عندما سافرت لقريتى طماى الزهايرة بالدقهلية لقضاء بعض الوقت فى رمضان قابلت أم محمد ذات ال 50 عاما, سيدة بسيطة أمثالها كثيرون فى بر مصر, وقد تبدل حالها من البؤس والتسول والهم الدائم والخوف من المجهول, إلى حالة من السعادة والأمل والثقة فى المستقبل, وحين سألتها ماذا غير حالك يا أم محمد, قالت الآن أنا لست عبئا على المجتمع ولا أطلب الشفقة فلدى مشروعى الخاص الذى أتكسب منه بعمل يدى, فقد أعطتنى إحدى الجمعيات الأهلية الخيرية المشهورة بقرة صغيرة يتحملون تكلفة رعايتها ولديهم أطباء بيطريون لمتابعتها صحيا, حتى تنجب فيأخذوا ابنها ويعطوه لغيرى من المحتاجين, وأنا امتلك البقرة الأصل بعد فترة وتصبح رأس مالى ومشروع حياتى ومصدر رزقى. أم محمد ليست الحالة الواحدة بل هناك آلاف الحالات الأكثر فقرا الذين تستهدفهم أنشطة الجمعيات الخيرية الشهيرة والتى تقوم بجمع التبرعات وفتح أبواب رزق ودخل للبسطاء, سواء عبر فتح أكشاك خاصة لهم او إعطائهم ماشية وغيرها, فى حدود آلاف الجنيهات, وهى ظاهرة متنامية فى ريف مصر, تكشف أحد الجوانب المضيئة لدور المجتمع المدنى كأحد مقومات الدولة المدنية الحديثة, وأحد شركاء التنمية فى مجتمع يموج بالفقر والبطالة, وما يصاحبه من ظواهر سلبية تشكل خطرا على الدولة والمجتمع. فمشروع بقرة أم محمد على قدر بساطته إلا أنه يحمل فوائد جمة للمجتمع والمواطن أولها أنه يحول أم محمد وغيرها من الشباب والأرامل والفقراء من طاقة سلبية عبء على المجتمع, وتشكل قنابل موقوتة وعامل جذب للتطرف ووقودا للجماعات الإرهابية والإجرام, إلى طاقة إيجابية مساهمة فى بناء المجتمع وتطوره, كما يحولهم من متسولين وطالبى المساعدة تحت نظرة سلبية من المجتمع, إلى شركاء ومواطنين حقيقيين لديهم رأس المال الذي يتكسبون منه رزقهم بعرقهم وكرامتهم, وثانيها يسهم فى تنشيط الدورة الاقتصادية ويضخ استثمارات جديدة ويعزز مفهوم الاقتصاد الإنتاجى لما تنتجه هذه المشروعات من سلع وخدمات, وثالثها يساعد فى رفع مستوى معيشة الكثير من المواطنين البسطاء فى ظل التحديات الكبيرة التى يواجهها الاقتصاد المصرى منذ ثورة 25 يناير، ويجعل معه الدولة عاجزة عن تلبية احتياجات مواطنيها وتضطر إلى الاستدانة من الخارج وما يشكله ذلك من أعباء كبيرة على الاقتصاد, ورابعها يشيع قيم التكافل الاجتماعى بين فئات المجتمع عبر تحويل جزء من فائض الثروة لدى بعض الأغنياء عبر التبرعات لتلك الجمعيات إلى المواطنين المعدومين, وهى قيم فاضلة تدعم تماسك المجتمع المصرى, ونحتاجها بشدة بعض أن طرأت على مجتمعنا الكثير من القيم السلبية الدخيلة التى تهدد تماسكه ووحدته. وإضافة لذلك فإنه يكرس ثقافة التمويل الداخلى لمنظمات المجتمع المدنى عبر تبرعات الأغنياء لتلك المنظمات, ويقلل بشكل كبير من التمويل الخارجى الذى يأتى من الدول الاجنبية، أو من المنظمات الأهلية العالمية, وما يثار حولها من مغالطات وشكوك حول أجندات وأهداف تلك الدول والمنظمات, ويضع الكثير من الجمعيات الأهلية المصرية فى مرمى النيران والاتهامات بالعمالة والخيانة وتمرير التدخل الأجنبى فى الشئون المصرية, ولا يخفى على أحد أن كثيرا من التمويل الأجنبى له دوافع وأهداف سياسية ودينية تتخذ من العمل الإنسانى ستارا لها, كما هو الحال فى التمويل تحت مظلة دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وفى مصر يوجد أكثر من 45 ألف منظمة أهلية تتعدد أنشطتها وأهدافها ما بين خيرية وإنسانية وسياسية واجتماعية وبيئية, وكثير منها يؤدى أدوارا وطنية حقيقية فى تنمية المجتمع ورفع مستوى معيشة المواطنين ووعيهم السياسى والاجتماعى, لكن فى المقابل هناك الكثير أيضا من الجمعيات الأهلية التى تحترف العمل الأهلى كتجارة ووسيلة للتربح وكسب المال وتعمل تحت مسميات وأنشطة وهمية. وإذا كانت كثرة المنظمات الأهلية فى مصر علامة على صحة المجتمع المدنى وتطوره, فإن هناك حاجة ماسة لتقنين عمل الكثير من تلك المنظمات لتوجيهها صوب المسار الصحيح، وتحقيق الأهداف الحقيقية لدور المجتمع المدنى, وهى تعزيز التنمية ومساعدة الفقراء ونشر ثقافة التسامح والتعايش والارتقاء بالوعى السياسى والسلوكيات المتحضرة, وبالطبع لن يكون ذلك من خلال تضييق الدولة على عمل تلك المنظمات, كما كان يحدث إبان النظام الأسبق, وإنما بتوافر الشفافية حول عمل تلك المنظمات، سواء فى مصادر تمويلها أو أوجه عملها وإنفاقها, وأن تقدم كل جمعية أهلية تقريرا سنويا حول أنشطتها التى حققتها والأنشطة التى تستهدفها فى وقت زمنى محدد, فلا يعقل أن تقوم جمعية أو مؤسسة خيرية ما بجمع التبرعات إلا ما لا نهاية, فالشفافية سوف تعطى المصداقية لها أمام المواطن والدولة. كذلك من المهم أن تعيد كثير من تلك المنظمات هيكلة أنشطتها والاتجاه إلى المعدومين والفقراء والغارمين فى كل أنحاء مصر, ولا ننسى أن المجتمع المدنى قد لعب فى السابق دورا بارزا فى خدمة المجتمع المصرى عبر الجهود الذاتية فى إنشاء المستشفيات والمدارس ومشروعات العمل الصغيرة, ولذلك فإن مشروع أم محمد وغيرها ينبغى دعمها وتشجيعها ليصبح لدينا أم محمد فى كل قرية ومنطقة عشوائية ويستعيد المجتمع المدنى دوره الوطنى الحقيقى التنموى والإنسانى. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد