في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعاصر في شبه القارة الهندية ثلاثة من المصلحين الذين كانت لهم آثار بعيدة في الحياة الروحية والسياسية والفنية في شبه القارة ومصيرها, كما سعدت بآرائهم وكتاباتهم بلاد كثيرة في الشرق والغرب. هؤلاء الثلاثة الكرام هم محمد إقبال, والمهاتما غاندي, ورابندرانات طاغور الذي كان موهوبا في عقله, وفي عاطفته, وفي لسانه, وفي يده. كان موهوبا في عقله, فكان مفكرا حصيفا عميقا, وكان مربيا مجددا; وكان موهوبا في عاطفته, فكان شاعرا معبرا رقيقا, وموسيقارا عذب الألحان, وكان موهوبا في لسانه, فكان خطيبا بارعا طليقا, كما كان متحدثا رائعا أنيقا; وكان موهوبا في يده, فأخرج لوحات مصورة من أبدع ما أخرجت يد الفنانين العباقرة. فهذا رجل قد جمع الله فيه الأدب, والفن, والشعر, والكتابة, والخطابة, والتربية, والموسيقي, والرسم, وقد سخرها جميعها في خدمة الحق والخير والجمال والإنسانية. ولد رابندرانات في كلكتا في6 مايو سنة1861, وكان أصغر أولاد ماهاراشي ديفندرانات طاغور, وحفيد الأمير دوار كاندات طاغور. وكان لكل من أبيه وجده صلة قوية بالتعاليم الروحية والدينية, وكان لهما ثراء واسع ومنزلة اجتماعية رفيعة في بلاد كان نظام الطبقات يسود فيها. وقد تفتحت مواهبه الأدبية, وهو في باكورة شبابه, فكان يكتب في المجلات البنغالية. ولم يكن المثقفون في الهند يومئذ يعرفون شيئا عن الأدب الغربي سوي الأدب الإنجليزي, فكتب لهم طاغور عن جوته, ودانتي, وبترارخ, وفيكتور هوجو, وغيرهم من أدباء أوربا. ولئن كانت عبقرية طاغور قد تفتحت في مهد من العزلة في أثناء طفولته, لقد كان من الضروري أن تنمو وتترعرع في مجال فسيح من الحياة, هي الدنيا بأجمعها, فقد قام طاغور بعدة رحلات طويلة في القارات الأربع.. انتقد طاغور الاضطراب الفكري الذي وقع فيه الشاعر الإنجليزي كبلنج حين قال: إن الشرق شرق, والغرب غرب, ولن يلتقيا. نعم إنهما حتي الآن لم يبد أنهما علي وشك الاقتراب, ولكن السبب في ذلك أن الغرب لم يرسل ناحيته الإنسانية لتقابل الرجل الذي في الشرق, وإنما أرسل إليه الآلة. وينبغي بناء علي ذلك أن نغير شعر كبلنج ليكون: الرجل رجل, والآلة آلة, ولن يلتقي الرجل والآلة. هكذا كتب د. مهدي علام عن شاعر الهند العظيم طاغور ويقول عنه كامل النحاس: قل من الأفذاذ من يتسع نبوغه إلي مثل الآفاق التي تغلغل فيها طاغور فهو فيلسوف متعمق, وفنان خلاق, أنارت آراؤه الطريق للملايين في الهند حتي وصفه غاندي بأنه( حارس الهند العظيم), ونفذ فكره الثاقب في كثير من نواحي الحياة, ومجد الطبيعة والإنسان والإنسانية حتي استحق عن دراساته ومؤلفاته جائزة نوبل سنة.1913 ولم يقتصر نشاط طاغور الفكري علي هذه الميادين, بل تعداه إلي ميدان التربية الذي اتجه إليه هذا العقل اللامع بعد سن الأربعين. ورسم طاغور مذهبه في التربية والتعليم واضحا بسيطا, بل طبق مذهبه عمليا في الحياة فأنشأ مدرسة سانتينيكتان التي تطورت إلي الجامعة العالمية بعد ذلك( فيسوا بهاراتي), وهي تعد الآن من أعظم جامعات الهند, وتضم طلبة وطالبات من أنحاء العالم.. يقول طاغور إن الشر والفساد يأتيان من أننا حينما نفكر في جامعة, تثب إلي ذهننا صورة جامعة كمبردج أو أكسفورد, وحشد آخر من الجامعات الأوروبية يتدفق ليملأ جميع فكرنا, ونتخيل بعد ذلك أن تحررنا قائم علي اختيار أحسن ما في هذه الجامعات, ثم نرقع بعضها ببعض في تنظيم كامل, وننسي أن الجامعات الأوروبية هي أجزاء عضوية حية من حياة أوروبا, حيث وجد كل منها مولدها الطبيعي. إن ترقيع أنوفنا وأجزاء وجوهنا الناقصة بجلود وعضلات من أعضاء أجنبية, أمر مسلم به في الجراحة الحديثة, ولكن أن نبني الإنسان بكليته من أجزاء أجنبية, فإنه أمر تعجز عنه ممكنات العلم, ليس في الوقت الحاضر فقط, ولكن آمل بكل قوة, أن يكون كذلك في جميع العصور القادمة. أقوال مأثورة لطاغور نقترب من العظمة بقدر ما نقترب من التواضع. الفشل هو مجموعة التجارب التي تسبق النجاح. سأل الممكن المستحيل أين تقيم؟ فأجاب: في أحلام العاجز. شكرا للأشواك, فقد علمتني الكثير. آمن بالحب ولو كان مصدرا للألم ولا تغلق قلبك. لا يمكنك اقتلاع عبير زهرة حتي ولو سحقتها بقدميك. في ابتسامة المرأة عظمة الحياة وجمالها, وفي عينيها دهاؤها وعمقها. أنا لا أريد الطمأنينة العفنة, فأنا أسعي للبحث عن شباب دائم. أيها الجمال اكتشف نفسك في الحب لا في تملق المرأة. متي أحبت المرأة كان الحب عندها دينا وكان حبيبها موضع التقديس والعبادة.