علي ضفاف النيل بالجيزة وفي منزل أمير الشعراء أحمد شوقي كرمة بن هانئ جلس رابندرانات طاغور يرتشف رحيق الحضارة المصرية القديمة مع كبار رجال السياسة والفكر والأدب يتقدمهم الزعيم المصري الخالد سعد باشا زغلول وشاعر النيل حافظ إبراهيم. وصاحب رواية زينب محمد حسين هيكل, وصاحب الأيام قاهر الظلام عميد الأدب العربي طه حسين, وأحمد لطفي السيد, وعبد العزيز البشري, وعباس محمود العقاد. كوكبة ساطعة قلما نجدها في زمن واحد. وفي حديقة الأزبكية, وفي الهواء الطلق, رتل طاغور أشعاره, وكتب عنه العقاد لقد سمعنا فلسفة الهند أو فلسفة طاغور من فمه, ولا تزال في الآذان نغمة ذلك الصوت الشجي العذب وجرس من ذلك اللفظ الواضح الرخيم. وقد أعجب وافتتن طاغور بمصر وبحضارتها وأهلها, وكان ذلك في عام1926, و هو الذي زار العديد من بلدان العالم شرقا وغربا. وطاغور هو رائد وإمام الحركة الوطنية في الهند, حيث استطاع بشعره أن يشعل نار الحماس في جميع أبناء الهند بمختلف معتقداتهم, ويوقظ العزم في صدورهم, مثال علي ذلك ما قاله علي لسان بطل قصته جورا: أنا اليوم هند بحق, هندي قد خلت نفسه من كل شحناء أو فرقة بين الهندوسي والمسلم والمسيحي, كل ملة في الهند اليوم هي ملتي, فدعني اليوم أنشد صلاتي وترانيمي للإله الذي هو إله الجميع علي السواء.. هندوسيين ومسلمين ومسيحيين وبراهميين, الإله الذي ليس للهندوسيين فحسب, وإنما هو إله الهند كلها. ترنيمة وطن ولم يقف عند هذا الحد من الحماس والولاء لبلاده, فقد كتب نشيده المشهور جانا جانا مانا أو نشيد الصباح للهند وهو النشيد الذي اتخذته الهند نشيدا قوميا لها, والحق أنه ليس أبلغ من ذلك عرفانا واعترافا وإشادة بوطنيته الرفيعة. والنشيد ليس ترنيمة مدح لبلاده تنطوي علي الخيلاء, ولا هو استثارة للعواطف الوطنية الضيقة الآفاق, وإنما هو صلاة وولاء وابتهال وضراعة إلي المولي الذي يهيمن علي عقول و قلوب الشعوب جميعا. والنشيد يقع في خمسة مقاطع, أولها, وهو الذي اتخذته قوات قوات الدفاع الهندية نشيدا لها, والذي يتغني به عادة في كل المناسبات والحفلات, تقول كلماته: مولاي.. إنك أنت المهيمن علي عقول الشعوب جميعا. وأنت المتصرف وحدك بمصائر الهند, اسمك إذا ذكر تحركت له القلوب في البنجاب والسند, وفي جوجارات ومرثا ودارفيد وأوبسا والبنغال, وتردد صداه في تلال فذهياس والهيمالايا, ورجعت موسيقاه في خريرها أنهار جومنا والكنج, وأنشدته أمواج البحر الهندي في مدها وجزرها, إنهم جميعا يصلون لك لتصلهم بركاتك وتحل عليهم نعمك. إنهم جميعا يلهجون بالحمد لك والثناء عليك. أنت أيها المتصرف وحدك في مصائر الهند النصر لك, لك وحدك. وطاغور كان من أولئك الذين يستوحون وطنيتهم من أرفع المثل العليا الإنسانية وأصفاها جوهرا, والذين تحدوا بالمثل التي ضربوها المذاهب القومية الحديثة, وتجاوزوا الحدود المصطنعة التي صنعها الإنسان, إن المثل الأعلي الذي كان يبتغيه للهند الحرة والذي كان ينشد تحققه في كل بقاع العالم قد عبر عنه بقوة واقتدار, وفي غناء حلو وسلس بالأبيات التالية في مقطوعته الشعرية جيتنجا لي: إلي حيث ينطلق العقل في غير ما خوف, ويرتفع الرأس في عزة وتصبح المعرفة مباحة. وحيث لا يتجزأ العالم إلي أقسام تفرضها حدود محلية ضيقة. وحيث تصدر الكلمات نابعة من أعماق الحق, ويتجه السعي الدائب الذي لا يفتر بكليته إلي تحقيق الكمال. وحيث لا يفقد مجري العقل الصافي طريقه, ويتحول إلي الصحاري الرملية الجدباء بتأثير العادات الميتة. إلي حيث تقود أنت يا إلهي العقل إلي الفكر المتسع الآفاق أبدا, والعمل المستمر في جنة الحرية هذه, يا رباه, أيقظ أمتي ودعها تنهض. ولد طاغور بمنطقة كلكتا في السادس من مايو عام 1861 وتوفي في السابع من أغسطس 1941, وتعرض للكثير من المحن والخطوب, فقد توفيت والدته وهو في الرابعة عشرة من عمره, وبعد عدة أعوام انتحرت شقيقته, ثم تلت ذلك وفاة زوجته وهي في ريعان شبابها, وكذا ثلاثة من أطفاله ثم والده, ورغم ذلك لم يركن لليأس والإحباط, بل كان متفائلا محبا للحياة والإنسانية جمعاء, غيرمحدود بالحب الفردي والخاص, وقدم طاغور للتراث الإنساني أكثر من ألف قصيدة شعرية, وحوالي 25 مسرحية بين طويلة وقصيرة, وثماني روايات, وثماني مجموعات قصصية, إلي جانب عشرات الكتب والمقالات والمحاضرات في الفلسفة والدين والتربية والسياسة والقضايا الاجتماعية, هذا إلي جانب إبداعه الموسيقي والتشكيلي, كما أسس مدرسة عام 1901 أطلق عليها مرفأ السلام. حصل طاغورعلي جائزة نوبل في الآداب عام 1913, ليكون أول أديب شرقي يحصل عليها, كما نال وسام فارس من ملك بريطانيا جورج الخامس عام 1919 عقب مجزرة أمريتسار التي قتلت فيها القوات البريطانية أكثر من أربعمائة متظاهر هندي.و مازال طاغور يردد اشعاره بيننا,و نستمع الي فلسفته الهندية العميقة كلما فتحنا كتابا له.