الليل شديد الظلمة فى عرض البحر، مخيف المشهد، تحتضن الأم رضيعها المدثر بقطع الملابس تحاول بث الدفء فى عروقه، تحت وطأة تيارات هواء كطلقات الرصاص فى خضم بحر غير متناهى الأطراف، تقتسم بطانية وحيدة مع أربعة آخرين، يربطون فوق صدورهم سترات بالونية بلاستيكية للوقاية من الغرق، يعلمون يقينا أنها لن تحمل أجسادهم إذا ما وقع المحظور. ................................................................... القارب المطاطى ينوء بثلاثة أضعاف حمولته، يجاهد متقدما على مهل وسط مياه بلا قاع وأفق مفتوح كئيب بلا ساحل، الظلام مخيم مقبض إلى حد الرعب، لا صوت سوى الهواء، وهمهمات الدعاء المكتوم بالنجاة، وموجات المياه المتلاحقة على الجانبين المغمورين بكثرة الركاب، الموت رفيق رحلة لا يفارق، مالح الطعم كالمياه التى تغرق الملابس، تنخر العظام بارتعادة برد لا يرحم. الساقط من القارب مفقود بلا أدنى أمل، الإنقاذ رفاهية لا يملكها أحد، الحظ وحده هو الحليف المنشود، إما أن يستقر الجسد الهارب فى قاع البحر، أو أن يصل إلى أرض مجهولة، لاجئا منبوذا غير مرغوب فيه، لا خيار ثالث بين المر والأكثر مرارة، ولا خوف الآن سوى أن يفعلها القارب المنفوخ بالهواء، ويسلم هواءه وحمولته البائسة للأعماق المظلمة.
من كل الأعمار لاجئون كانت الهجرة غير الشرعية على مدار سنوات مغامرة يائسة يقوم بها الشباب البائس من دول شمال إفريقيا إلى أوروبا سعيا وراء مستوى معيشي أفضل، أما الآن فقد صار الوضع أكثر مأساوية وخطورة ومدعاة للخجل والعار، عرب من كافة الفئات العمرية يهربون عبر مراكب الصيد الواهية، معظمهم من سوريا والعراق وليبيا واليمن، نساء وأطفال وعجائز، ألقت بهم الحروب والصراعات والإرهاب فى عرض البحر، بحثا عن نجاة مستحيلة. تحولت الهجرة غير الشرعية لأكبر موجة نزوح عربية يشهدها العالم فى القرن الحادى والعشرين هربا من مناطق الصراع، لم تعد مياه المتوسط أكثر رحمة بالنازحين من أوطانهم، الواقعة فى أتون حرب طاحنة، وصراعات مسلحة لا ترحم، وبراميل متفجرة لا تفرق بين إرهابى وأعزل، وقذائف تحمل الموت فى بارودها للجميع، وأوضاع معيشية تصل إلى حد الاستحالة، وأفق سياسى مغلق لا تلوح فيه حلول قريبة.
مسارات اللجوء مسارات اللجوء تبدأ من تركيا التى امتلأت مخيماتها بملايين النازحين عبر السنوات الثلاث الماضية، فإذا بها تفتح طريقا للنازحين عبر بحر إيجة إلى جزر اليونان وخاصة جزيرة «كوس»، ومسار آخر يبدأ من سواحل فرنسا إلى بريطانيا عبر مياه «المانش»،أما المسار المعتاد الذى كان يبدأ من ليبيا إلى إيطاليا فصار الأكثر خطورة بسبب الصراع الليبي المسلح المحتدم حاليا، آلاف الكيلومترات عبر مياه البحر المتوسط، مع كل متر تقل فرص النجاة، وبعد الوصول تبدأ مأساة أخرى، دول أوروبا التى لم تعد تحتمل مزيدا من المهاجرين فوق أراضيها، حتى أن بريطانياوفرنسا بدأتا بالفعل فى بناء جدران عازلة على حدودهما البحرية، النمسا تترك نحو ألفى لاجئ فى العراء وسط حرارة لا تحتمل وعواصف ممطرة فى مدينة ترايسكيرشن قرب العاصمة فيينا، بلا طعام أو معونات، أوروبا بأسرها فى حالة تخبط غير مسبوقة بسبب تدفق الفارين العرب من بلدانهم بصورة فاقت أكثر التوقعات المتشائمة، الدول تصرخ من كثرة البشر المترامين على سواحلها فى تسونامى لا يحتمل، خاصة إذا علمنا أن هذه الدول تتحمل كل نفقات إعاشتهم تقريبا.
أرقام مؤلمة الأرقام والإحصائيات تتحدث عن 2300 مهاجر غرقوا فى البحر خلال عبورهم المتوسط منذ بداية العام فقط ، وفي آخر حصيلة لمنظمة الهجرة الدولية ، شهدت الفترة من عام 1990 إلى2013 مصرع 3188 مهاجرا حاولوا عبور البحر نحو أوروبا، يُضاف إليهم 3419 في الفترة من عام 2014، والذين يتجاوز عددهم مجمل الوفيات في كل السنوات ال13 السابقة. ومنذ بداية العام الحالى وصل الى اليونان بحرا 124 ألف مهاجر ، وفي ايطاليا، وصل 103 آلاف خلال الفترة نفسها بينما تتوقع ألمانيا أن يرتفع عدد اللاجئين إليها إلى 600 ألف شخص. ذلك فصل آخر من مأساتنا، أبناء أوطاننا يموتون فى المخيمات داخل الوطن وخارجه وفى عرض البحر وحتى بعد وصولهم إلى حيث يهربون، حتى صارت عبارة «أمجاد .. يا عرب» مدعاة للسخرية فى زمن الهزائم، وصار الأقرب إلى وصف واقعنا الأليم « نازحون .. ياعرب».