يقول فضيلة الشيخ محمد محمود أبو حطب وكيل وزارة الاوقاف بالاسكندرية ان الاختلاف في بعض الفروع وليس في الاصول... فالاصول في الاسلام ثابتة بالقرآن والسنة . لا يجوز لأي من كان ان يتطاول او أن يدخل علي الاصول الثابتة كشهر رمضان فالله تبارك وتعالي أنزل في قرآنه الكريم انه شهر كريم ذكر باسمه صراحة وأمرنا بأن نصومه فلا يجوز لأي انسان أن ينكر هذا الامر الثابت لأن الله اخبر والرسول الكريم بلغ.. كذلك الصلاة والزكاة والحج. اما الفروع فهو اختلاف للوصول الي الحقيقة وليس للتنافر والتناحر وانما هو سبيل للوصول للاحسن, ولنا في رسول الله أسوة حسنة, وعلي سبيل المثال: في صلح الحديبية الشروط كانت قاسية علي الرسول والمسلمين ومع ذلك قبلها النبي'' صلي الله عليه وسلم'' لانها لا تتعلق باصول الدين.. ويقول علماء التاريخ والسيرة ان اكثر الفترات خصوبة وانتشر فيها الاسلام هي فترة ما بعد صلح الحديبية, وهذا يدل علي مكانة الرسول وحكمته وكذلك الحج فأركانه معروفة'' الوقوف بعرفة'' وفي غير ذلك كان النبي يقول لاصحابه افعل ولا حرج لانها فروع وليست أصول. ويذكر لنا الدكتور عبد الفتاح ادريس استاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة بجامعة الازهر صورة من صور الاختلاف الراقي بين الصحابة رضي الله عنهم حين رأي عمر بن الخطاب ضرورة جمع القرآن الكريم وأقنع أبا بكر بذلك مع أن جمعه علي هذا النحو في نظر ابي بكر من قبيل البدعة لأن ذلك لم يفعله رسول الله صلي الله عليه وسلم, ولم يعنف ابو بكر عمر ولم يرمه بالابتداع بل استجاب لرأي عمر. ويضيف استاذ الفقه المقارن ان علماء السلف ساد بينهم اختلاف كبير في آرائهم سواء في مسائل العقيدة او الشريعة ولم ينقل لنا التاريخ احدا منهم رمي الآخر بالكفر او الزندقة او الفسق بل ان بعضهم لم يأخذ ببعض الاحاديث بالرغم من صحتها ومع هذا لم ينكر عليه الذين أخذوا بها. ومن يتصفح كتب الفقه أو العقيدة لا يجد مطعنا من احد من سلف الأمة ضد غيره منهم بل ان منهم من كان يتهم نفسه في فهم النص او كيفية الاستدلال علي المسألة الشرعية ولا يتهم غيره بذلك. ويشير الي ان الامام أبو حنيفة قد قرر مبدأ عدم التعصب للرأي وافسح المجال للغير لإبداء رأيه والتدليل عليه حين قال قولنا هذا رأي وهو أحسن ماقدرنا عليه, فمن جاءنا بأحسن من قولنا هذا فهو أولي بالصواب منا, وحين قال له بعض جلسائه بعد ان صدرت عنه فتوي في مسألة عرضت له يا ابا حنيفة هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه فقال'' والله لا أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه''. ويري الدكتور عبدالله ربيع أستاذ أصول الفقه بجامعة الازهر أن كثيرا من الباحثين يخلط الاختلاف الذي يكاد يكون سنة مطردة من سنة الله في مخلوقاته, بالتفرق الذي ذمه الله تعالي, فيجعلون الاختلاف شرا كله, ويقول إن الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة, مؤكدا أن الذين يريدون جمع الناس علي رأي واحد في أحكام العبادات والمعاملات ونحوها من فروع الدين يريدون شيئا لا يمكن وقوعه, وان الاختلاف في فهم الاحكام الشرعية غير الاساسية ضرورة لابد منها أوجبتها طبيعة الدين واللغة والبشر والكون والحياة. ويفسر ذلك فيقول اما عن طبيعة الدين فقد أراد الله تعالي أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه والمحكم والمتشابه والقطعي والظني والصريح والمؤول, لتجتهد العقول وتستنبط فيما لا يقبل الاجتهاد وتسلم فيما لا يقبل الاجتهاد إيمانا بالغيب, وأما طبيعة البشر