"الأهم ممن تنتخب.. أن تحدد بأي معايير ستنتخب".. هكذا أجبته عن سؤاله: "من تنتخب رئيسا للبلاد". إنه سؤال الساعة الذي يتردد على ألسنة الكثيرين، لكن صاحبي عاد ليسألني مرة ثانية: "ما معايير الانتخاب إذن؟" لقد سن الإسلام معايير رائعة لكل شئ في الكون، والحياة، واشترط توفر عدد منها في الحكام والمرشحين لتولي المناصب والرئاسات والقيادة. ورئيس البلاد في ديار الإسلام يجب أن يكون مسلما، لأنه مُكلف بالحكم بما أنزل الله.. قال تعالى: "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ". (المائدة: 16).. فهو مؤتمن على "حراسة الدين، وسياسة الدنيا به"، كما قال الماوردي، وهذا ما لا يقوم به إلا حاكم مسلم. وطبقاً لابن تيمية فمن واجبات صاحب الولاية ترسيخ أسس الشريعة في المجتمع، ووضعها موضع التطبيق، والمشاورة لتحقيق التعاون بين الفئات المختلفة للمجتمع، والحكم بالعدل في الحدود والحقوق، بحيث يتم استيفاء حقوق الله وحقوق العباد على الوجه الذي جاءت به الشريعة. ولتأكيد أهمية تنصيب رئيس للبلاد، وألا يبيت المسلمون ليلة دون أن يكون لهم رئيس؛ انشغل الصحابة عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بحسم مسألة القيادة من بعده، بينما جسد الرسول الطاهر صلى الله عليه وسلم مسجى في داره، وبعد أن اتفقوا في سقيفة بني ساعدة على تولي أبي بكر لزمام القيادة؛ قاموا بدفنه -صلى الله عليه وسلم- في صبيحة اليوم التالي. لله درك يا رسول الله.. لم يستخلف أحدا من بعده، على أهمية الأمر، وترك الأمر شورى بين المسلمين؛ انطلاقا من القاعدة القرآنية :"وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ".(الشورى: 38). وهكذا سن الإسلام قبل أكثر من خمسة عشر قرنا انتخاب الحاكم انتخابا حرا مباشرا من الناس، وكان ذلك أحد معالم الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وليس الملكية الوراثية العضوض التي يرفضها الإسلام، وابتثليت به الأمة من آفات الأمم الأخرى. ومن الأمور التي تستحق التأمل والدراسة، ما ورد عن السلف الصالح والتابعين من إلقائهم السلام في مجالس الحكام بالقول :"السلام عليك أيها الأجير"، تذكيرا لهم بأنهم أجراء (خادمون) للمسلمين، وليسوا أسيادا عليهم.. لذلك استهل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- خطبته الأولى للحكم بقوله :"وُليت عليكم.. ولست بخيركم". وينبغي أن يدرك الناخبون أن الأنبياء والرسل والقادة العظام في الإسلام لم يكونوا فقط أتقياء ورعين..وإنما كانوا أشخاصا ناجحين في حياتهم..إذ كان كل نبي ورسول يعمل في حرفة، وقد أثبت قوة، وجدارة، وأمانة فيها. فالتكليف بالرسالة كن يتم في قمة النضج الصحي والعقلي لكل نبي أو رسول؛ كما حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اُبتعث بعد سن الأربعين، غير أن هناك استثناءات محدودة لذلك، كما حدث مع النبي يحيي الذي قال الله في حقه :"وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا".(مريم: 12). ويتبنى الإسلام كذلك التداول السلمي للسلطة، وعدم تأبيدها في شخص أو جماعة، مهما كانت براعته أو براعتهم في القيادة، والدليل على ذلك تأمير الرسول صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على رأس جيش يضم كبار الصحابة، إلى بلاد الشام، وهو إذ ذاك دون العشرين من عمره. ويحدثنا الله تعالى عن طالوت..ملك بني إسرائيل الذي اصطفاه عليهم، "وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم".(البقرة:247)، فخطط للمعركة، وقاد القوم..لكن مَن الذي حقق النصر، وسدد الضربة، وقتل جالوت؟ إنه داود عليه السلام، وهو إذ ذاك جندي من جنوده، لكن طالوت (رئيسه وقائد الجيش) يقبل بكل أريحية بتداول السلطة، والنزول عن الحكم، لغير عارض سوى وجود من تنطبق عليه المعايير بشكل أكفأ منه.."فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء".(البقرة:251)..في حياة طالوت..بدون وفاة، أو انقلاب عليه. وكذلك قام عمر بن أبي الخطاب -رضي الله عنه- بعزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش عام 13 هجريا، بعد انتصار المسلمين بقيادته على الروم في موقعة اليرموك؛ كي لا يُفتتن الناس به.
ومن المهم جدا اقتناع الناس بالقائد، وهذا ينبع من إشراكه لهم في مشروعه.. قال ذو القرنين :"مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا".(الكهف:95).. فكان بإمكانه أن يعتمد عليهم بشكل ثانوي، أو بشكل كامل على جيشه..لكنه أشركهم في حلم حياتهم، ومشروع تغييرهم.."فأعينوني"..طلب إعانتنهم له، ب "قوة"؛ لأن العمل لن يتم إلا بالإتقان والمهارة، التي آل إليها الإنجاز في النهاية. وهنا نذكر استعانة أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- بالناس عند تحمله أمانة الخلافة..إذ خاطبهم بقوله :"فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني".. إنه إشراك الناس في مشروع النهضة، بل وفي تقويم الحاكم....لأنه أجير لديهم، يقوم على رعاية شئونهم ومصالحهم. في الأسبوع المقبل نتحدث عن المعايير الواجب توافرها في المرشحين للقيادة من وجهة نظر الإسلام. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد