هذه الصورة ليست من الكونغو أو أريتريا أو مالي أو ليبيريا أو أفغانستان، وهى كلها ضمن الدول العشر الأكثر فقرا في العالم... بل من بريطانيا وداخل متجر كبير لبيع المواد الغذائية خفض أسعار بعض السلع لديه. فليس من الصحيح أن لا أحد ينام جائعا. الكثيرون في الواقع ينامون جوعى. نحو 800 مليون شخص حول العالم تقريبا، بينهم نحو مليون في بريطانيا العظمى، وهذا رقم سيرتفع حتما مع بدء إستقطاع الحكومة البريطانية نحو 12 مليار جنيه استرليني من برنامج شبكة الضمان الإجتماعي في إطار خطة التقشف العامة لسد العجز في الميزانية وتخفيض الدين العام. لا يمكن لأحد التنبؤ بتأثير تلك الأستقطاعات على الأكثر فقرا في بريطانيا، لكن المظاهرات المناوئة التي شهدتها لندن وجلاسكو الأسبوع الماضي مؤشر على القلق الجماعي. فمنذ الأرتفاع الكبير في أسعار الغذاء 2006 والأزمة المالية العالمية 2008 سقط ملايين البريطانيين في خانة "الفقراء"، خاصة في المدن الصناعية الكبيرة مثل بريستول ونيوكاسل وليفربول ولانكشير ومانشيستر وبرمنجهام وليدز وشيفيلد وبريستون وبلاكبول، التي كانت كلها يوما من أهم المراكز الصناعية في العالم، ثم تراجعت تدريجيا بسبب المنافسة مع المدن الصناعية الناهضة في أسيا وامريكا الجنوبية. لم تذهب هذه المدن وحدها ضحية التحولات الأقتصادية في العالم، بل ذهب سكانها ضحية ايضا. فالغالبية العظمى من سكان المدن الصناعية البريطانية "عمالة يدوية" بالأساس تدربت على القيام بأعمال في قطاعاتها المتخصصة مثل صناعات السفن والتعدين والسيارات والطائرات والمنسوجات والأغذية. وخلال الثلاثين عاما الماضية، تركت هذه "العمالة اليدوية" وحدها تواجه مصيرها بدون أن تقدم لها الدولة تدريبا أو تأهيلا في قطاعات أخرى يمكن أن يحتاجها سوق العمل البريطاني. ومع أن مؤشرات الأقتصاد البريطاني تحسنت اجمالا منذ الأزمة المالية 2008 ونسب النمو أفضل والدين العام أقل، إلا أن نسب من يعتمدون على بنوك الطعام أو من يعيشون عند خط الفقر لم تتقلص، بل تزايدت، فهناك نحو 11 مليون بريطاني يعيشون عند خط الفقر، وهناك نحو نصف مليون شخص يعيشون على مساعدات بنوك الطعام، لكن هذا الرقم يرتفع إلى مليون شخص عندما يتم دمج من يعتمدون على بنوك الطعام بشكل كلي، إلى جانب من يعتمدون عليها بشكل جزئي. وفي مساعيها للحد من الدين العام، اتبعت الحكومة البريطانية مسارا للإجراءات التقشفية لم يصل بعد إلى محطته الأخيرة تم بموجبه استقطاع عشرات المليارات من الجنيهات الاسترلينية من ميزانية شبكة الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والتعليم والخدمات العامة. هذه الاستقطاعات أدت إلى خروج مئات الالاف من شبكة رعاية الدولة، وصعبت بدرجة هائلة الحصول على إعانات البطالة، أو دعم الأسر التي لديها أطفال، أو مساعدة اللفئات التي تعيش على الحد الأدنى من الأجور. وفي دراسة اجرتها مؤسسة "تراسل تراست" الخيرية صاحبة فكرة بنوك الطعام في بريطانيا 2014، قال 85% ممن يعتمدون على بنوك الطعام أنهم أضطروا لذلك بسبب تأخر مساعدات الدولة، أو انخفاض دخلهم، أو التغييرات في نظام الرعاية الأجتماعية، أو الديون. فيما قال 15% أنهم أضطروا للإعتماد على بنوك الطعام بسبب البطالة، أو عدم وجود مأوى، أو المرض، أو تأخر الأجور، أو الإعاقة. هذا يعني أن الغالبية العظمى ممن وقعوا في خانة الفقراء حدث لهم هذا بسبب "سياسات الدولة" بالاساس، وليس فقط بسبب ظرف شخصي محض مثل الإعفاء من العمل أو المرض. اليوم في غالبية المدن الصناعية المترهلة تحولت الكنائس والمساجد إلى مقرات للعمل الخيري وتوزيع الأطعمة على المحتاجين. والعديد من المتاجر في بريطانيا قررت المساهمة في برنامج "بنوك الطعام". ففي بداية كل يوم تترك المتاجر الكثير من المواد الغذائية التي قاربت صلاحيتها على الإنتهاء، والمعلبات، والأطعمة المجمدة لبنوك الطعام التي تأخذها، ثم تعيد توزيع على المسجلين لديها. لكن هذا لا يعني إنتهاء المشكلة. فاللجوع أشكال عديدة، منها أن لا تجد طعاما على الأطلاق، ومنها أن تأكل أسوأ أنواع الطعام وأكثرها ضررا على الصحة. وفي بلد ثري مثل بريطانيا الفئات الأكثر فقرا تعيش غالبا على الأطعمة المعلبة والمجمدة المشبعة بالدهون والسكر، أما الطعام الصحي الطازج فقد بات "ترفا" للكثيرين منهم. الجوع في بريطانيا ايضا "عشوائي وعبثي". فمثلا بعد الأزمة المالية 2008، والإستغناء عن عشرات الالاف من الموظفين من بنوك أوشركات، وجد هؤلاء أنفسهم بلا عمل، وبلا رواتب، وبلا مساعدات من الدولة، وبلا "أسرة ممتدة" يمكن أن يلجأ اليها الفرد في حالات الحاجة، هؤلاء سقطوا بين ليلة وضحاها في خانة "الفقراء". ولأنه لا يمكن الفصل بين "الجوع" والفقر"، فالكثيرين ممن أصبحوا يعيشون عند خط الفقر، باتوا يعانون من الجوع بشكل متزايد. وفي استطلاع أخير للرأي اجرته مؤسسة "وويتش" المعنية بدراسات المستهلكين، قال 41% ممن استطلعت أرائهم إن أرتفاع أسعار الغذاء مصدر "للتوتر الدائم" بالنسبة لهم، بينما قال 29% أنهم يجدون "صعوبة" في إطعام أسرهم وأنفسهم. وفي دراسة أخرى في مارس 2013 حول مدارس لندن، وجد أن خمسة أطفال في كل فصل دراسي يأتون للمدرسة بدون أن يتناولوا وجبة الأفطار. ووفقا للمكتب الوطني للإحصاء فإن أسعار الطعام ارتفعت نحو 13% فوق مستوى التضخم خلال السنوات الست الماضية، فيما ظلت الأجور ثابتة. ويقول ريتشارد لويد الرئيس التنفيذي ل"ووتش" إنه اذا استمرت الأسعار في الصعود "فإنه من الصعب تصور كيف سيتكف الأكثر فقرا"، خاصة في ضوء الاستقطاعات الجديدة. اليوم هناك نحو 800 مليون شخص في العالم يعانون من الجوع ونقص الطعام وما يترتب عليه من أمراض، ثلثي هؤلاء في أسيا. كما يقتل الجوع في العالم سنويا أكثر مما يقتل الايدز والملاريا والسل مجتمعين. وأسباب أرتفاع أسعار الغذاء في العالم ومنها المضاربات، والتغييرات المناخية، والتزايد السكاني والأزمات الاقتصادية، تتفاقم كل يوم. المفجع أنه مع تزايد الفجوة الطبقية الهائلة في العالم بين "من يملكون" و"من لا يملكون"، لم يعد الجوع احتكارا على الدول الأكثر فقرا في العالم، بل أيضا من نصيب "فقراء" الدول الغنية.