فقد خلقهم الله مختلفين, فكل إنسان له شخصيته المستقلة و تفكيره المتميز و طابعه المتفرد يبدو ذلك في مظهره المادي كما يظهر في مخبره المعنوي, يستطرد الدكتور ربيع أن الاختلاف مع كونه رحمة بالأمة فهو توسعة عليها, وقد روي في ذلك عن النبي صلي الله عليه وسلم قال اختلاف أمتي رحمة ومن هنا فليس كل اختلاف شرا والا فقد وقع الاختلاف في سلف الأمة ولا يزال واقعا. وقد قال تعالي ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة, ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. ويري استاذ اصول الفقه أن اهم الضوابط التي يجب مراعتها عند الاختلاف هو الاخلاص وصدق التوجه لله سبحانه وتعالي فالاخلاص هو ابتغاء وجه الله وحده وصدق التوجهحضور القلب في الطاعة, بالاضافة الي الظن بالآخرين خاصة اهل العلم, واجتناب التطاول عليهم والخوض في أعراضهم والعيب فيهم وكذلك تجنب الخلاف في القطعيات لأنها ثوابت لا تقبل التغيير عملا بالقواعد المقررة شرعا. ومن الضوابط أيضا الحوار بالتي هي احسن, عملا بهدي القرآن في قوله تعالي ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فقد اكتفي في الموعظة بأن تكون حسنة ولم يرض في الجدال إلا بالتي هي أحسن, وعلي أي حال فالخلاف جائز والتعصب للرأي مكروه, ومحاولة الوصول إلي الحق وحمل الناس عليه لا بد أن يكون بألطف وسائل اللين والحب والمودة, وهذا هو المنهج الوسطي الذي نؤمن به وندعو إليه. كما وضع الامام الشافعي مبدأ مهما في أدب الحوار وترك التعصب وعدم مصادرة رأي الغير بقوله رأينا صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.. بهذا النهج الذي سلكه السلف ووضعوا أسسه ينبغي أن يكون الحوار في شتي مجالات الحياة بحيث لا يغمط رأي, أويصادر فكر, أو ينتقص قول, أو يكمم فم, أو يسفه توجه, أو يصادر باب محاورة, أو يجبر علي فكر أو مذهب, ليظل ركب الحياة يسير علي هدي من نهج الاسلام الحنيف في أدب المحاورة و المناظرة و الجدل. ويقول الناقد الأدبي الدكتور حسام عقل والباحث في الدراسات الاسلامية إن الاختلاف بين الناس من صفوتهم وسوادهم الاعظم, ضرورة بشرية ودينية ولغوية وكونية, ومن المحتم علي المجتمع الثقافي العربي إن يؤسس فقها راقيا للاختلاف, وعلي النخبة المثقفة أن تبني ركائز وقواعد راسخة وقوية لهذا النوع من الفقه الرشيد, ويفسر ذلك قائلا إن في نصوص الدين ذاته ما هو قطعي في ثبوته ودلالته, ومنها ماهو ظني الدلالة, وفي هذا الجزء تختلف الأفهام والاتجاهات لا محالة. ويذكر الدكتور حسام آراء حول سعة الاختلاف ومنها ما رواه أبويعلي في طبقات الحنابلة أن رجلا ألف كتابا في الاختلاف فقال له الامام أحمد لا تسمه كتاب الاختلاف ولكن سمه كتاب السعة فالاختلاف دائما, في غير تشنج, سعة و ثراء, ليتوحد الصف عن فهم وحوار و إقتناع. ويستطرد قائلا إن الاختلاف بهذا المعني الحضاري ثروة كبيرة يثري بها الفقه و الفكر وينمو ويتسع, لأن كل رأي يستند إلي أدلة واعتبارات شرعية وفكرية أفرزتها عقول كبيرة تجتهد و تستنبط وتقيس و تستحسن و توازن وترجح, وتؤصل الاصول و تقعد القواعد. وهذا اللون من الاختلاف الراقي في القوانين و الآراء الفقهية و الاجتهادات الفكرية هو مما أشاد به مؤتمر لاهاي للقانون المقارن سنة 1963 ومؤتمر باريس سنة1951, بل ان المجمع الفقهي برابطة العالم الاسلامي كما يقول الدكتور عقل أصدر قرارا قويا بهذا الخصوص في دورته العاشرة المنعقدة عام 1480 للهجرة بشأن موضوع الخلاف الفقهي, حيث رفض العصبية المذهبية والمشكلات التي تنشأ عنها.