الحياة طاحنة ومليئة بالصراعات، والإنسان وحده هو القادر على الاختيار بين الاستسلام للواقع المرير أو تحديه وتغييره، أما بن كارسون، الذى عانى فى طفولته الفقر والحرمان والعنصرية، فقد رفض أن يلعب دور الضحية وتمرد على واقعه وأستطاع تغييره ليتحول من مجرد "تلميذ غبي" إلى واحد من أشهر أطباء المخ والأعصاب فى العالم، بل وتحولت قصة كفاحه لفيلم بعنوان "الأيدى الموهوبة"، لينجح الفيلم فى دور العرض كما نجح بطلها الحقيقى فى الحياة، وها هو الآن يسعى لرئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية. تحفل قائمة المرشحين الجمهوريين للرئاسة الأمريكية القادمة بأسماء كثيرة، وهناك تنافس شرس بينهم، وذلك لإيمانهم بأن الفرصة لفوز مرشح جمهورى بالرئاسة كبيرة، ومن بين هؤلاء كارسون، 64 عاما، الذى أحتل المرتبة الثانية فى أحدث استطلاع للرأى بين المرشحين الجمهوريين نشرته مجلة "تايم" الأمريكية، حيث حصل على نسبة 23% متخلفا بفارق بسيط عن رجل الأعمال الشهير وقطب العقارات دونالد ترامب الذى يتمتع بنسبة تأييد تبلغ 24% . ويرى عدد من المحللين السياسيين أن السبب الأساسى فى ارتفاع شعبية كارسون هو تاريخه المشرف والمبهر إلى جانب قدرته على إثارة الإعجاب بأفكاره الفلسفية وخططه حول الهجرة والإنفاق الحكومى والضرائب وتشجيع الصناعات الصغيرة وغيرها من القضايا التى تهم المواطن الأمريكي، وهو ما ساعده فى الحصول على حجم تبرعات تعدى ال 20 مليون دولار، ليصبح أكبر حجم للتبرعات بين كل التبرعات التى حصل عليها المرشحون الجمهوريون. زلة لسان وقد أثار كارسون الجدل والانتقاد الأيام الماضية، عقب تصريحاته التى رفض خلالها فكرة تولى مسلم منصب رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعلى اثره هاجمه بعض زملائه من الجمهوريين وخصومه من الحزب الديمقراطى كما أثار غضب الكثير من المنظمات الإسلامية، التى طالبته بالاعتذار أو الانسحاب من سباق الرئاسة، خاصة وأن تصريحاته مناقضة للدستور الأمريكي، الذى ينص على حرية العقيدة، وعدم وجود شروط تتعلق بالدين عند تولى المناصب العامة. وهذا ما جعل البعض يتهم كارسون بالتعصب والعداء للإسلام والعنصرية، وهو أمر غير متوقع منه تحديدا لأنه واحد من أكثر من تجرعوا مرارة العنصرية. لذا فقد عقد كارسون مؤتمر صحفى ليوضح من خلاله أنه يحترم المهاجرين المسلمين والدستور وحرية العقيدة، ولكنه يرفض الدولة الدينية بكل أشكالها سواء إسلامية أو مسيحية بل دعا أى رئيس يفوز بالمنصب إلى أن يلتزم بإعلاء القيم الأمريكية والالتزام بالدستور وما يكفله من حريات للجميع. مأساة الطفولة ولد بنيامين "بن" كارسون فى مدينة ديترويت بولاية ميتشيجن، فى سبتمبر 1951، فى بيئة أفرو-أمريكية، وربما يكون ذلك هو السبب فى المآسى التى واجهها فى بداية حياته والنجاح المبهر الذى حققه لاحقا، حيث انفصل والداه وهو فى الثامنة من عمره، وتولت والدته رعايته بمفردها مع أخيه الأكبر كيرتس. وفى ظل عدم وجود مصدر مادى يوفر لهم المستوى الأدنى من العيش، اضطرت والدته للعمل كخادمة بل وكانت تعمل فترتين، وحينما كانت تمرض كانوا يعتمدون على المعونات التى تقدم للفقراء. وقد كان لذلك أثر سلبى على نفسية بن، مما جعله يبدو بائسا حزينا طيلة الوقت، كما أنه كان ضعيفا دراسيا مما جعله مثار سخرية زملائه حتى لقبوه ب "التلميذ الغبي"، وتدريجيا أصبح طفلا سريع الانفعال وشديد الغضب وكارها لكل من حوله حتى أصبح دائم النزاع والشجار مع زملائهس. وقد حاولت والدته التغيير من سلوكه العدواني، وبثت فيه الطاقة الإيجابية وبالرغم من جهلها بالقراءة والكتابة فإنها كانت تحثه هو وشقيقه على مداومة قراءة الكتب بل وكانت تطالبهم بقراءة كتابين كل أسبوع مع تقديمهما ملخصا لما قرآه. وقد كان من حين لآخر يشعر بالحزن لأنه لا يلعب ولا يستمتع بوقته مثل بقية الأطفال فى سنه، ولكنه تدريجيا بدأ يعشق القراءة ويجد فيها متعته بل وكانت السبب فى أتساع رقعة المعرفة لديه حتى وصل لأعلى الدرجات العلمية. نجاح مبهر وبالرغم من تفوقه الدراسي، إلا أنه لم يستطع الالتحاق بكلية الطب التى يطمح اليها لأن ظروف أسرته المالية المتعثرة لم تسمح له بذلك، ولكنه ظل مصمما على تحقيق حلمه، حيث حصل على منحة للدراسة فى جامعة ييل الشهيرة، وقد حصل على درجة البكالوريوس فى علم النفس عام 1973، ثم التحق فيما بعد بكلية الطب بجامعة ميتشيجن حتى حصل على درجته الدكتوراه فى الطب والجراحة، وتخصص فى طب الأعصاب. وبعد حصوله على شهادته انتقل مع زوجته إلى مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند، قرب العاصمة واشنطن، والتحق بجامعة جونز هوبكنز الشهيرة عام 1977. وبحلول عام 1985 أصبح كارسون مديرًا لقسم جراحة المخ والأعصاب للأطفال، وهو لا يزال فى الثالثة والثلاثين من عمره. ويعود إليه الفضل فى اجراء أول عملية جراحية ناجحة لفصل توءمين ملتصقى الرأس، كما شارك فى إجراء عمليات ناجحة لفصل التوائم الملتصقة فى ألمانيا وجنوب أفريقيا وزامبيا وسنغافورة. وبسبب تفانيه فى العمل وإنجازه الكثير من الاكتشافات الطبية، حصل على أكثر من 50 درجة دكتوراه فخرية وأصبح عضوًا فى الكثير من الجمعيات الطبية والمجالس العلمية. وفى عام 2001 اختارته مجلة "تايم" فى قائمة أفضل 20 طبيبًا فى الولاياتالمتحدة، كما حصل على "الوسام الرئاسى للحرية" فى عام 2008، وهو أعلى تكريم تمنحه الحكومة الأمريكية للمدنيين. وفى عام 2010 تم انتخابه لعضوية الأكاديمية الوطنية للعلوم. وعام 2014، بعد قيام مؤسسة جالوب بإستطلاع للرأى عن أكثر الرجال إثارة للإعجاب، حصل كارسون على المركز السادس فى القائمة. وله عدة كتب تعد من أشهر الكتب فى الولاياتالمتحدة فى الطب والتنمية البشرية. ويدير هو وزوجته لاسينا منذ عقدين مؤسسة خيرية قومية هى "صندوق كارسون سكولارز"، تقدم منحا دراسية جامعية للطلاب المتفوقين الذين يهتمون بتنمية مجتمعهم، إلى جانب توفير مكتبة فى كل مدرسة حتى ينتهج طلابها نهجه ويهتمون بالقراءة. "الجراح الماهر" .. "صاحب الأيدى الموهوبة" .. " المتمرد على الواقع" ..ألقاب كثيرة أستطاع بن كارسون الفوز بها، ولكن هل سيستطيع إضافة لقب أخر، وهو أهم لقب قد يحصل عليه "رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية" أم أن تجربة الرئيس الأمريكى الحالى باراك أوباما ذى الأصول الأفريقية وما تركه من خيبة أمل لدى شعبه ستضعف من فرصة كارسون لأنهم قد يجدوا فية أوباما آخر ؟!