى أفضل حالاته وروعة أصله. الفقيه الأندلسى الرقيق ابن حزم كان له فى الحب تجارب ودراسات وملاحظات دوّنها فى كتابه الشهير طوق الحمامة الذى يقول فيه: لقد اختلف الناس فى ماهية الحب وقالوا وأطالوا، والذى أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة فى هذه الخليقة فى أصل عنصرها الرفيع . ويؤكد ابن الجوزى على حديثه فيقول: وقد ذكر بعض الحكماء أن العشق لا يقع إلا بالمجانسة وأنه يضعف ويقوى قدر التشاكل ، واستدل على ذلك بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منا ائتلف وما تنافر منها اختلف . وأضاف: وقد كانت الأرواح موجودة قبل الأجسام فمال الجنس إلى الجنس، فلما افترقت فى الأجسام بقى فى كل نفس حب ما كان مقاربا لها . الاقتراب والاغتراب، الحضور والفقدان، الغربة والتوحد، الإنسان مدفوع بفطرته للحب، للانفتاح على الآخر الذى يكمل نقصه ويبعد عنه شبح العزلة، معه يصبح واحدا صحيحا وليس شظايا كونية فى جسد فانٍ، ولعل ذلك ما أراد عاشق أن يعبر عنه حين قال: إننى أحبه لأننى أنا من أنا، ولأنه هو من هو، فلسان حال الحبيب أن يقول لمحبوبته: يا أنا، كلى بكلك مشغول، فتجيبه: يا أنا، كلى بكلك مبذول. أنا منك وأنت منى ونحن من بعضنا مجدول. يقولون هجرتنى ولا يعرفون أنى أسكنك، إن بت يوما من دونى فلأنك بداخلى تكون. قد يختلط الأمر على الناس فيظنون الرغبة حبا. الفرق كبير، فجاذبية الرغبة تبقى كلا منهما على حاله، لا هو يطلعها على سره ولا هى تشاركه أحلامها، أما الحب فهو روح فى جسدين، حلمهما واحد ومصيرهما واحد. عندما نتحدث عن الحب، نتحدث عن هبة ربانية، المشاعر التى ليس لنا فيها إرادة ولا قدرة، والتى قال عنها العقاد: ثلاثة أشياء ليست من اختيارنا، الميلاد والحب والموت. يذكرنا سقراط بأسطورة أخرى عن كيف ولد الحب، تأملها معى ستجدها مفسرة لكثير من تناقضات الحب. يقول: إن ذلك تم ليلة مولد أفروديت، حين أقامت الآلهة حفلا كبيرا بهذه المناسبة حضرها بوروس (ومعناه الثراء)، بعد العشاء رأت بنيا (ومعناها الفقر) تلك المأدبة فجاءت تستجدى، وكان بوروس قد ثمل ونام فى حديقة زيوس، ولمحته بنيا فشاءت أن ترزق منه بطفل. ونشأ من تزاوجهما إيروس إله الحب، ولأن حمل بنيا جاء ليلة مولد أفروديت فقد جاء إيروس محبا للجمال، ونظرا لأنه كان ثمرة لتزاوج الثراء بالفقر فقد ورث عن أمه الحاجة والحيلة والغواية والعوَز، وعن أبيه العطاء والسخاء والكرم والشجاعة، ومن امتزاج الأضداد ولد الحب. الحب رحلة لا تسأل إلى أين تذهب بك.. ما دمت فى صحبة الحبيب: كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة وجدنا غريبين يوما أتعلم عيناك أنى انتظرت طويلا؟ كما انتظر الصيف طائر ونمت.. كنوم المهاجر فعين تنام لتصحو عين.. طويلا وتبكى على أختها حبيبان نحن.. إلى أن ينام القمر ونعلم أن العناق.. وأن القُبَل طعام ليالى الغزَل وأن الصباح ينادى خطاى لكى تستمرّ على الدرب يوما جديدا! صديقان نحن.. فسيرى بقربى كفا بكف معا نصنع الخبر والأغنيات لماذا نسائل هذا الطريق.. لأى مصير يسير بنا؟ ومن أين لملم أقدامنا؟ فحسبى وحسبك أنا نسير.. معا.. للأبد (محمود درويش)