أن يتلقى مواطن مصرى صفعة فهذه إهانة (شخصية) تمس بكرامته. لكن الصفعة داخل مصر أو خارجها قد تتم فى سياق يضيف إلى الإهانة الشخصية ألماً وطنياً. والصفعات التى تلقاها مواطن مصرى يعمل فى مطعم أردنى من بعض الأشخاص والتى يظهرها بوضوح شريط فيديو على شبكة الانترنت تكشف من الدلالة قدر ما تطرح من التساؤل. من حيث الدلالة يرى البعض ما حدث بوصفه سلوكاً عدوانياً يقع بمناسبة شجار أو استفزاز ما لا داعى لتضخيمه. ويمكن أيضاً اعتباره تفى السياق الذى تم فيه غير منفصل عن صورة المصرى بل وصورة مصر فى الخارج. فى الحالتين ودونما جنوح إلى تعميم غير عادل نحن أمام واقع يصعب إنكاره هو أن النظرة إلى المصرى فى دول عربية لم تعد اليوم كما كانت فى سالف الأيام. كان المصرى خارج مصر فيما مضى محاطاً بقدر كبير من الاحترام والإعجاب. كانت كرامته جزءاً من كرامة مصر بقدر ما أن كرامة مصر كانت تزيد من كرامته. حين كانت مصر دولة ناهضة صاحبة مشروع وحلم (ليس لنفسها فقط بل للعرب جميعاً) . لم يكن الإعلام المصرى يعرف بعد شعارات مثل «مصر أولاً أو مصر فوق الجميع» لأن مصر يومها كانت للعرب جميعاً وللأفارقة بل وللعالم الثالث كله. لم تكن مصر فى هذا الزمن دولةً غنية بل كانت أمة مكافحة ودولة مثابرة تجتذب فقراءها وعمالها وبسطاءها وفلاحيها لأن الوعود والآمال يومها كانت باتساع السماء. لهذا لم تكن ظاهرة الترحال إلى دول الجوار العربى قد ظهرت بعد باستثناء فئات المعلمين والأطباء والمهندسين الذين كان ترحالهم إلى دول الجوار العربى أشبه ببعثات للعمران والتعليم والتنوير، وإقامة المؤسسات. كان ترحال الفلاحين والعمال ظاهرة محدودة إن لم تكن منعدمة. كانوا فى بلدهم يحظون بالحب والاحترام وطالما احتفت بجدهم وعصاميتهم كلمات الأغانى وأفلام السينما، وفُتحت الوظائف والمناصب المرموقة للأكفاء منهم. ثم دار الزمن، وتغيّر الحال وفقد الذين كانوا يوصفون بأنهم ملح الأرض صورتهم وفرصتهم وثقتهم. أوصدت الأبواب أمامهم بل وتعرضوا للاحتقار حين تجرأوا على المطالبة بالتعيين فى بعض الوظائف. وحين اضطر هؤلاء إلى البحث عن فرصة عمل فى دول الجوار العربى فإنهم رحلوا إلى هذه الدول مُحملين بعبئين ثقيلين هما الشعور الشخصى بالانكسار أمام قسوة الاغتراب بحثاً عن لقمة العيش والشعور الوطنى بتراجع مكانة بلدهم وهيبته التاريخية لظروف اقتصادية وغيرها فى ظل أصداء كلمات محمد منير أنا كنت لما انت كنتِ.. أنا هُنت لما انت هُنتِ. هذا لم يمنع بالطبع من أن الشعوب العربية مازالت إجمالاً تحمل للمصريين وداً خاصاً. هذا على الأقل ما تجلّى من ردود فعل الأشقاء الأردنيين أنفسهم وهم يستنكرون عبر وسائل التواصل الاجتماعى ما حدث للمواطن المصرى فى بلدهم، والأردنيون بالمناسبة شعبٌ عربيٌ أصيل كريم الأخلاق. والأرجح أن الجهات الأردنية المختصة ستسعى لاحتواء ما حدث سواء بالوسائل القانونية أو بغيرها. بالطبع لم ننشغل فى غمار ما حدث فى الأردن بسؤال آخر هو هل يعيش العامل المصرى فى أوروبا وأمريكا نفس المعاناة؟ بالطبع لا، لأنه فى دول المساواة والحقوق وسيادة القانون تبقى كرامات الناس مصونة لانهم (بشر) قبل أن يكونوا حاملين لهذه الجنسية أو تلك. ذات مساء حكى لنا يوماً وزير أردنى سابق أثناء دعوة للعشاء فى بيته بمناسبة محاضرة ألقيتها فى منتدى عبدالحميد شومان بحضور سفيرنا السابق فى عمَّان دمث الخلق عمرو أبو العطا .. حكى عن نظرة الإعجاب والانبهار لدى الأردنيين حينما كانوا يشاهدون مصرياً منذ خمسين او ستين عاماً، إلى درجة - يقول مضيفنا الأردني- أنه فى سنوات صباه كان يهرع مع أشقائه ليشاهدوا بفضول عبر النافذة رجلاً مصرياً كان يسكن بالجوار وكأنه كائن فريد مثير للإعجاب. التساؤل الآن عن الدور المتوقع (أو الذى كان متوقعاً) أن تقوم به وزارة الخارجية المصرية باعتبارها الجهة المختصة المعنيّة بما حدث. وفقاً لما نشرته الصحف تواصلت سفارتنا فى عمَّان مع السلطات الأردنية فى هذا الشأن وذهب القنصل المصرى لمقابلة العامل المصرى المصاب فى وجهه وكرامته. لكن ما زال أداء الخارجية المصرية فى الاهتمام بمشاكل وأزمات المصريين فى الخارج أقل من نظيراتها الأجنبية. ربما يقول البعض إن الخارجية المصرية لن تترك واجباتها الدبلوماسية لتتفرغ لمتابعة اعتداء بسيط على مصرى فى دولة أجنبية أو نزاع مع جهة أجنبية لأن فى هذه الدول قوانين وإجراءات يجب احترامها. هذا بالطبع أمر مفهوم لكن غير المفهوم أن دولاً أخرى تهب فيها وزارة الخارجية لمتابعة مظالم ومطالب مواطنيها فى الخارج وتبادر بالوقوف إلى جانبهم حتى وهم مرتكبون أحياناً لمخالفات قانونية بالرغم من أن وزارات الخارجية فى هذه الدول عليها أيضاً واجبات دبلوماسية كبرى. مطلوب إذن (ذهنية) جديدة لفهم وإعلاء علاقة الدولة بمواطنيها فى الخارج. هذه (الذهنية) الجديدة هى وحدها الكفيلة بتفعيل رؤية وطريقة عمل الإدارة المعنيّة بشئون المصريين فى الخارج. هذه (الذهنية) هى التى تجعل السفارات الأجنبية فى مصر تهب لنجدة مواطنيها وترسل المحامين لهم حتى عند ارتكابهم جريمة، وهى التى تدعو سفراء أجانب لدول كبرى لحضور محاكمة لأحد مواطنيها . اهتمام سفارتنا بمواطن مصرى فى الخارج ليس تدخلاً فى شئون دولة أخرى بل هو «فعل رمزي» يحتاج إليه المواطن لكى يشعر بمعنى المواطنة. --------------- قالوا .. أفضلُ طريقةٍ لحب الوطن هى مغادرته لبعض الوقت لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم