أهلا يا أنا حين يتقدم يوم ما من أيام العمر إلى مقدمة تذكاري، ابتسم له ، متمنيا ألا يلون أحداثه بما أضافته تجارب جاءت من بعده. وهاهو يوم لقاء السائحة الإيطالية التى تعشق أثينا يتقدم لتمر بعض من تفاصيله أمامى ، ثم تزاحمه أحداث أيام أخرى عشتها مع أكثر من تجربة تتلامس مع القلب أنوثة شاء ميلادها أن يبدأ من روما .كنت _ ومازلت _ أؤمن أن المرأة هى جوهر الحياة بالنسبة لأى رجل، ولابد أن تكون جوهر المرأة هى جوهر أى مدينة يحيا بها الرجل . أبتسم لنفسى لأنى نزلت إلى اليونان قادما من الإسكندرية التى وصلت إليها من القاهرة ، بعد أن رأيت نفسى أرتجف من فرط جفاف إحساسى بالوحدة لأن حبيبتى سافرت إلى باريس ، ومن فرط ما تزاحمت تذكاراتنا بشوارعها ومبانيها حتى صرت مدفوعا بجنون السفر إليها ،فلم أملك إلا أن أستدين وأفعل مايشبه المستحيل كى أصل إلى باريس . وما أن توقفت المركب فى برييه ميناء اليونان الأشهر، حتى منحتنى أثينا صداقة طارئة مع إيطالية تعشق أثينا ،ومن المفترض أن أقضى ليلة فى اليونان لتحملنى الباخرة إلى فينسيا ثم القطار إلى باريس. ولم أسأل نفسى هل تلك الصداقة الطارئة هى إختبار عاجل لقياس مدى إخلاصى لمن تشكل قلبى على هيئتها ، وهى الحبيبة التى تتعلم فى باريس أم هى تجربة ستترك علامة ما فى القلب . لم أسأل نفسى هذا السؤال لأنى لا أومن بأنى فارس لا أقاوم ، فحقيقة الواقع هو إيمانى بأن المرأة هى بيت الحياة ، وهى من تقود علنا أو من وراء ستار كل أحداث الحياة منذ أن قام آدم بتشكيلها من ضلعه ، أو أنها إيزيس التى عشقت زوجها أوزوريس ، وسبحت فى نهر أشواقه فلا تمل الإرتواء ولا يكف عاشقها عن العطش إلى ما تهبه من حياة إلى أن جاءهما الحسد الشرير من شقيق الزوج المسمى « ست « ، فرفضت الإستسلام لشرور « ست « الطامع فى أنوثتها وفى نهب سلطان « أوزوريس « على قلوب من يحكمهم . وبالخديعة إستطاع «ست» ذبح أخيه» أوزوريس « وتقطيع أوصاله لينثرها فى أماكن متفرقة من وادى النيل . وما أن علمت «إيزيس» بذلك حتى تحولت إلى يمامة تطير فى أنحاء الوادى لتجمع قطع لحم الحبيب «أوزوريس» ، لتعيد ترتيبه كجسد مكتمل ، وبما أنها يمامة ، فلم يلحظ أحد كيف رقدت على قطع جسد الزوج المقطعة ، والتى أعادت رصها بجانب بعضها وهبته حياة مؤقتة ، ليمارس مع يمامته الحب فتحمل ب «حورس» ، الذى سرعان ما يولد كصقر لا يكف عن الطيران على كافة أنحاء وادى النيل باحثا عن الشرير «ست» ، فيصارعه ويصرعه . ويبقى فى الوجدان المصرى تشاؤما من قتل أى يمامة ، وعشقا مقدسا لكل صقر، وثقة فى أن الجد» أوزوريس» هو حامل ميزان المغفرة لعشاق الحياة عند طلوع أول نهار فى جنة الخلود. كانت أول إيطالية فى أيام عمرى هى ماريا، ابنة مسيو جوفيانى مدير توكيل كبرى شركات السيارات بالإسكندرية وصديق والدى . وهى التى ما أن التقينا مع والدها ووالدى على مقهى الترينانون، حتى دار بيننا حوار أخبرتنى فيه بأن عمتها تحبنى كثيرا، فهى السيدة التى تزوجها الطبيب رئيس أبى بعد أن طلق زوجته التى سبق وأزعجتها _ منذ أربع سنوات _ بالتبول عليها ؛ مدعيا أنه حادث قد تم دون إرادته ،حين جاء نومه فى السرير الذى يعلو سريرها فى المركب التى حملتنا لأداء فريضة الحج . وهى من طلقها زوجها فور العودة من الحج ، ليتزوج من عمة ماريا . ووجهت ماريا لى الدعوة لاحضر مع أسرتها أول كونسير موسيقى بمسرح محمد على _ صار اسمه الآن أوبرا الإسكندرية _ وحين نظرت إلى أبى، أبدى الموافقة، فهو من إستراح أيضا لطلاق رئيسه من تلك المزعجة الأولى . ولن أنسى حفاوة الزوجة الجديدة بى و تقول دائما أنى فألها الطيب ، فهى كممرضة إيطالية أحبت الطبيب الذى تعمل معه ولم تجرؤ على إعلان عواطفها تجاهه ، إلى أن عاد من الحج وألح فى طلب الزواج منها ؛ فأصرت على ألا تكون زوجة فى السر أو زوجة ثانية ، فطلق الزوجة الأولى، ليصفو لها الطبيب العاشق كزوج دون مسئوليات معلقة . ولن أنسى يوم ذهبنا لزيارة الطبيب رئيس أبى بعد زواجه من كريستينا؛ حين صحبنى أبى ومعه الدكتور أحمد كمال وكيل وزارة الصحة ومؤسس مجلة «الدكتور» التى ركزت أغلب دراساتها حول محور واحد هو العلاقة بين الرجل والمرأة. ولن أنسى الحوار الحساس الذى أعلن فيه د. أحمد كمال صاحب مجلة الدكتور أنه علم بإحتياج العريس لمقويات معينة، وأنه أحضر معه إبرة تعينه على المهمة المحبوبة من كل رجل. وتعجبت من رجل تضخم كرشه ويعانى من سمنة مفرطة كيف يتزوج تلك الغادة ذات الجمال الشاهق. وبعد تناوله للحقنة، دخلت علينا كريستينا كأميرة رومانية تزق عربة عليها إبريق الشاى والجاتوة. وظلت تحتضننى طوال الوقت لأنى فألها الحسن. وعندما وجهت لى ابنة شقيقها ماريا الدعوة لحفل موسيقى بمسرح محمد على ،و حصلت على موافقة أبى أيقنت أن عمر الثانية عشرة كفيل بان يضمن لى صداقات يحلم بها كل زملائى بالمدرسة وبالحى، صداقة مع عائلة إيطالية، فإسكندرية الأربعينيات والخمسينيات تزدحم بالإيطاليات واليونانيات، وكانت الجالية الإيطالية أقرب للإمتزاج بالمصريين عكس الجالية اليونانية التى ذاقت بعض المرارة أيام حربنا مع إسرائيل عام 1948، ذلك أن معظم أماكن أعمالهم تقع فى الأماكن الشعبية ، الخمارات الرخيصة، ميكانيكا السيارات المستهلكة، تجارة البضائع المسروقة من معسكرات الإنجليز. ويحاولون التعالى أحيانا على جيرانهم من السكندريين ، على عكس الإيطاليين الذين يسكنون أحياء الرمل الراقية بدءا من زيزينا وجليم وصولا إلى سيدى بشر قبل أن تدهسها غوغائية الإنفتاح . الضوء أمام مسرح محمد على بالإسكندرية؛ ضوء خاص؛ كأن القوارب التى تصطاد سمك المياس من الميناء الشرقى قد أهدت المكان مصابيحها إلى الساحة التى أمام المسرح؛ حيث يقف الجمهور فى الانتظار؛ فالحفل الموسيقى « الكونسير» يعطى بهجة الدخول فيما قبل ميلاد الشتاء، والمساء أزرق داكن تلمع فيه أضواء برتقالية ذات بريق خافت. ود. مزراحى الطبيب اليهودى الذى لم يكن قد غادر مصر هو صديق والدي؛ وهو من راح يقدمنى إلى عائلة مسيو البرتو جوفيانى رئيس الصيانة بشركة فورد؛ كان عمرى يقترب من الثانية عشر؛ وكنت أبدو كمن ينتظر انفجارا فى الطول؛ وضخامة فى الوزن، بدت ساحة مسرح أوبرا الإسكندرية وكأنها تدير احتفالا خاصا بوجود فتاة هى ماريا ابنة مسيو جوفياني؛ وقليلة هى المرات التى يشعر فيها الإنسان أن المكان سيشهد محاولة لميلاد حب؛ فما بالك وهو الحب الأول الذى كنت أنتظره أنا؛ بشرط أن يدهمني. قال مسيو جوفيانى موجها كلامه لي: والدك حدثنى تلفونيا قبل أن نحضر إلى الكونسير؛ وقال أنك ستأتى مع د. مزراحي، وأوصانى أن أعتنى بك. خجلت قليلا، ولم أجد ما أقوله؛ لكن ماريا التى خرطها خراط البنات بالفرح المدهش؛ قالت «عمتى تقول عنك أنك شاب جميل؛ وأنا مبسوطة أن هناك من هو فى مثل عمرى سيحضر معى الكونسير». وكى أدارى ارتباكى من عدم فهم معنى كلمة «كونسير» قلت لماريا: أنا لم أصدق ما قاله د. مزراحى عن الكونسير من أنه موسيقى تختلف عن الموسيقى المصرية. قالت ماريا: إنها موسيقى مصرية فى الأصل؛ وإذا كنت قد زرت الأقصر؛ لأمكنك أن ترى آلات «الهارب» و»الفلوت» على جدران معبد الكرنك. وخجلت أن أسألها ما هو «الهارب»، وما هو «الفلوت»، ولكنى وجدت لسانى ينطق بسرعة: لقد أخذوا منا فى المدرسة مصاريف رحلة إلى الأقصر ثم أعادوها لنا؛ حيث لم يشترك عدد كاف من التلاميذ للقيام بالرحلة؛ لذلك لم أزر معبد الكرنك الذى تحكين عنه. قالت ماريا: ستدخل الكونسير لأول مرة وترى الموسيقى بعيونك، ولا تصدق كلام د. مزراحى عن الموسيقى؛ فهو واحد من عشاقها؛ وقد يكون متحيزا لها؛ فإن أعجبتك الموسيقى يمكنك أن تحبها؛ وإن لم تعجبك فيكفيها أننا تعرفنا عليك. وأحسست أنى مقبول منها ومن أسرة جوفياني. ونظرت إلى طريقة حركة ماريا وهى تتصرف؛ وكذلك حركة أخواتها الثلاث وأمهم؛ وشعرت أنهم ليسوا مثل الجنس اللطيف من المصريات، كانت كل واحدة منهن تتصرف بدرجة من الحرية والسيطرة على النفس عكس أمى وأخواتى البنات؛ وعكس كل المصريات؛ فالمصرية تحمل جسدها كعبء لا تعرف كيف تتعامل معه؛ أما الإيطاليات فيعرفن أن الجسد أداة حياة. ورأيت مسيو جوفيانى يتجه مرحبا نحو اثنين من الذين يدخلون إلى ساحة المسرح ويقول بصوت مرتفع:أهلا سيف أهلا أدهم. وكان أحدهما ضخما ممتلئ الجسد؛والثانى قصيرا نحيلا. وأخذتنى ماريا من يدى وقالت هامسة فى أذني: ألا تحب التصوير؟ هذان هما من أكبر الفنانين المصورين فى الإسكندرية، وصافحت العملاق سيف وانلي؛ وكذلك أدهم وانلى.وتركت جوفيانى ليرحب بهما؛وهمست فى أذن ماريا «أين يقف هذان المصوران؟ أمام حكمدارية البوليس أم أمام تمثال سعد زغلول؟» وكان سؤالى نابعا من تخيل أن المصور هو إنسان يحمل صندوق تصوير الفوتجرافيا ويقف به فى أحد هذين المكانين، وسمعنى د. مزراحى الذى همس فى أذن ماريا: اشرحى له ماذا تعنى كلمة «تصوير». قالها وكأنى نطقت خطأً كبيرا. قالت ماريا همسا: أليس عندكم فى المدرسة حصة رسم؟ قلت ضاحكا: لا تذكرينى بها؛ لأن مدرس الرسم هو الأستاذ رشاد الذى يحترف وضع القلم بين أصابع التلميذ ويضربه بخمس مساطر متجمعة إن لم يرسم كما يحب المدرس؛ وقد اضطر أبى إلى الذهاب للمدرسة ثلاث مرات هذا العام كى يمنع ضرب هذا المدرس لي. ولم أقل لماريا أنى قلت لوالدى حين رأيت الأستاذ رشاد يضرب تلميذا بهذه الطريقة: قد أضربه كما فعلت مع الشيخ الميهى الذى ضربنى وهو يحفظنى القرآن. وكان والدى قد سمع كلمات أصدقائه الأطباء عن طبيعتى التى يمكن أن تنفجر بالعدوان على أى إنسان يعتدى عليُ؛ لا كدليل على شجاعة مفرطة، بل بخوف يتجمع ليصبح عاصفة دفاع عن النفس ضد الإهانة . وهنا تدخل سيف وانلى فى الحوار وكأنه وهو صامت يسمع ما يحب ولا يسمع ما يحب: وهل هناك إنسان يتعلم الرسم بالضرب؟ وهكذا عرفت طبيعة سيف وانلى الذى ألفت عنه رواية تسجيلية عام 1965م. وبدأت معرفتى به بشكل سطحى فى ذلك اليوم، ثم تتبعت كل ما يعرضه من معارض، وزرت مع ماريا مرسمه فى شارع توفيق، ثم مرسمه فى الشارع الجانبى الواقع على امتداد سينما مترو. أمسكت ماريا بيدى ونحن ندخل إلى المسرح؛ فقال لها د. مزراحي: أراهن أنه سيعتبر مسكة اليد هذه قصة حب، لقد حذر والده عمتك حين احتضنته بأنه ولد يحب النساء. قالت ماريا: أنا أشعر أنه صديقي. قال جوفياني: أمامه عمر حتى يعرف متاعب الرجل مع المرأة. نظرت له زوجته لتقول: وسيعرف أيضا متاعب المرأة مع الرجل. وكأن د. مزراحى قد أراد الخروج من نفق مناقشة العلاقة بين الرجل والمرأة فقال لي: الموسيقى التى ستسمعها الليلة لتشايكوفسكي، وبيزيه وبيتهوفن. قلت له: أنا لا أعرف أى واحد منهم؛ وستشرح لى ماريا مالا أعرفه.قال د. جوفياني: أنت ابن أبيك، ما تعرفه تقول أنك تعرفه، وما لا تعرفه تقول أنك لا تعرفه. كان الداخلون إلى المسرح يرتدون البدل الكاملة؛ وكنت الوحيد الذى يرتدى قميص أبيض وبنطلون دون جاكيت ودون كرافتة بطبيعة الحال. وأحسست بالخجل من نفسي، وقررت أن أطلب من أبى سرعة تفصيل بدلة كاملة لى مثل أخى الكبير. وكنت أعلم أنه مطلب سهل؛ وبدت أضواء المسرح ساطعة، وكنت أعرف أن هذا المسرح يتحول فى الأيام العادية إلى سينما؛ فهو يقع فى مربع يضم سينما بلازا التى يدخلها الطلبة أيام المظاهرات وتعرض ثلاثة أفلام بقرشين صاغ للتذكرة. وكنت أرقب الطلبة يوم المظاهرة وهم يتزاحمون أمام شباك التذاكر بطريقة تختلف تماما عن دخولهم من باب المدرسة؛ فنحن ندخل المدرسة ببطء، ونصعد السلالم إلى الفصول بتكاسل؛ ونجرى إلى المطعم بمنتهى النشاط؛ ونخرج من باب المدرسة باندفاع كلفنا سقوط حجر على رأس تلميذ مات على الفور؛ وامتلكت من حادث رؤيته والحجر يسقط على رأسه ألا أندفع عند الخروج من أى باب. قالت ماريا ونحن نجلس: الموسيقى التى سنسمعها من هذه الفرقة هى من أجمل القطع الموسيقية، كونشرتو، وافتتاحية موسيقية، وسيمفونية. ولم أرد أن أقول لها أنها تتكلم عن أسماء أشياء لا أعرفها. قالت: الفرقة ستراها أمامك إيطالية ومشهورة؛ ولها قائد يحركها اسمه المايسترو. وستجد الآت وترية مثل الفيولين أى الكمان والتشلو والهارب؛ والآت النفخ النحاسية الكبيرة والآت النفخ الصغيرة، مثل الفلوت وستجد آلات الإيقاع الكبيرة. وكنت أسمع كلماتها وكأنى أسافر إلى دنيا من السحر؛ وكأنى أعبر البحر المتوسط لأكون فى روما التى لم أعرف عنها سوى أنها عاصمة لإيطاليا؛ تلك التى كان يشبهها أستاذ الجغرافيا بأنها تشبه ساق امرأة ترتدى حذاء له كعب عال. ودخل المايسترو فى بدلة سوداء لها ذيل كبدل أبطال الأفلام، وحياه الجمهور، لكنى لم أصفق له، فقد كنت منهمكا فى رؤية هذا المكان الذى يقترب من جو الحواديت حيث النور خافت فى منطقة؛ وزائد فى منطقة أخرى؛والناس فى منتهى الأناقة يتبادلون التحيات؛ جو مسحور كأنه قادم من أحد الأفلام الأجنبية. ولم أكن متعودا على مثل هذا الجو؛ والمسرحية الوحيدة التى رأيتها من قبل هى مسرحية كوميدية لنجيب الريحاني؛ ولم أسعد بها؛ فضلا عن أنها المرة الأولى التى أوجد فيها بمفردى ، ووسط جمهور كله من الأجانب تقريبا، ومن المؤكد أنه لا يوجد فيهم واحد من الحى الذى نسكنه حى محرم بك أو من شارع عرفان. ومن المؤكد أنه لا يوجد فيهم واحد من مدرسة محرم بك الخاصة إلا أنا؛ فكل الحضور من أحياء الرمل بدءا من الأزاريته إلى الشاطبى إلى كيلوباترا إلى جليم إلى سان استفانو إلى رشدى إلى زيزينيا؛ وتلك أحياء الأجانب المقيمين فى الإسكندرية فى ذلك الزمن 1951م. وبدأ العزف بإشارة من المايسترو؛ فأخذتنى دقات البيانو فى كونشرتو تشاكوفسكى إلى طريق ممتلئ بورود بنفسجية مازالت تلك الدقات تأخذنى إلى هذا الطريق كلما سمعت هذا الكونشرتو رغم أنف كل معلمى التذوق الموسيقى الذين يصرون على أن يستسلم المتذوق لمراقبة خروج صوت كل ألة موسيقية ليتعانق مع صوت الآلة لأخرى ليندمج الإنسان فى كل الموسيقى المكونة أخيرا من كل الآلات وما أن انتهى عزف الحركة الأولى؛ وبدأ العازفون فى تقليب النوت الموسيقية حتى صفقت أنا؛ فرمقنى كل أنظار الحاضرين؛ وقال لى د. مزراحى: هذه ليست حفلة أم كلثوم تصفق فيها عند كل صمت، بل تصفق فى النهاية، وزجرته ماريا قائلة: ليصفق كما يريد مادامت الموسيقى قد أعجبته فليفعل ما يحب. وهكذا بدوت أمامها كائنا يستحق الدفاع عنه بين أناس يتقنون فنا لا نعرفه نحن فى بيتنا؛ فأقصى ما نعرفه هو أغانى محمد عبد الوهاب،وعبد العزيز محمود وأم كلثوم وليلى مراد، أما فريد الأطرش فمكروه من أخى ومن الجميع لأنه غارق فى الحزن على أخته أسمهان. وليس فى بيتنا فونجراف كالذى فى بيت د. مزراحى أو بيت ماريا أو منزل سيف وانلى أو كل هؤلاء الحاضرين؛ الذين تخيلت أن كل واحد فيهم يربى كلبا كالذى أجده مرسوما على غلاف الاسطوانات المعروضة فى شارع فؤاد فى محل متخصص لبيع الأسطوانات وأجهزة الجرامفون، ومكتوب عليه «صوت سيده». قالت ماريا: لا تلتفت إلا لإحساسك، فالموسيقى الكلاسيك هى أسلوب لرؤية نفسك وما فى خيالك أما عكس ذلك فالقه من وراء ظهرك. المتحذلقون الذين نظروا لك لحظة أن صفقت هم «سودوا أوبرا» أى مستمعون مزيفون لا يفهمون كثيرا فى الموسيقى، واشتروا تذاكر الحفل ليرتدوا ملابسهم الغالية ويحضرون إلى هنا. ويتعالون على الإحساس التلقائي. كنت أشعر أنى امتلكت كنزا هو معرفة ماريا. وما أن انتهى الحفل حتى قالت ماريا: سأحدثك فى التليفون. وحدثنى أنت أيضا. وحين تريد أن تذهب إلى حديقة الورد يوم الجمعة قل لي، وسنلتقى هناك. قلت لها: هل يصلح ذلك بعد صلاة الجمعة؟ قالت: لا احضر قبل الصلاة؛ وبعد أن نستمع إلى الموسيقى التى يعزفونها هناك؛ يمكنك أن تصلى فى الجامع الموجود بجانب الحديقة. قال د. مزراحي: ومن أدراك أن والده سيسمح له بذلك؟ ألا تعرفين أن والده يخطب الجمعة وأنه يصحبه إلى الصلاة ليسمع الخطبة؟ قلت لد. مزراحي: والدى لا يفرض ذلك على أحد، وإن قلت له أنى سأذهب إلى لقاء أسرة عم البرتو جوفياني، فلن يرفض؛ وسيطلب منى فقط أن أحرص على الصلاة فى أى مكان. وفرح مسيو جوفيانى لأنى أذكر اسمه كاملا؛ لا اسمه المشهور به فقط. وقال: هكذا ينتصر أحد أحفاد النبى إسماعيل على أحد أحفاد النبى اسحق. سألت ضاحكا من هو إسماعيل ومن هو اسحق؟ قال د. مزراحي: أنت حفيد إسماعيل إبن سيدنا إبراهيم؛ وأنا حفيد اسحق إبن سيدنا إبراهيم. قلت: نحن أولاد عم إذن. قال د. مزراحي: قل ذلك للكاثوليكى الإيطالي. ضحكت وأنا أبتعد عما لا أفهم، فلم أكن أعلم أن الكاثوليكية أحد المذاهب المسيحية،وأن الأوربيين فى أغلبهم يتبعون هذا المذهب وخصوصا أهل إيطاليا. ولم أكن أعلم أن الدين هو شيء يلتصق بالإنسان وموجود فى خلاياه، ولم أكن أعرف أن اليهود مثلا هم المتهمون بصلب المسيح، كنت لحظتها أعلم أن الموسيقى قد تحدثت إلى روح كل منا بلغة لا خلاف فيها؛ وأن هذا الاتفاق قد أزعج الكبار؛ فراح كل واحد منهم يسترد ما يختلف فيه مع الآخر على باب المسرح الذى كان يجمعنا فى وحدة إنسانية لا خلاف فيها.
......................... قالت لى الإيطالية الطارئة فى حياتى وأنا أقضى الليل فى أثينا ونحن جالسان فى كازينو يضج بالشباب الراقص « أين أنت ؟ أنت لست هنا .» قلت : الحق أنى كنت مع ماريا أول صديقة إيطالية إلتقيتها فى بدء إشتعال شموس مراهقتى . وأنى أنا المولود فى شارع إسماعيل صبرى بحى بحرى وبلكونة المنزل الذى شهد أيامى الأولى كانت تطل على حارة العوالم اللاتى تضم الراقصات الشرقيات وعازفو الآلات الموسيقية الشعبية للأغانى البلدية هم من تفتحت أذنى على بروفاتهم، بينما كانت البلكونة الأخرى من نفس البيت تطل على ساحة أولياء الله الصالحين السبعة التى يقال أن الإسكندرية محمية بهم ، لأن منهم سيدى مرسى أبو العباس وسيدى ياقوت عرش الرحمن وسيدى البوصيرى، وغيرهم. وإنتبهنا إلى دقات ناقوس كنيسة يونانية يدق فى سماء أثينا ، لتقول صديقتى الطارئة «تستغفر أثينا الآن عن ليلها الصاخب بضجيج الشباب ، فهل ستندمج مع خطايا الشباب الراقص أم ستكتفى بأن تتذكر ما فات رغم أن عمرك يقترب من عامك الرابع والعشرين ؟ أجبت لجاذبية التذكار معانى عاطفية لذلك لا تمل ذاكرتى من سرد ما مضى .