من الثابت تاريخيا أن الجامعة المصرية ظلت منذ نشأتها حتى أوائل الستينيات حكرا على أبناء الطبقات العليا فى المجتمع المصرى بإستثناء الطلاب المتفوقين الذين ينتمون إلى الطبقات الشعبية. ومع تحقيق المجانية الكاملة للتعليم الجامعى عام 1962 استطاعت جميع الشرائح الاجتماعية الحصول على فرص متكافئة من التعليم تطبيقا للتوجهات الناصرية التى اعتمدت على التعليم كوسيلة أساسية لإذابة الفوارق الاجتماعية بين الطبقات ولتحقيق الحراك الاجتماعى فيما بينها. وإذا كانت هذه السياسة تمثل الوجه المضىء لثورة يوليو فى مجال التعليم عموما والتعليم الجامعى على وجه الخصوص إلا أنها انطوت على جوانب أخرى غير مضيئة تمثلت فى سيطرة البيروقراطية. وأهم التحديات التى تواجه الجامعات المصرية نوجزها على النحو التالي: أولاً: استقلال الجامعات: رغم أن الخطاب الرسمى قد دأب منذ السبعينيات على تأكيد استقلال الجامعات مالياً بمعنى حق كل جامعة فى أن تضع لنفسها ما تراه من لوائح، وأكاديمياً بمعنى حق كل جامعة فى أن تنشئ من الكليات والتخصصات ما تشاء فى إطار احتياجات المجتمع فإن الجامعات لا تزال بعيدة عن الاستقلال الحقيقى فالدولة بحكم إنفاقها على الجامعات تتولى تعيين القيادات الجامعية رؤساء الجامعات ونوابهم وأمناء الجامعات. ويتولى رؤساء الجامعات تعيين العمداء والوكلاء ورؤساء الأقسام بشرط موافقة السلطات الأمنية. ويشار فى هذا الصدد إلى أن الجامعات المصرية ظلت تحتفظ باستقلالها الذاتى حتى أزمة مارس 1954 حيث أنهت حكومة الثورة استقلال الجامعة بادئة بحملة التطهير ثم بتغيير قانون الجامعات فى 1958 ونسقت بذلك كل جوانب الاستقلال الجامعي. منذ ذلك الحين أصبحت الجامعات المصرية تابعة للسيطرة السياسية وملحقة بها وقد كان لكل جامعة مثل ثورة يوليو قانون مستقل بها ينظم شئونها الإدارية والأكاديمية كما توافرت لها قوانين مستقلة أخرى تنظم شروط توظيف أعضاء هيئات التدريس وما يرتبط بها من قضايا وكان يقوم بالعملية التنسيقية بين هذه الجامعات (القاهرة - عين شمس - الإسكندرية) المجلس الاستشارى للجامعات الذى أنشئ بالقانون رقم 496 لعام 1950 بيد أن استقلال الجامعات أخذ يتناقص مع القوانين اللاحقة التى أحكمت رباط المركزية بدعوى التنسيق. ففى عام 1954 صدر قانون موحد رقم 508 لإعادة تنظم الجامعات المصرية وتبع ذلك حل المجلس الاستشارى للجامعات وإنشاء المجلس الأعلى للجامعات وفى عام 1958 صدر قانون رقم 184 بشأن تنظيم الجامعات ونص على أن وزير التربية والتعليم هو الرئيس الأعلى للجامعات بحكم منصبه وفى عام 1961 أنشئت وزارة التعليم العالى وبعدها بعامين عُدل قانون تنظيم الجامعات بحيث أصبح وزير التعليم العالى هو الرئيس الأعلى للجامعات ومنذ ذلك الوقت برزت إشكالية استقلال الجامعة ودورها فى تطوير المجتمع من ناحية وبين كونها أداة لضمان السيطرة الفكرية والسياسية على الجامعة أساتذة وطلاباً وتوظيفها لخدمة أهداف النظام الحاكم. وقد تفاقمت هذه الإشكالية منذ السبعينيات من القرن العشرين بتزايد سلطة المؤسسة الأمنية داخل الجامعات. وخلاصة القول أن الاستقلال الفعلى للجامعات المصرية لم يتحقق بعد رغم أهميته القصوي. ثانياً: الحريات الأكاديمية فى الجامعات يشير تاريخ الجامعة المصرية منذ بدايتها الحكومية عام 1925 إلى المعارك العديدة التى خاضتها من أجل الحفاظ على استقلالها الذى يحمل فى مضمونه الأساسى معانى ومقاصد الحرية الأكاديمية باعتبارها القيمة النهائية لتكامل ولاستمرارية المنظومة العامة للحريات. ولذلك حرص المشرع المصرى على تحديد اختصاص الجامعات تحديداً جامعاً إذ قررت المادة الأولى من قانون تنظيم الجامعات رقم 49 لعام 1972 أنها: (تختص بكل ما يتعلق بالتعليم الجامعى من الإسهام فى رقى الفكر وتقدم العلم وتنمية القيم الإنسانية وتزويد البلاد بالمتخصصين والفنيين والخبراء وتوثيق الروابط الثقافية والعلمية مع الجامعات الأخرى والهيئات العلمية العربية والأجنبية). ولاشك أن المشرع كان يؤكد من خلال هذه الصيغة الرسالة الفكرية والعلمية السامية للجامعات وإنها لا تستطيع القيام بدورها على الوجه الأكمل إذا حاصرتها قيود التبعية لسلطة دينية أو سياسية أو تنفيذية من خارجها. هذا وقد شهدت الجامعات المصرية فى نهاية حقبة السبعينيات من القرن العشرين وتواكبا مع سيطرة ثقافة النفط وسعى السلطة السياسية لاستقطاب التيارات الإسلامية وتصفية التيارات اليسارية شهدت هذه الحقبة ظهور الاتجاهات الدينية المتطرفة التى اختزلت جميع القضايا الحيوية للوطن فى بعدين هما الحلال والحرام وقد كان لهذه التيارات انعكاسات سلبية على المناخ الفكرى والأكاديمى داخل الجامعات. وفى نهاية الثمانينيات والتسعينيات انفجرت موجات التطرف داخل الجامعات واشتدت رقابة الدولة على الجامعات وأصبح تعيين أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم مرهوناً بموافقة الأمن. كما ازداد تدخل الأمن فى انتخابات أندية أعضاء هيئات التدريس وتعيين رؤساء الجامعات للعمداء بعد أن كان اختيارهم يتم من خلال الانتخابات. ويتجلى التضييق على الحريات الجامعية فى ضرورة الحصول على موافقة الأمن على أسماء المحاضرين الذين يستضيفهم الأساتذه من خارج الجامعة لإجراء لقاءات حوارية مع الطلاب كذلك فى إلغاء التكليف الصادر لبعض المعيدين بسبب اتجاهاتهم وان تماءاتهم الفكرية والسياسية. فضلاً عن التدخل السافر للأمن فى الانتخابات الطلابية. ثالثاً: مجانية التعليم الجامعي يعود لمجانية التعليم العام والجامعى فضل لا ينكر فى الطفرة التعليمية الهائلة التى شهدها المجتمع المصرى خلال الحقب الثلاث لثورة يوليو. ولولا المجانية لما تعلمت الأغلبية الساحقة من أبناء الريف والطبقات الفقيرة. وإذا كانت مجانية التعليم الجامعى تعود إلى الحقبة الناصرية (عام 1961-1962) غير أن هناك بعض الظواهر السلبية التى طرأت على المجانيه المنصوص عليها دستورياً خلال حقبتى السادات ومبارك ومن أبرز هذه الظواهر الدروس الخصوصية التى انتشرت بصورة وبائية فى مختلف مراحل التعليم الرسمى والخاص. ورغم وعود الحكومات المتعاقبة بالقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة فإن هذه الوعود لم تتحقق بل تأسست ظاهرة الدروس الخصوصية وأصبحت تشكل شبكات مصالح ذات نفوذ قوى فى المجتمع المصري. وقد ساعد على استمرار وتفشى هذه الظاهرة تدنى رواتب المعلمين وأساتذة الجامعات علاوة على اعتماد العملية التعليمية على أسلوب التلقين والحفظ فضلاً عن ضآلة الميزانيات الحكومية المخصصة للتعليم الجامعي. وتتعلق الظاهرة الثانية بنظم التعليم بمصروفات التى استحدثها المجلس الأعلى للجامعات مثل التعليم المفتوح وإنشاء شعب التدريس باللغات الأجنبية ونظام الانتساب الموجه وجميعها تمثل محاولات الدولة للالتفاف حول مجانية التعليم وتصفيتها دون ضجيج وبصورة تدريجية الأمر الذى أسفر عن ظهور فجوة طبقية بين الطلاب الذين يتلقون التعليم الجامعى التقليدى وبين زملائهم طلاب الشعب الأجنبية وكذلك ظهرت بوادر التمايز الاقتصادى بين دخول الأساتذة ودخول زملائهم المشاركين فى التعليم المفتوح وبرامج التدريس باللغات الأجنبية. ويضاف إلى ما سبق ظاهرة ارتفاع أسعار الكتب الجامعية بمعدلات غير مسبوقة ولجوء بعض الأساتذة إلى سياسة إجبار الطلاب على شراء مؤلفاتهم رغم ارتفاع أسعارها. كذلك