حنان الشبيني تقدم بحثًا متميزًا عن فاعلية التدريب في تطوير التعامل مع المحتوى الرقمي    البابا تواضروس: نحن مواطنون مصريون نعيش مع إخوتنا المسلمين فى وطن واحد    تطبيق منظومة التأمين الصحى الشامل بأسوان أول يوليو    محمد شردى يجرى جولة بكاميرا "الحياة اليوم" مع عمال النظافة بالقاهرة    رئيس وزراء اليونان: سعيد باستقبال الرئيس المصري بقصر ماكسيموس    هزيمة النازية ... وجريمة إسرائيل!!    انطلاق مباراة الإسماعيلي وإنبي في الدوري    النيران تلتهم وحدة سكنية بقنا    لماذا يكرهوننا ؟!    تقديم خدمات علاجية ل 470 مواطنًا خلال قافلة طبية شاملة بالبحيرة    إزالة 8 تعديات على أملاك الدولة في حملات بالأقصر    تكريم مجلس اتحاد طلاب جامعة المنيا الأهلية    بسبب السحر.. شاب يحاول قتل شقيقته بالقليوبية    تشييع جثمان الطفل ضحية الطلق النارى من زملائه بكفر الشيخ.. صور    الإسماعيلية تتابع الموقف التنفيذي لمنظومة تقنين واسترداد أراضي الدولة    ختام فاعليات مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته التاسعة - صور    أوس أوس يطلب الدعاء لوالدته بعد دخولها رعاية القلب    «منهم الحمل والأسد».. 4 أبراج تتحدث قبل أن تفكر وتندم    آخرهم رنا رئيس.. 6 زيجات في الوسط الفني خلال 4 أشهر من 2025    قصر ثقافة العريش يشهد انطلاق أولى فعاليات الملتقى الثقافي "الثقافة والهوية الوطنية"    خالد الجندى: الاحتمال وعدم الجزم من أداب القرآن ونحتاجه فى زمننا    لماذا فرض الله الحجاب على المرأة دون الرجل؟ أمين الفتوى يجيب    ميرتس يبدي تحفظا حيال إسهام بلاده في تأمين هدنة محتملة في أوكرانيا    «الإعلام في تعزيز جهود الرعاية الصحية للمواطنين» في جلسة بحثية بإعلام القاهرة    بيدري مهدد بالعقوبة من يويفا بسبب تصريحاته ضد حكم قمة الإنتر وبرشلونة    مبيعات أجنبية تهبط بمؤشرات البورصة بختام جلسة اليوم.. فما الأسباب؟    عمر طلعت مصطفى: ننسق مع وزارة الشباب والرياضة للاستفادة من الفعاليات الكبيرة للترويج لسياحة الجولف    جوندوجان يأمل في بداية مسيرته التدريبية كمساعد لجوارديولا    ما حكم طهارة وصلاة العامل في محطات البنزين؟.. دار الإفتاء تجيب    التايكوندو يتوجه للإمارات للمشاركة في بطولة العالم تحت 14 عام    عضو ب"القومى للمرأة": حظر تشغيل كل من كان عمره أقل من 15 سنة فى المنازل    جامعة كفر الشيخ تشارك في منتدى «اسمع واتكلم» بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف    محافظ المنيا يوافق على تحسين خدمات النقل وفتح التقديم لترخيص 50 تاكسي    خلافات مالية تشعل مشاجرة بين مجموعة من الأشخاص بالوراق    محافظ قنا يشارك في احتفالية مستقبل وطن بعيد العمال ويشيد بدورهم في مسيرة التنمية    عدوان الاحتلال الإسرائيلي على طولكرم ومخيميها يدخل يومه 101    رئيس جامعة القاهرة: هناك ضرورة لصياغة رؤية جديدة لمستقبل مهنة الصيدلي    رئيس "أزهرية الإسماعيلية" يشهد امتحانات النقل الإعدادى والابتدائى    تعرف على وضع صلاح بين منافسيه في الدوري الإنجليزي بعد 35 جولة    وزير البترول: التوسع الخارجي لشركة "صان مصر"على رأس الأولويات خلال الفترة المقبلة    ب12 هاتفًا.. عصابة تخترق حساب سيدة من ذوي الاحتياجات وتنهب أموالها    كندة علوش: دوري في «إخواتي» مغامرة من المخرج    قطاع الفنون التشكيلية يعلن أسماء المشاركين في المعرض العام في دورته 45    إطلاق صندوق لتحسين الخدمة في الصحة النفسية وعلاج الإدمان    بدء التشغيل الفعلي لمنظومة التأمين الصحي الشامل في أسوان أول يوليو المقبل    آخر تطورات مفاوضات الأهلي مع ربيعة حول التجديد    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    وزارة الأوقاف تعلن أسماء المقبولين لدخول التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    السنغال بالزي الأبيض والكونغو بالأزرق في كأس إفريقيا للشباب    وظيفة قيادية شاغرة في مصلحة الجمارك المصرية.. تعرف على شروط التقديم    سحب 49 عينة سولار وبنزين من محطات الوقود بالإسكندرية لتحليلها    المراجعات النهائية للشهادة الإعدادية بشمال سيناء    الداخلية: ضبط 507 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة    بتكلفه 85 مليون جنيه.. افتتاح مبنى امتداد مركز الأورام الجديد للعلاج الإشعاعي بقنا    عضو مجلس الزمالك: كل الاحتمالات واردة في ملف زيزو    اليوم.. الرئيس السيسي يتوجه إلى اليونان في زيارة رسمية    عاجل- مصر وقطر تؤكدان استمرار جهود الوساطة في غزة لوقف المأساة الإنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدينة الحنان الشرس
نشر في الأهرام اليومي يوم 20 - 08 - 2015

يتساءل القريبون مني لماذا لا أحب زيارة روما . وأكتم عن الجميع كيف كان قلبي ذات نهار قديم مجرد فراشة عشق ملونة لا تمل الشوق لمن سافرت إليها ، وهي التي سكنت تحت جفوني عندما كان العمر مجرد ثلاثة عشر عاما ، وكان عبد الحليم حافظ يغني لها في قلبي « لو شفتم عنيه حلوين قد إيه .. حاتقولوا إنشغالي وسهد الليالي مش كثير عليه »
............................................................... ولن أنسى يوم تطابقت معاني تلك الأغنية مع دقات قلبي ، كان هو نفس اليوم الذي دعاني فيه سيد سنوات التذوق الفني في حياتي وهو الفنان سيف وانلي ، حين لاحظ أن بريق عيوني يزداد حين أرى ليليان ، وأن ملامحي تتغير لتنشر حولي هالة يمكن أن يلحظها رسام مصور يقرأ أي تغير في ألوان الملامح لحظة الإنغماس العاطفي ، قال لي « أعلم أن والدها قد حجز اليوم تذاكر في مسرح محمد علي _ أوبرا الإسكندرية حاليا _ وأعلم أنه صديق والدك ، ويمكنك أن تحضر لتجلس معهم في نفس البنوار أو في أي كرسي في الصفوف الأولى . ولن يجرؤ أحد على منعك ، فاليوم هو يوم» أوبرا تانهاوزر» لفاجنر ، وستسمع موسيقى كأنها خرجت من قلبك مباشرة لتسافر إلى قلبها مباشرة « . وكان يكفي أن أقول لمدير المسرح أني ضيف سيف وانلي وإبن فلان ، حتى يسمح لي بالدخول . ولم أكن أعلم أن أبي قد إتفق مع والدها على أن أذهب مع أسرتها إلى تلك الأوبرا ، ولم أعرف إن كان أبي قد علم ماذا تعني الأوبرا أم لا ؟ أم أنه كما قال لي أحدهم « ماذا ستفعل عندما تشاهد أناسا تصرخ على المسرح بأصوات لا تميز بأي لغة تنطق ؟ ولكني كنت أعلم أن الصرخات في الفن الغنائي هي نداء على شيء تائه .وعرفت من سيف وانلي أن التائه المبحوث عنه هو تطابق عشق الروح مع عشق الجسد ، وكنت أعلم أن أبي أمضى ثلاث سنوات من تعلم إدارة المؤسسات الصحية بألمانيا .ولابد أنه قد سمع إسم فاجنر وموسيقاه ؛ خصوصا وأننا نحن أبناؤه قد عرفنا بشكل أو بآخر أن قلبه ظل لسنوات ينادي بصراخ لا يسمعه أحد غيره على زميلته في التدريس التي أحبها ولم يستطع الزواج منها لأن وزارة المعارف العمومية كانت تمنع زواج المدرسات .
المهم أن قصة الحب التي إرتجف لها قلبي مع ليليان إستمرت ثلاث سنوات ، فكيف لقلب برىء مقاومة حنان زيتوني اللون يخرج من عينين ليستا بريئتين تماما تبدوان كجزيرتين يكونان مدينة واحدة شديدة الحيوية والتوحش في بوتقة صدق يرفض أي زيف . كيف لقلب مثل قلبي أن يقاوم نضج الثالثة عشر حين يعده بأن الحياة ستمر طويلة وجميلة وبلا توترات مع إنسانة تعرف دقة التمييز بين الصواب والخطأ.
..............................
لكن ما أن مات أبي حتى أعلنت أمي رفضها لهذا الحب الذي يرفع فاتورة التليفون في منزلنا ، لأننا نسهر _ أنا وليليان _ لساعات طويلة ، نتحدث في أي شيء وكل شيء ، لذلك رفعت أمي راية العصيان ، فليس من المعقول أو المقبول أن يولد حب لن يكتمل بالزواج ونحن في الخامسة عشر . فضلا عن أن أمي كانت تخشى زواجي من إبنة مهندس ميكاينكي يعمل مديرا لورشة سيارات أمريكية بالإسكندرية ، فهو أولا وأخيرا مجرد ميكانيكي ، حتى ولو كان مولودا في روما ، وحتى لو كان يسكن في زيزينا حي أجانب الإسكندرية الأثرياء ؛ بينما نسكن نحن في شارع بوالينو وهو الحد الفاصل بين الطبقة المتوسطة للموظفين ، وبين الفقراء سكان حي غيط العنب من عمال التراحيل وباعة الخضراوات ؛ وهو الشارع الذي يتزين منتصفه بمكتب شيخ الحارة الذي إشترى سيارة قديمة ، وحين عجز موتورها عن العمل ، قطع مكان الموتور ؛ وإشترى مقدمة عربة كارو ليجعلها مقدمة لسيارته ، فصارت أول سيارة بالإسكندرية يجرها حصان . ورغم الفارق بين أناقة الحياة في زيزينا وفوضوية الحياة في بوالينو إلا أن أمي أصرت على أننا أبناء موظف كبير ولا يمكن أن نتصاهر مع ميكانيكي سيارات حتى ولو كان إيطاليا. ولكن تشبث القلب بالحب جعل موقفي يختلف تماما عن موقف والدتي التي تبكي عندما تسمع فريد الأطرش « دموع الليل دموع تبكي على حالي « بينما أغني أنا « لو شفتم عينه حلوين قد إيه حاتقولوا إنشغالي وسهد الليالي مش كثير عليه ، فضلا عن أني قد أكون الكائن الوحيد في شارع بوالينو الذي تذوق أوبرا «تانهاوزر»، والتي أوجزها لي الفنان سيف وانلي بأنها قصة شفيقة ومتولي عند الألمان ، بما يناسب ظروف الألمان طبعا ، فهي تحكي عن فارس عشق أميرة بنت قصور ، لكن الظروف دفعته إلى أن يبرق جماله في عيون فينوس مدمنة النشوة الحرام، فتسرقه إلى دنيا اللذة ، ليحيا في أحضانها متناسيا الحب بما فيه من شفافية ورقة . وما أن يفيق من دنس إدمان فينوس حتى يحلم بالعودة إلى الحبيبة ، لكن لا جدوى من طلب ادمان السباحة في اللذة التي لا شفافية فيها، ولا غفران حتى بالحجج إلى روما التي تهب صكوك الغفران التي لم يؤمن بها فاجنر ، فتنتحر الحبيبة ليموت العاشق كمدا من فرط العجز عن نسيان الحب البريء وعجز المواصلة مع عشق جسد فينوس .
..............................
وما أن إنتهت حرب العدوان الثلاثي على مصر حتى قرر والد ليليان العودة إلى روما حيث لم يعد هناك أحد يصلح سيارته في الورشة الكبيرة ، وأن هناك عمل ينتظره في روما .
ووقفت ثالث ثلاثة على رصيف ميناء الإسكندرية ، سيف وانلي ومخالي الناقد الفني وصاحب محل إيليت ، وأنا لنرفع الأيدي لعائلة أنطونيو والد ليليان التي تغادر الإسكندرية على المركب «أستوريا». ودهمني منذ ذلك الوقت خيال غير واقعي ، يهمس في أعماقي بان أيا منا ليس إلا ورقة شجر ، وأوراق الشجر كانت في الأصل قطعة الأرض ، وأن الأرض بكل دورانها حول نفسها وحول الشمس ، تعيدنا جميعا بعد إعادة صهرنا إلى الأرض، وتستعيد الأرض صناعة أجساد أخرى لتعيش حرارة الإنصهار حزنا أو فرحا ، ثم تعود إلى باطن الأرض .
وكنت أدمن كل صباح سؤال الشمس لماذا تشرق كل نهار ولماذا تبتعد عن الأرض في أحيانا أخرى . وطبعا كانت الشمس أكثر حكمة مني فلا تسمع سؤالا أصلا ، لأنها مشغولة بمهمتها اليومية ، فقط تدور الأرض والشمس وتتلاعب الرياح ويتساقط المطر ، ويهيج البحر دون أن نتذكر أن الأرض كلها ليست إلا قطعة باردة من الشمس . وهكذا توالت أيام وأسابيع وشهور وسنوات عمري ، هذا العمر الذي بدأ في صباح معروف التاريخ بالنسبة لي لكني أجهل ملامحه ، وصرت هذا الكائن الذي يلهث من أجل أن يمتلك أحضاناً يحبها . وليحيا قلبي لسنوات مع صدق متجدد مع احتياجاته ، بمعنى أنه لم توجد في أيامي القديمة رغبة إلا وسعيت إلى إروائها . ففي أصغر نداء عاطفي في عيون أي امرأة كنت الملبي الدائم التجوال . وفي عيون حبيبتي كنت هذا الخاطئ الباحث عن المغفرة . ولم أعرف حتى الآن سراً لالتصاق الخيانة بالوفاء . ولا لالتحام الحب بالكراهية ، ولا لقسوة الطمع في قلب الصديق . ولا لمعنى الكلمة الكاذبة التي يقولها العاشق في لحظة الوجد بين أحضان حبيبته « إنني أذوب فيك « ، فالحقيقة أنه يعتصر رحيقاً ينمو به إحساس الثقة بالنفس . وصرت مع مرور الأيام أحاول معرفة التمييز بين أحداث أحياها ، فلا أستطيع ، لأن كل شيءإختلط بكل شيء . ويتعانق فيه الغروب مع الظهر . وينام العشاء في أحضان الفجر . وما أن إنكسرت ثورة يوليو بهزيمة يونيو ، وما أن جاء إنتصار أكتوبر الذي لم يستطع السادات إدارته سياسيا كما ينبغي أو كما كنا نحلم ، وما أن وضع أوراق المستقبل في يد هنرى كيسنجر ، حتى أطلت علينا من الولايات المتحدة وجوها مصرية عاشت هناك لسنوات بحكم خصام بينها وبين ثورة يوليو ، وكان أحد هذه الوجوه ، عالم القانون البارز شريف بسيوني الذي ترك مصر في نهاية عام 1959 ، لأسباب لم يتسنى لي معرفتها على الرغم من معرفتي بأغلب رجال يوليو ، كبيرهم وصغيرهم . وجاء إلى القاهرة لتربطني به صداقة لعمق علمه ولقدرته المتجددة على أن يطرح عليك سيناريو ينقص منه موقعا ويطلق عليك مدفعية السيناريو وعليك أن تكمل بمعلوماتك بقية الجزء ليتعرف هو على هويتك السياسية ، أو إلى موجز الرأي العام الذي تنتمي إليه . وقد جاء في عام 1985 بسيناريو خرج حديثا كمدفعية أولى على عالمنا العربي ، إسمه « حقوق الإنسان « وغالبا ما كانت محاضراته في أكاديمية الشرطة أو كليات الحقوق تدور حول حقوق الإنسان ، وكيف أن عالمنا العربي يخاصم تلك الحقوق ، بحكم أنظمة الحكم فيه . وطبعا لا يناقش شريف أو الهيئات العالمية أن فكرة حقوق الإنسان ، تتطلب أساسا وقف إستنزاف عالمنا العربي في الحضارة المزيفة التي تقوم على أساس « بناء كل شيء كما ينبغي أن يكون بشرط أن يظل مفتاح هذا البنيان المتحضر موجودا خارج العالم العربي ، فالغرب الذي إندفعنا إلى أحضانه قام بتسلم بعض دولنا طائرات تكشف كل ما في الأرض ؛ ولكن من يعمل عليها ليسوا عربا . وتاهت فكرة التنمية المعتمدة على الذات ، لنجد الثروات تتكدس في بنوك الغرب ، وطبعا لم يسمع أو يقرأ أحد ما كتبه بالأهرام المحترم بغير حدود محمود رياض أمين جامعة الدول العربية الأسبق، الذي عاصر قضية فلسطين منذ حرب 1948، ومات بعد إنتصار أكتوبر ، ولم ينس قبل الموت أن يطالب العالم العربي بألا يستخرج برميل بترول واحد إلا مقابل تنمية شاملة ، وألا يترك ثمن البترول كمجرد أرقام على شاشات الحسابات البنكية ، أو في سندات الخزانة الأمريكية التي لا يحميها رصيد من الذهب ، فالدولار هو أكبر عملة عارية في عالمنا والذي يقوم بتثبيت قيمتها هو قوة النيران الأمريكية . وكان الملك فيصل عاهل السعودية هو أول من إنتبه إلى رفض وصاية الغرب على المال العربي . ولكن العبث بعقول الساسة ومحاولة إبراز الخلافات العربية كان من مهام المفكرين الأمريكيين ، فهم مثلا من لعبوا بعقل صدام حسين وأيقظوا في أوهامه إحتلال الكويت ، بعد أن فشل في تقديم نفسه للولايات المتحدة كبديل لشاه إيران الذي سقط ، وطبعا كان سقوط صدام حسين أمرا مؤجلا وطبيعيا ، بعد أن حارب بلا مناسبة جيرانه الإيرانيين لثماني سنوات ، وما أكتبه ليس دفاعا عن أي ثورة دينية بإسم أي مذهب ديني ولكنه رصد لما جرى من خيبة . وطبعا كان من السهل على صدام أن يستورد أسلحة ، وأن يلقي قنابل الخردل على الأكراد ، وأن يقتل المعارضين ، لذلك كان الجميع سقوطه دون إلتفات ماجري بعد سقوطه من مسلسل النهب لثروات العراق والتي سبق وحكى لي شريف بسيوني عنها من أن الطائرات بعد إحتلال إمريكا للعراق كانت تحمل صناديق الدولارات لتصل مطبوعة وجديدة إلى بغداد وكأنها أوراق الصحف ليوزعها يول برامير مندوب الإحتلال الأمريكي على الطوائف لتبدأ رحلة الإفتراق التي يثور العراق عليها حاليا طالبا النجاة من التقسيم الطائفي الذي أوجد داعش وأخواتها .
المهم أن الدعوة وصلتني عام 1985 كي أصل إلى روما لاحضر ندوات عن حقوق الإنسان العربي ، وما أن وطأت أقدامي أرض روما حتى أخذت أبحث بعيوني عن ليليان، فقد أخبرتها بموعد حضوري ، لذلك كانت في إستقبالي بمطار ليونادو دافنشي الذي بدا لي كقطعة من الفن المصقول . لكنه بارد وبلا أدنى عاطفة تتجول فيه كلاب مدربة تبحث عن السلاح والمخدرات . قلت لنفسي .. « وهل يفترق هذا المكان عن المخيم الفلسطيني الذي تمر فيه الكلاب بحثاً عن إنسان يحلم بحريته ؟ « . قلت لنفسي « مالك تجعل الحرية في كفة ميزان مع السلاح والمخدرات ؟ « . أجبت نفسي « الحرية يحبها الإنسان ليواجه بها الواقع ويعيد بناءه . والسلاح يهدر حياة كائن بشري آخر . والمخدرات يرحل بها إنسان من الواقع المرير إلى دنيا تقترب من الموت .
وأعلن لليليان أني موجود في روما لأربعه وعشرين ساعة قبل أن أطير إلى مطار بالريمو عاصمة المافيا ومن هناك ستقلني سيارة إلى مدينة سيراكوزا الساحلية حيث يوجد معهد القانون الجنائي الدولي لأحضر مؤتمر « حقوق الإنسان العربي « الذي دعا إليه شريف بسيوني رئيس الجمعية الدولية للقانون الجنائي الدولي والمؤسسة لهذا المعهد . ويحضره جهابذة القانونين من أنحاء العالم العربي ، وشاء شريف بسيوني أن أوجد معهم لما يملكه إحساسي بجرح أي قشرة زيف تعلو أية ملامح بأسلوب ضاحك .
وتخبرني ليليان أنها تعلم يقينا أني سأفر منها طبقا لما شاءته أمي سابقا ، خصوصا وأنها حاليا أرملة وأنها أمينة متحف يضم آثار العرب . وتعي أن الإسكندرية عزفت لنا نشيداً من البهجة ومن الألم . وكلانا يعرف أن الذي يفصلنا الآن ليس هو العمر ولكن هناك ستة أبناء .. هي أنجبت ثلاثة ، وأنا أنجبت ثلاثة . والأبناء لا تغفر للآباء والأمهات حق التذكار لقصص الحب القديمة . مازلت أتذكر يوم رحيلها من الإسكندرية. وكان والدها يقول عن والدي « إن الذين أهدروا دماء الدين في أنهار التعصب عليهم أن يلتقوا بوالدك ، ليعرفوا كيف أن الإنسان هو الإنسان دائماً . والإنسان باحث عن الله وإن اختلفت السبل . وحساب الله مع الإنسان لا يمكن أن يقوم به إنسان آخر . الحساب الختامي بين العبد وبين الرب وليس بين الإنسان والإنسان « . وسافر أبي إلى الموت . وسافر والدها إلى الموت .
وبقي الصراع خافتاً بين أمي التركية ووالدتها الإيطالية . وكانت ماريا تقول لي « بين الأتراك والإيطاليين كراهية عميقة . سببها غير ديني ، سببها ببساطة مذابح كثيفة قام بها الجانبان كل منهما ضد الآخر في أثناء محاولة القدماء للسيطرة على العالم « وكنت أسأل ليليان : ولكن ما ذنب حبنا نحن في هذا الأمر .
تضحك لتقول : لا تقل حبنا .. بل قل حبي لك : لأنك عملياً لم تحيا الحب بالشكل المخلص . اسأل سيف وانلي سيقول لك إنك لا تفرق بين التفاحة وقرص الطعمية وإنك لم تمانع من صداقة مع « كيداهم « ابنة صاحب الفرن في شارع بوالينو . ولا مانع عندك من البكاء بين يدي طالباً المغفرة . لا تقل إنك تحب امرأة فأنت تحب اعتراف امرأة ما بك كرجل . هذا كل ما في الأمر .
وكنت أعلم أنها صادقة تماماً وكنت لا أعرف ما السر في اندفاعي الأهوج إلى مغامرة طارئة ، لكن كان قلبها هو الميناء الذي أركن إليه دائماً . وليس معنى ذلك أنني كنت « دون جوان « ولكن كان معنى ذلك أنني متلهف إلى إثبات ذاتي بأي طريقة وبكل وسيلة . لا أنسى يوم رحيلها. كانت دموعي تتلاحق مع دموعها لتصنع الدموع بحراً تسير فيه المركب إلى إيطاليا . ولا أنكر أنني استرحت لأنها سافرت . ولم تنكر هي أيضاً أنها استراحت . ولكن الرسائل بيننا لا تنتهي . فعندما تزوجت هي من شاب يملك مصنعاً للآلات الإلكترونية أرسلت لها لوحة من لوحات سيف وانلي . وأرسلت لي كرافت إيطالية مكتوب عليها كلمة واحدة «سأشنقك لو تزوجت غيري » . وعندما تزوجت أنا أرسلت لي كرفتات إيطالية ومعها كلمة لزوجتي « أشنقيه بها لو نظر إلى امرأة غيرك إلا أنا .. فأنا أسكن في أعماقه » . وعندما احترق زوجها عندما لمس آلة كهربائية . أرسلت لها كلمة واحدة « جميعنا نحترق ولكن لم نصبح بعد رماداً » . وعندما جاءت لزيارة القاهرة وجدتها جميلة فوق التصور وقلت لها : « لو سمحت لي زوجتي أن أتزوجك الآن لفعلت « . ضحكت : « ليس لك الحق في أن تستأذن زوجتك فأنا الحلم الأول وهي الواقع الأخير» .
..............................
وفي هذا اللقاء صرت لا أعرف ماذا قالت لي . كل الذي أعرفه أن أحزان الشوك انخلعت من قلبي وأنني صرت طفلاً يتجول في حديقة شاسعة . وأن الحياة تتتابع إلى الأمام وإلى الخلف في إيقاع موسيقي . وأن النهار امتلك نعومة الربيع وأن الألوان ازدهرت بسحر جديد ، وأن عيونها هي مدينة الحنان الشرس التي أتمنى الإقامة فيها إلى الأبد .
قادتني بسيارتها إلى قلب المدينة وكان خلفها ابنها الذي في الخامسة عشر . إنه يشبه جده كثيراً . ما الذي يدرسه ؟ « ميكانيكا السيارات ويحلم أن يطور الصناعة الأوروبية « . سألته: « هل تعلم من أنا يا روبرتو « نظر الشاب لي بعيون مطفأة وقال « أعلم أنك صديق عزيز لأمي ووالدك كان صديقاً لجدي . وأن بينكما أنت وأمي قصة عاطفية صغيرة انتهت منذ أكثر من ثلاثين عاماً» .
قلت للشاب : « هل تسمح لي أن أفهم بعضاً من أحلامك» . قال الشاب : أحلامي هناك في الشمال الألماني فأنا أحلم بتطوير السيارة الأوروبية لتتفوق على السيارة اليابانية .والألمان يقدسون الفكرة الإيطالية وإن كانوا غير معجبين بأسلوب عمل الإيطاليين .
قالت ليليان : أنت ياروبرتو قلق من أجل أن تهاجر إلى ألمانيا لا لتطور السيارة . ولكن لأنك تحب فتاة ألمانية .
قلت : إن من حقه أن يحب فتاة ألمانية أو من أي جنسية أخرى .
قالت : إنه يشبهك . يرقص يوم الأحد مع ابنة الحي الشعبي ويأخذ أضعاف مصروف يده لينفق على طعامه معها ثم يأتي مفلساً إلى المنزل ليستخدم التليفون في الحديث مع فتاته الألمانية .
قلت : من حقه أن يتعلم من التجربة .
قالت : وهل تسمح لابنك أن يتعلم من التجربة .
قلت : ابني مثلك رومانسي حالم يضع قلبه كله في عيون امرأة واحدة .
قالت : أنت تدافع عن تاريخك لأن ابني يشبهك .
قلت : وأنت تدافعين عن تاريخك لأن ابني يشبهك .
قالت : وما فائدة الدفاع عن تاريخي فأنا امرأة مهزومة برعاية ثلاثة أبناء . لكن أنت معك زوجتك ، تعينك على متاعب الحياة ؛ أما أنا فقد إحترق مني الزوج .
قلت : من حقك أن تتزوجي مرة أخرى .
قالت : ومن هي العبيطة التي تتزوج مرة أخرى . لقد كان يأتي لي وأنا أشم في قميصه رائحة المرأة الأخرى ويقول لي « أحبك « وأكذب نفسي وأقول لنفسي « لا يمكن أن يخونني « ولكنه عندما احترق وجدت له ابناً غير شرعي .
قلت : إذن هل أنت حزينة لأنه احترق أم أنت حزينة لأنه أنجب طفلاً من امرأة أخرى ؟
قالت : أنا حزينة من أجل بعثرة العمر في أحلام تنكسر دائماً .
قلت : لكن أنا حزين لسبب آخر غير كل الذي تقولينه .
قالت : ما سبب حزنك ؟ .
أجبت : هو برتراند راسل .. الفيلسوف الذي أحببته أنا فوق التصور . لقد قرأت عنه وأنا في الطائرة مقالاً كتبه أستاذي الدكتور أحمد أبو زيد . روى فيه أن الرجل تحرك في مدى 94 عاماً على ثلاثة محاور .. المحور الأول هو الشوق الجارف للحب . والمحور الثاني هو البحث عن المعرفة العميقة ، والمحور الثالث هو الأسى الكبير لأن البشر غير سعداء على هذا الكوكب .
قالت : وما الذي يشقيك ويحزنك في أن رجلاً له قيمة كبيرة مثل برتراند راسل رصد حياته من أجل هذا الأفكار الثلاثة ؟
قلت : لا .. لأن المحور الأول الذي رصد له حياته وهو محور الشوق الجارف للحب قاده إلى إقناع فتاة بأن الحب هو كل شيء في حياته ، بينما كانت هي ترى أن الصداقة هي كل شيء في حياتها . وما إن تزوجها وأمضى معها عشرين عاماً حتى شعر أن الحب قد مات ، فطلقها وعاش مع امرأة غيرها وتزوجها وأنجب منها طفلين . وكانت للطفلين مربية حسناء فأنجب من المربية طفلاً ثالثاً .
قالت : ما الذي يحزنك في ذلك . لقد عاش الرجل مثلما يعيش كل الرجال . يقولون للنساء كلمات حنان ، تصدقهم النساء . ينجبون الأطفال . يترك الرجال البيوت إلى الموت أو إلى قصص حب أخرى .
قلت : سر حزني أن الرجل عاش مديوناً واضطر إلى كتابة مقالات في بعض المجلات النسائية مثل « هل من حق المرأة أن تعتنق الاشتراكية بينما هي تستعمل أحمر الشفاه « .
قالت ضاحكة : وما الذي يزعجك في ذلك .
قلت : أن يضطر فيلسوف كبير إلى مثل هذا اللون من الكتابات ليوفر كمية من النقود ليصرف على أبنائه ومطلقاته .
قالت : على الأقل هو لم يفعل مثلما فعل أحد الكارادلة الذي تعاون مع المافيا وأدار بنكاً يقوم بتمويل صفقات السلاح وسرقة الأطفال من جنوب شرق آسيا وبيع أعضاء هؤلاء الأطفال لأوروبا وأمريكا . وعندما ظهر المستور انتحر أو قتلته المافيا ، لا أحد يعرف .
قلت : ولكن الكاردينال هذا لم يضطر إلى كتابة مقالات ليصرف على مطلقاته . وهو لم يعلن أن الحب هو محرك التاريخ . إنه رجل سياسة ارتدى ملابس الكاردينال . ومضى ينفذ تعاليم البنوك على أساس أنها تعاليم السماء .........................
عندما دخلنا منزل ليليان في أحد أحياء روما وجدت البيت الذي يحلم به كل رجل أن يحيا فيه . نظام واتساع ودقة فائقة . و جاءت ابنتها رفابيلا .. في الرابعة عشرة منحوتة من جمال طفولي رائع . قلت بصوت عال : سبحان الخلاق : لماذا ترصد نفسها للعذاب المسمى رقص الباليه ؟!
قالت : ومن قال لك أن الحياة بدون الباليه ليست عذاباً . دع عنك كل الأفكار الغريبة . ودعني أصنع لك طعاماً إيطالياً خالصاً ، مكرونة بالسمك .
وبدأت أنشغل عنها بمتابعة فيلم يحكي عن الساسة اللصوص والفلاسفة الذين يبررون لهم ذلك .
تساءلت ليليان : ما الذي يشدك إلى التليفزيون بهذه الصورة ؟
قلت : يعرضون فيلماً وثائقياً بعنوان « اللصوص عن الساسة والفلاسفة
قالت : هل صوروا فساد صديقك الفيلسوف برتراند راسل .
قلت : لقد مات راسل منذ سنوات والفيلم لم يعرض لحياته ، لقد عرض مسلسل الرشوة والقتل من آسيا إلى أمريكا إلى أوروبا إلى روسيا إلى أفريقيا .
قالت : ألم تجد أن المحرك لكل الفساد هو الثلاثة أفكار التي عاش من أجلها الفيلسوف راسل .
قلت : لقد عاش من أجل البحث الشديد عن العلاقة العاطفية .
قالت : وكثير من اللصوص سرقوا لأنهم دخلوا في أكثر من علاقة عاطفية .
قلت : لقد عاش من أجل البحث العميق عن تقدم العلم .
قالت : وكثير من اللصوص استخدموا العلم ليسرقوا بدقة منظمة .و دعك من هذا القناع الجاد الذي ترتديه على وجهك وهيا لتأكل المكرونة بالسمك .
وفوجئت بأنها صنعت المكرونة بالسمك وبجانبها بضعة أقراص الطعمية !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.