كان شيخ فلاسفة أثينا سقراط يقول: الحب جنون, وهو أنواع كما أن الجنون أنواع!! وقد اخترنا أن نتحدث في هذا المقال عن نوعين فقط من أنواع الحب يرتبطان أوثق أرتباط هما الحب الإلهي, والحب البشري! أما الحب الإلهي فهو يرتبط منذ البداية بخلق الموجودات لأن الوجود خير من العدم- ومن ثم فالحب الإلهي الذي يرتبط بالمخلوقات مبثوث معها أينما كانت. ولقد عبر عن هذه الصورة أجمل تعبير جلال الدين الرومي المعروف في تراثنا بمولانا جلال الدين(1207 -1273)- جعل الحب هو لحمة هذا الوجود وسداه فاستمع إليه يفسر لك نسيج الوجود:- سوف أخبرك كيف خلق الله الإنسان من طين, ذلك أنه جل جلاله- نفخ في الطين أنفاس الحب! سأقول لك لماذا تمضي الأفلاك في مدارتها؟ ذلك أن عرش الله سبحانه وتعالي يغمرها بإنعكاسات الحب! سأقول لك لماذا تهب رياح الصباح؟ ذلك لأنها تريد أن توقظ بغزارة أزهار الحب! سأقول لك لماذا يتشح الليل بغلائله؟ ذلك أنه يدعو الناس إلي الصلاة في مخدع الحب! أنني أستطيع أن أفسر لك جميع ألغاز الكون وما الحل الوحيد لكل لغز سوي الحب! ذلك هو الحب الإلهي العظيم والذي استشهد به الفيلسوف الألماني العظيم هيجل(1831-1770) في نهاية كتابه موسوعة العلوم الفلسفية. ويقابل هذا الحب الإلهي الذي غمر الوجود بأسره حب الإنسان لله! وهو الجانب الثاني من العلاقة الذي يظهر بوضوح أيضا عند متصوفة الإسلام الذين اتجهوا إلي الله بفعل من أفعال المحبة البشرية فمادمنا قد ولدنا في تيار الحب الإلهي الذي يغمرنا, فإن هذا الحب يعود الآن مرة أخري إلي منبعه, ولقد بني صوفية الإسلام مذهبهم في الحب الإلهي بنوعيه حب الله للإنسان, وحب الإنسان لله علي الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة علي المؤمنين أعزة علي الكافرين.( المائدة54). واعتبروها دعوة صريحة إلي الحب بنوعيه! فلبوها مغتبطين فرحين..! لاحظ أيها القارئ العزيز أن من يرتد عن دينه ليس جزاؤه القتل أو السحل أو التقطيع..إلخ كما يقول البعض بل الحرمان من الحب! ومن هنا أعلنت رابعة العدوية أن اتجاهها إلي الله ليس مصدره الخوف من النار أو الطمع في الجنة, وإنما أنا أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمني يا إلهي من جمالك الأزلي... استمع إليها في إحدي مناجاتها تقول: إلهي! اجعل الجنة لأحبائك, والنار لأعدائك, أما أنا فحسبي أنت! إلهي أنارت النجوم, ونامت العيون, وغلقت الملوك أبوابها, وخلا كل حبيب لحبيبه, وهذا مقامي بين يديك!! وأيضا:- ز قلبي نصيب! حبيب غاب عن بصري وشخصي ولكن في فؤادي لا يغيب وأيضا: أني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيس ذلك يدل علي سعي النفس البشرية للوصول إلي الله وعذاب الإنسان وألمه أنه لا يعرف ما الذي يبحث عنه! ما الذي يريد أن يصل إليه. ويذهب ديكارت الفيلسوف الفرنسي إلي أن شك الإنسان دليل علي وجود الله لأن الشك نقص, والناقص لا يعرف إلا بمقارنته بالكامل وهي فكرة إيجابية فكيف عرفتها..؟ ومن الذي وضع في النفس فكرة الكمال؟ لا يمكن أن يكون أنا الذي اخترعتها لأن فاقد الشيء لا يعطيه, لابد أن الموجود الكامل- الله هو الذي غرسها في وكأنها علامة الصانع وتوقيعه علي ما صنع. ومعني ذلك أن التوقيع الإلهي موجود في داخلي بطريقة فطرية.. ويعبر عنها الصوفية المسلمون وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم: ألست بربكم قالوا بلي شهدنا..172 الأعراف وروائع ابن الفارض في الحب معروفة, حتي منحه المؤرخون لقب سلطان العاشقين وإمام المحبين! وكان هو نفسه يفاخر بذلك:- كل من في حماك يهواك لكن أنا وحدي بكل من في حماكا يحشر العاشقون تحت لوائي وجميع الملاح تحت لواكا فإذا ما هبطنا إلي المستوي البشري أعني الحب بين الرجل والمرأة فاننا نستطيع أن نبدأ ببعض التفسيرات الأسطورية التي أوردها أفلاطون في محاورة المأدبة التي خصصها لمناقشة الحب فأجري علي لسان أرستوفان الشاعر اليوناني المعروف تفسيرا لقوة الحب وسلطانه بين الذكر والأنثي ملخصه أن الإنسان كان في البداية مخلوقا واحدا يجمع في كتلة واحدة بين الرجل والمرأة لها من الأيدي أربعة ومن الأرجل كذلك وله وجهان متشابهان ورأس يدور في جميع الاتجاهات وله أربع آذان, وكان هذا المخلوق الغريب بالغ القوة: يجري بسرعة رهيبة ويمشي إلي الأمام وإلي الوراء كما يشاء..إلخ. باختصار كان له من القوة والبأس ما جعله مخيفا حتي ركبه الغرور فحاول أن يرقي إلي السماء ويهاجم الآلهة فشطرته نصفين حتي تضعف من قوته وتخفف من غروره, وهكذا تم شطر الإنسان الأول إلي رجل وامرأة وأخذ كل شطر يبحث عن شطره الآخر, فإذا ما التقي به تعانقا بقوة لكأنما يريدان أن يعودا كائنا واحدا كما كانا من قبل.! فإذا تركنا الأساطير وتفسيرات الحب التي لا آخر لها منذ أقدم العصور حتي الآن, وأردنا أن نعرف نماذج من تصوير الشعراء لهذه العلاقة بين الرجل والمرأة: فلست أجد عندي أجمل من مثالين هما من أرق ما قرأت من شعر في تصوير الحب البشري:- أما الأول فهو لشاعر الهند العظيم طاغور(19411861) الذي كانت أشعاره وأناشيده وكان يكتب موسيقاه بنفسه- تهز الهند كلها, وتسمعها علي شفاه أهل الريف السذج: فهذه فتاة في عمر الزهور تسأل حبيبها عن صدق ما يقول لها من غزل وإليك ما قاله طاغور علي لسانها ومن سواه عبر عن لغو الغرام الذي لا يخلو من قدسية؟!: نبئني يا حبيبي, أن كان ذلك كله صدقا.. أإذا لمعت هاتان العينان ببريقهما, استجابت لهما السحائب الدكناء في صدرك بالعواصف؟!. أصحيح أن شفتي في حلاوة برعم الحب المتفتح حين يكون الحب في أول وعيه؟! أتري ذكريات ما مضي من أشهر الربيع, ماتزال عالقة في جوارح بدني؟! أصحيح أن الأرض كأنها القيثارة تهتز بالغناء كلما مستها قدماي..؟! أصحيح, إذن, أن الليل تدمع عيناه بقطرات الندي كلما بدوت لناظريك, وأن ضوء الصبح ينتشي فرحا إذا مالف بدني بأشعته؟! أصحيح, أصحيح, أن حبك لم يزل يخبط فريدا خلال العصور وينتقل من عالم إلي عالم باحثا عني؟! وإنك حين وجدتني آخر الأمر, وجدت رغبتك الأزلية سكينتها التامة في عذب حديثي, وفي عيني, وشفتي, وشعري المسدول..؟. أصحيح, إذن, أن لغز اللانهائية مكتوب علي جبين هذا الصغير؟ نبئني يا حبيبي أن كان ذلك كله صدقا..!! تلك هي أبيات شاعر الهند طاغور لفتاة تسأل, فبماذا يمكن أن يجيبها حبيبها؟! أتراه يمكن أن يجيب معبرا عن شعوره بأبيات أشد عذوبة من أبيات شاعرنا الشاب الذي عصر الحب والشعر قلبه فمات هو الآخر في عمر الزهور ولما يبلغ السادسة والعشرين من عمره: أبو القاسم الشابي19341909 في رائعته المسماة صلوات في هيكل الحب:- عذبة أنت كالطفولة, كالأحلام كاللحن, كالصباح الجديد..! كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد, كابتسام الوليد..! يا لها من طهارة تبعث التقديس في مهجة الشقي العنيد..! أنت, ما أنت؟! أنت رسم جميل عبقري من فن هذا الوجود..! فيك ما فيه من غموض وعمق وجمال مقدس معبود..! كلما أبصرتك عيناي تمشين بخطو موقع كالنشيد..! خفق القلب للحياة ورف الزهر في حقل عمري المجرود..! خطوات سكرانة بالأناشيد وصوت كرجح ناي بعيد..! وقوام, يكاد ينطق بالألحان في كل وقفة, وقعود..! كل شيء موقع فيك, حتي لفتة الجيد واهتزاز النهود..! أنت, أنت, الحياة في قدسها السامي وفي سحرها الشجن الفريد..! أنت: فوق الخيال, والشعر, والفن وفوق النهي, وفوق الحدود..! أنت قدسي, ومعبدي, وصباحي وربيعي, ونشوتي وخلودي..! يا ابنة النور! إنني أنا وحدي من رأي فيك روعة المعبود..! إلي آخر هذه القصيدة العذبة. ونستطيع في النهاية أن نرد ومع أمير الشعراء أن لنا عذرنا في حبنا للجمال: أن عشقنا فعذرنا أن في وجهنا نظر..!!