الاختلاف والتنوع سنة كونية لا يمكن لعاقل أن يتصور زوالها أو الافتئات عليها، حتى ولو بنية حسنة محبة للاجتماع والتواد.. قال سبحانه مؤكدا وجودها: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). فأى محاولة حالمة لجعل الناس على فكرة واحدة دينا او سياسة او اقتصادا او اجتماعا هى محاولة ستبوء حتما بالفشل، لأنها ستصادم هذه السنة الكونية الثابتة الراسخة، والتى هى دليل على عظمة الخالق جل وعلا وعلى قدرته المبهرة فى الخلق والتنويع فيه. لذلك فإن الإسلام قد أرشد إلى نوع من الفقه أعتبره فريضة الوقت وواجبه، وهو فقه الاختلاف، والذى يرشدنا إلى كيفية إدارة هذا التنوع الذى يمكن فى بعض وجوهه أن يكون ثراء وإثراء للمنجز الحضارى لبنى البشر. ولا يظنن ظان أن الاختلاف له علاقة بالعلم قلة وكثرة، او بالتقوى وجودا وعدما، فقد وقع الاختلاف بين خير القرون وأفضل البشر بعد الأنبياء والرسل وهم أصحاب النبى محمد صلى الله عليه وسلم، بل وكان ذلك فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وما أمره لهم بالصلاة فى بنى قريظة بغريب على الأسماع. لقد روى المحدثون وكتاب السير الشيء الكثير عن خلافات وقعت بين الصحابة رضوان الله عليهم فى اتجاهين. أولهما: اتجاه فقهى له تجلياته الاجتماعية، كما حدث بين ابن مسعود وعثمان رضى الله عنه فى إتمام الصلاة وقصرها فى مني، وكذلك ما حدث بين عمر وبين ابن مسعود رضى الله عنهم جميعا فى زواج الزانيين غير المحصنيين.. بل وقع الخلاف فيما يعتبره بعض طلبة العلم الآن من مسائل الاعتقاد، كالخلاف بين عائشة رضى الله عنها وبين عبد الله بن عباس رضى الله عنهما حول رؤية النبى صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه ليلة الإسراء. المهم أنه مع عظم تلك المسائل وتأثيراتها الاجتماعية لم نر احدا فسق أحدا أو بدعه أو كفره، ولم نر أحدا حاول أن يقصى أحدا أو يتهمه فى دينه أو انتمائه. ثانيهما: اتجاه يمكن أن يعده البعض من باب السياسة بمعناه العرفي، فمثلا حين اختلف الصحابة فى سقيفة بنى ساعدة أثناء اختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن حسم عمر رضى الله عنه الأمر وطلب من أبى بكر أن يمد يده ليبايعه فتتابع الناس يبايعون أبا بكر بعد عمر رضى الله عنه.. ورضى الجميع بما وصلت إليه الشورى وارتضوا أبا بكر خليفة. وكذلك الخلاف الذى دب بين أكبر رمزين فى الأمة بعد رسول الله وهما أبو بكر وعمر رضى الله عن الجميع حول قتال المرتدين ومانعى الزكاة، وما استتبع هذا الخلاف من إمضاء أبى بكر لرأيه بوصفه الحاكم المتحمل للمسئولية. إن أسس هذا الفقه الذى ينبغى على كل الفرقاء فى الساحة المصرية أن يدركوه، تنطلق من التماس العذر للمخالف أولا، والحرص عليه ثانيا، وعدم الإحساس بالصواب المطلق، فلا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، وقد علمنا فقهاؤنا الاماجد كيف نقبل المخالف ونضع احتمالات رجاحة رأيه حين قال الشافعى رضوان الله عليه «رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب». بقى أن أشير إلى مجموعة آداب يجب ان يتحلى بها المختلفون فى اختلافاتهم، ولعل أهمها الإنصاف والذى يعنى أن تضع نفسك مكان خصمك، وأن تنزل الآخرين منزلة نفسك، وأن يدرك المختلفون أنه لا إنكار فى مسائل الاجتهاد المختلف فيها، وضرورة التحفظ عن تكفير فرد بعينه أو لعنه، حتى لو كان من طائفة، أو كان من أصحاب قول، يصح أن يوصف انه كفر، ثم على الجميع أن يأخذ الآخر بالظاهر، والله يتولى السرائر، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول:( إنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَثْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُم) لمزيد من مقالات د شوقى علام