تشير الدراسات الراهنة إلى اهتمام أساتذة الجامعات بقضية استقلال الجامعات باعتبارها شرطاً أساسياً لتصحيح منظومة التعليم الجامعى، وكانوا يربطون بين تبعية الحرس الجامعى لوزارة الداخلية ودوره فى الانتقاص من استقلال الجامعات قبل صدور الحكم القضائى ببطلان وجود هذا الحرس واستبداله بحرس مدنى، وقد تغيرت رؤية الأساتذة بعد قيام ثورة 25 يناير وتنفيذ الحكم القضائى إذ أصبحوا يؤكدون ضرورة تحديد مهام الحرس المدنى وحصرها فى حفظ النظام وحماية المنشآت وعدم التدخل فى الشئون العلمية. والواقع أن ما يبدو وكأنه مسألة بديهية وشرط أساسى لبناء منظومة علمية منتجة وأعنى به احترام استقلالية الجامعات وحرياتها الأكاديمية يشكل فى الواقع تحدياً كبيراً يواجه الجامعات المصرية. فإذا كان من المتوقع عدم تخلى النخب الحاكمة عن سيطرتها القوية على مؤسسات التعليم الجامعى التى تشكل الخزان الأكبر لقوى الحركة الاجتماعية والفكرية فى مجتمعنا ومصدر الديناميكية السياسية فإن السبب الرئيسى للسيطرة الحكومية على الجامعات يرجع إلى كونها الممول الأول لمنظومة التعليم الجامعى ولذلك فهى تستطيع ان تتحكم من خلال هذا التمويل بصورة مباشرة فى جميع الشئون الجامعية. ورغم أن الخطاب الرسمى قد دأب منذ السبعينيات على تأكيد استقلال الجامعات مالياً بمعنى حق كل جامعة فى ان تضع لنفسها ما تراه من لوائح، وأكاديمياً بمعنى حق كل جامعة فى أن تنشئ من الكليات والتخصصات وما تشاء فى إطار احتياجات المجتمع إلا أن الجامعات لا تزال بعيدة عن الاستقلال الحقيقى فالدولة بحكم إنفاقها على الجامعة تسيطر على مجمل الشئون الجامعية من خلال المجلس الأعلى للجامعات ووزير التعليم العالى إذ تتولى تعيين القيادات الجامعية رؤساء الجامعات ونوابهم وأمناء الجامعات. ويتولى رؤساء الجامعات تعيين العمداء والوكلاء ورؤساء الأقسام بشرط موافقة السلطات الأمنية. ويشار فى هذا الصدد إلى أن الجامعات المصرية ظلت تحتفظ باستقلالها الذاتى حتى أزمة مارس 1954 حيث أنهت ثورة يوليو استقلال الجامعة بادئة بحملة التطهير ثم بتغيير قانون الجامعات فى 1958 ونسفت بذلك كل جوانب الاستقلال الجامعى. ومنذ ذلك الحين أصبحت الجامعات المصرية تابعة للسيطرة السياسية وملحقة بها وقد كان لكل جامعة قبل ثورة يوليو قانون مستقل بها ينظم شئونها الإدارية والأكاديمية كما توافرت لها قوانين مستقلة أخرى تنظم شروط توظيف أعضاء هيئات التدريس وما يرتبط بها من قضايا وكان يقوم بالعملية التنسيقية بين هذه الجامعات (القاهرة عين شمس الإسكندرية) المجلس الاستشارى للجامعات الذى أنشئ بالقانون رقم 496 لعام 1950 بيد أن استقلال الجامعات أخذ يتناقص مع القوانين اللاحقة التى أحكمت رباط المركزية بدعوى التنسيق. ففى عام 1954 صدر قانون موحد رقم 508 لإعادة تنظيم الجامعات المصرية وتبع ذلك حل المجلس الاستشارى للجامعات وإنشاء المجلس الأعلى للجامعات وفى عام 1958 صدر قانون رقم 184 بشأن تنظيم الجامعات ونص على أن وزير التربية والتعليم هو الرئيس الأعلى للجامعات بحكم منصبه وفى عام 1961 أنشئت وزارة التعليم العالى وبعدها بعامين عُدل قانون تنظيم الجامعات بحيث أصبح وزير التعليم العالى هو الرئيس الأعلى للجامعات ومنذ ذلك الوقت برزت إشكالية استقلال الجامعة ودورها فى تطوير المجتمع من ناحية وبين كونها أداة لضمان السيطرة الفكرية والسياسية على الجامعات أساتذة وطلابا وتوظيفها لخدمة أهداف النظام الحاكم. وقد تفاقمت هذه الإشكالية منذ السبعينيات من القرن العشرين بتزايد سلطة المؤسسة الأمنية داخل الجامعات. وهنا قد يحق لنا أن نستلهم الخبرة التاريخية الخاصة بالتعليم الجامعى فى مصر بالرجوع إلى أول قانون لتنظيم الجامعة المصرية الذى صدر عام 1927 وعدل فى عامى 1933 و1935 وينص على أن الجامعة (تدير أموالها بنفسها) ويقوم على إدارتها مدير الجامعة (يدير الجامعة ويمثلها أمام الجهات الأخرى) ومجلس إدارة الجامعة يختص بالجوانب المالية والإنشائية) ومجلس الجامعة (يختص بالجوانب العلمية والإدارية). ويلاحظ أن ذلك القانون قد راعى التوازن فى المسئولية بين المعينين من قبل السلطة السياسية والمنتخبين فبينما يعين مدير الجامعة بمرسوم فإن وكيل الجامعة كان ينتخب من مجلسها الذى يتكون فى أغلبه من أعضاء منتخبين من مجالس الكليات. الرؤية المستقبلية: يطرح أساتذة الجامعات عدة ضمانات لتحقيق استقلال الجامعات يمكن الاستناد إليها كشروط لتفعيل المسار المستقبلى وتتمحور حول ما يلى:- 1- ضمان حق الأساتذة فى انتخاب القيادات الجامعية: وقد تحقق هذا الشرط بعد قيام ثورة 25 يناير استجابة للضغوط التى قام بها الطلاب والأساتذة لتغيير القيادات الجامعية المعينة وإقرار مبدأ الانتخاب من خلال تفعيل المبادئ الديمقراطية التى نادت بها ثورة 25 يناير. ولا شك أن هذه التجربة بإيجابياتها وسلبياتها تعد نقلة نوعية فى تاريخ الجامعات المصرية كما أنها تعتبر الخطوة الأولى فى طريق التغيير. إلا أنها كشفت عن بعض السلبيات التى تشير إلى تغلغل قيم الشللية والمجاملات وغياب الوعى بالمصالح الجامعية إلا أن ذلك لم يحل دون نجاح التجربة وإقرار مبدأ انتخاب القيادات الجامعية. وإذا كان الهدف المستقبلى يسعى إلى تغيير السياسات الراهنة للجامعات (علمياً ومالياً وإدارياً) فإن ذلك لن يتحقق إلا من خلال قيادات جامعية منتخبة تطرح برامج للتغيير وتلتزم بقواعد قانونية صارمة ينص عليها قانون تنظيم الجامعات الجديد 2- الاستقلال المالى والإدارى للجامعات: تشير الدراسات إلى قصور القوانين واللوائح المنظمة للعمل الجامعى مما أسفر عن قصور الهياكل التنظيمية والإدارية وظهور فجوة أدائية بين واقع الأنظمة الإدارية وشروط تحقيق الهدف المستقبلى الخاص باستقلال الجامعات علمياً ومالياً وإدارياً. وهنا تثار بعض التساؤلات التى تدور حول كيفية تحقيق التوازن بين مبدأ الإدارة المستقلة للجامعات مع اعتمادها على التمويل الحكومى الذى يصل إلى 75% من مجمل الميزانيات الجامعية وما هى الحقوق التى تترتب على هذا التمويل؟ وهل من ضمنها حق الحكومة الإشراف المباشر على الشئون التعليمية والبحثية للجامعات؟ وهل يحق لوزير التعليم العالى أن يصدر توجيهاته للجامعات حتى بشأن قرارات مجالسها؟ وهل يكفى أن نستبعد التدخل الحكومى والأمنى كى تصبح الجامعات مستقلة تماماً؟ وكيف تدار مثل هذه المؤسسات الأكاديمية الضخمة من داخلها؟ هذه هى التحديات الحقيقية التى تواجه تحقيق الاستقلال الجامعى. ويطالب الأساتذة بضرورة تحرير الجامعات من تدخل الأجهزة الرقابية والقواعد المالية المطبقة فى المؤسسات الأخرى للدولة ومنح مجالس الجامعات سلطات تحل محل سلطات وزارة المالية ورئيس الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة فى الشئون الخاصة بهما داخل الجامعات مع السعى الجاد لتطوير الأسلوب الإدارى فى الجامعات المصرية كى ينتقل من الأوضاع الراهنة التى تتأرجح بين الإدارة بالأساليب والأهداف إلى أسلوب الإدارة بالمشاركة وتوسيع قاعدة العمل الجماعى مما يستلزم تبنى نموذج لامركزية المسئولية الإدارية الذى يعتبر القسم الوحدة الإدارية الأساسية ويمنح الأقسام الأكاديمية قدراً أكبر من السلطة فى صنع القرارات المالية والإدارية مع مراعاة تحقيق التوازن بين الجوانب الإدارية والعلمية فى مجالس الأقسام والكليات والجامعات من خلال تخصيص مجلس للشئون العلمية والفنية وآخر للشئون المالية والإدارية على أن يتم التنسيق الدائم بينهما مع تفويض مجالس الكليات والأقسام سلطات وصلاحيات كاملة لإدارتهما معا. 3- ضمان عدم التدخل الأمنى والسياسى فى الشئون الجامعية ويستلزم هذا الشرط ضرورة إلغاء وإزالة جميع القيود والمعوقات التى تصادر الحريات الأكاديمية للأساتذة وحق الطلاب فى حرية التعبير والتى تحول دون اقبالهم على ممارسة الأنشطة السياسية والثقافية بسبب تدخلات الإدارة الجامعية والأمن فى الانتخابات الطلابية وسائر الأنشطة الطلابية. والواقع أن هيمنة الجهاز الأمنى على مجمل مفردات المنظومة الجامعية على مدى سنوات طويلة وتصاعد دورهم واعتدائهم على الحقوق الأكاديمية والمهنية لأساتذة الجامعات وطلابها أسفر عن انتشار بل ترسخ الممارسات الفجة المعادية والمتناقضة مع تراث الجامعة واستقلالها من ناحية وإهدار النصوص القانونية التى تنظم الشئون الجامعية من ناحية أخرى الأمر الذى أدى إلى تقزيم دور الجامعات فى ظل الحرص السلطوى على تدجينها وترويجها لصالح السياسات الحكومية وأدى بالتالى إلى تحويل الأساتذة إلى موظفين تكنوقراط على حساب دورهم التربوى والعلمى. ورغم نجاح القوى الطليعية فى الجامعات المصرية فى اقصاء الحرس الجامعى التابع لوزارة الداخلية واستبداله بحرس مدنى تفعيلاً للمادة 217 من قانون تنظيم الجامعات إلا أن استمرار العقلية الأمنية فى إدارة شئون الجامعة لا يزال سائداً ويحتاج اقتلاع هذا الميراث الأمنى البغيض إلى جهود متواصلة تستهدف استعادة روح الثقة والطمأنينة لدى الجمهور الجامعى فى إطار خلق مناخ جامعى جديد يختلف عما هو سائد فى الجامعات المصرية منذ حركة تطهير الجامعة التى قامت بها القيادة السياسية لثورة يوليو عام 1954. وهنا يبرز دور أساتذة الجامعات وطلابها فى الإصرار على المشاركة الفعالة فى انتخاب قياداتهم والالتزام بالدفاع عن حقوقهم الأكاديمية والمهنية واستلهام القوانين والأعراف الجامعية والسعى الجاد لتهيئة البيئة الجامعية للممارسة الديمقراطية الحقيقية. ولا شك أن تحرير الجمهور الجامعى وعلى الأخص الأساتذة من تركة الخوف والحذر لن يتحقق بصورة واقعية إلا إذا تحررت الجامعات من التدخلات السياسية والأمنية. لمزيد من مقالات د. عواطف عبد الرحمن