تضاعفت مصروفات الدراسات العليا عدة مرات. كل هذه الظواهر السلبية أدت إلى تفريغ مجانية التعليم من مضمونها وتحول التعليم الجامعى من خدمة تقدم مجاناً إلى طلاب العلم المؤهلين والراغبين إلى سلعة لا يستطيع الإقدام على شرائها إلا القادرون مالياً. رابعاً: أزمة التعليم والبحث العلمي: تشير الدراسات القليلة التى تناولت قضايا البحث العلمى فى مصر إلى تفاقم أزمة البحث العلمى فى الجامعات بسبب ضآلة الميزانية المخصصة للبحوث فضلاً عن أن معظم رسائل الماجستير والدكتوراه وبحوث ترقية الأساتذة غير موجهة لخدمة الأهداف التنموية فى المجتمع. إذ أن أغلب الأنشطة البحثية تستهدف تحقيق منافع فردية مثل الحصول على درجة أكاديمية أو الترقية إلى وظيفة علمية أعلي. كما أن معظم نواب رؤساء الجامعات للبحوث والدراسات العليا يركزون على الدراسات العليا ولا يمنحون البحوث الاهتمام المفترض ولا يسعون لتشجيع البحوث الجماعية بين الأقسام والكليات المتناظرة مستندين إلى الحجة التقليدية التى تتمثل فى ضآلة الميزانيات. ورغم ضآلة الميزانيات الجامعية المخصصة للبحث العلمى فإن الجزء الأكبر منها يذهب للبحوث التطبيقية فى كليات الطب والهندسة والزراعة ولا تنال البحوث الأساسية والبحوث الاجتماعية والإنسانية سوى الفتات وإذا حدث ذلك بالفعل فإنه يندر أن تتم المتابعة والتقويم بالكيفية الواجبة. خامساً: الحركة الطلابية: تتميز الحركة الطلابية فى الجامعات المصرية بتاريخ وطنى مرموق حيث شارك منذ ميلاد الجامعة الأهلية 1908 جموع الطلاب الجامعيين فى الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال والسيادة الوطنية والتغيير الاجتماعي. فقد كان الطلاب فى مقدمة الطلائع الثورية فى ثورة 1919 وانتفاضة الطلبة عام 1935 والانتفاضة الكبرى للطلبة والعمال عام 1946 كما تصدروا صفوف الفدائيين فى الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطانى فى قناة السويس عام 1951 وسجلوا مسيرة زاخرة بالبطولات والشهداء. ولا شك أن التدخلات السياسية والأمنية التى تستهدف تعقيم النشاط الطلابى ومحاصرة حرية التعبير داخل الجامعات قد أدت إلى انحسار النشاط الطلابى وعزوف الطلاب عن المشاركة فى الانتخابات التى تحسم فى الغالب لمصلحة الطلاب المنتمين للحزب الحاكم ومن ثم أصبحت الجامعات بلا روح وطلابها يدورون طوال يومهم وراء جمع الملخصات ونماذج الامتحان بحثاً عن نجاح دون فكر. جماعة 9 مارس: لمواجهة التحديات والإشكاليات التى يعانى منها التعليم الجامعى بادرت مجموعة من أساتذة الجامعات فى خريف 2003 لتأسيس مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات 9 مارس وهى مجموعة غير رسمية وليس لها إدارة أو رئاسة وإنما يتفق أفرادها على أسلوب العمل فيما بينهم ويدعى للمشاركة فيها أعضاء هيئات التدريس المهتمون باستقلال الجامعات بغض النظر عن توجهاتهم السياسية. وتعمل هذه المجموعة على تدارس جميع القضايا والمشكلات المتعلقة باستقلال الجامعات فى اجتماعات عبر دورات تعقد داخل الجامعات ونواديها كما تتخذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن الأعراف والقيم الجامعية والحقوق المهنية والأكاديمية للأساتذة والطلاب والتنديد بأى مساس بها وتنظم المجموعة منذ عام 2004 احتفالاً سنوياً بوم استقلال الجامعة يوم 9 مارس من كل عام . وتصدر المجموعة نشرات غبر دورية عن انتهاكات الحريات الأكاديمية والتدخلات الأمنية فى الجامعة كما تنظم وقفات احتجاجية ومسيرات سلمية للمطالبة بضمانات استقلال الجامعات وتأكيد الحقوق المهنية والأكاديمية للأساتذة وحقوق الحركة الطلابية. لمزيد من مقالات د. عواطف عبدالرحمن