بينما أقف منبهرا وحائرا أمام لحظة الدهشة وجمالها يأتى الشاعر أنسى الحاج ليذكر وينبه بما كتبه "قرأت الكتب لأسرق أوصافا تعجبك.انتبهت إلى الأحاديث لأتعلم كلمة تدهشك. أبحرت تحت الحذر لأفتش عن وعى يبهرك".ثم يمضى سائلا: «هل رأيت ورقة الشَجَر لحظة يطير عنها العصفور كيف ترتجف؟ الشاعر يرتعش بمقدار أوراق العصافير قاطبة» وكأن الحاج يلاحظ ترددى وترددك فيقول:” يعلّمنا الفنّانون أن نؤمن بشيء فينا يتجاوزنا. كم هو قليل ما نطلب وكم هو ما يعطوننا كثير” وقبل أن يمضى بعيدا يقول: «اسألنى عن كلامى إذا أردت، واسألنى أيضاً عن صمتي». وبما أننا نعيش هذه الأيام لحظات التأمل لحالنا وأحوالنا .. وأيضا التفكير فى كلامنا وصمتنا. فإننى أجد أن «نعمة الدهشة» تطاردنى وتحاصرنى وأحيانا كثيرة «تأسر قلبى وعقلي» وأنا أعتبر نفسى «محظوظا» فى هذا الأمر (على الأقل) على أساس أن الحياة غالبا ما تتجدد بالدهشة وتستمر.هكذا كانت وهكذا ستكون. والدهشة نظرة والتفاتة وكلمة وموقف وأسلوب واختيار وأداء ولغة وحالة عشق ممتد وأيضا مسيرة حياة وارادة متواصلة. وكل هذا بالطبع من أجل أن تبقى الدهشة قائمة ومستمرة وحية وفياضة. واذا كان الشاعر اللبنانى أنسى الحاج (2014 1937) لم يفقد الدهشة أبدا بل أيضا صنعها وصاغها وعاش بها ولها .. ونقلها لنا. فان الشاعر المصرى محمد عفيفى مطر (1930 2010 ) عندما كتب سيرته الذاتية أسماها “أوائل زيارات الدهشة هوامش التكوين «وأهداها الى والدته» الى جليلة الجليلات /«سيدة أحمد أبو عمار»/ فيض البركة فى زمن الصعب،/ وبسالة الحنان الكريم فى عصف الشظف/ أمي”. وقد نشرت الطبعة الأولى منها عام 2005. وتبدأ السيرة بهذه الكلمات:”كان قلبى معلقا بين مخالب طائر جارح محموم بالسياحات فى الأعالي، علوه فزع ورعب، وانطلاقاته كارثة احتمالات، ومناوشاته لعب فوضوى بين الأمل والموت، وكلما حط ليستريح نفرته الدهشة بزياراتها المباغتة، وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرة والغربة الفسيحة”. وقد اعتدنا القول كلما قابلنا شخصا لم تدهسه أو تشوهه بعد هموم الحياة ومشاغلها ومطالبها .. وينعم ويحتفى ب «نعمة الدهشة» وبأنه «طفل كبير» أو «طفل لم يكبر» أو «طفل لا يريد أن يكبر». وما أكثر الأطفال الذين لم يكبروا مع الأيام أو قاوموا مرور السنين ليحتفظوا بالدهشة ويسعدونا بدهشتهم. ولولاهم لما تم ولادة الموسيقى أو كتابة الأشعار أو سرد الروايات أو إخراج الأفلام أو رسم اللوحات . الناقد والمؤرخ السينمائى ابراهيم العريس كتابه عن المخرج العبقرى يوسف شاهين أسماه «يوسف شاهين نظرة طفل وقبضة المتمرد». وملمح آخر أو نموذج آخر من الدهشة عشته وعايشته مؤخرا مع الفنانة العالمية الشهيرة «شيرين نشاط» الإيرانية الأصل والمقيمة فى نيويورك وهى تتحدث عن صورها الفوتوغرافية (وأغلبها بالأبيض والأسود) وأفلامها المميزة وأيضا ما تصفه بزياراتها المتجددة للدهشة والوجوه والذاكرة واكتشاف الذات. وهذه الكلمات الأخيرة (لمن يهمه الأمر) لا تجمعها فقط «واو العطف» بل التجربة الانسانية وعلاقات التفاعل والتشابك والتصادم من أجل التوصل الى ادراك أفضل للذات وفهم أفضل لوجودنا الانساني. وقد نجحت «شيرين نشاط» (59عاما) بمعارضها الدولية للصور وآخرها فى واشنطن أن تعكس هذا التلاقى والمواجهة بين الوجوه ووجودنا فى المنطقة. كما أن «شيرين» بفيلمها المتميز «نساء بلا رجال» استطاعت أن تزور من جديد إيران.. وطنها ونساءها وثقافتها وحضارتها وتعيش كل هذا من جديد فسيفساء ذاكرتها ووجدانها وهويتها. وقد نالت عنه جائزة أحسن مخرج فى مهرجان فينيسيا لعام 2009. وبعد هذا الفيلم يراودها حلم فيلم عن «أم كلثوم» لكى تتحدث عن الفنانة المرأة المصرية العربية المسلمة القوية المدهشة . وقد التقيت ب «شيرين» من قبل وتكرر اللقاء وتناقشنا وتبادلنا الرسائل الإلكترونية. وهى تبحث وتجمع وتريد أن تعرف كل ما يخص «ثومة» لكى تعيش من جديد حياتها وحياة من عملوا معها وعشقوها .. وأيضا من يعشقونها هذه الأيام ولماذا؟. و«شيرين» تأمل أن يكتمل هذا الفيلم خلال العام المقبل وهو المشروع الحلم الذى تعمل من أجله فى السنوات الخمس الأخيرة. وطالما نحن فى شهر رمضان الكريم وتحاصرنا المسلسلات ليلا ونهارا لا بد أن نتذكر واحدا من أبرز من صنعوا وكتبوا لنا عوالم من الدهشة والبهجة وهو أسامة أنور عكاشة. الذى تركنا مع مسلسلاته العظيمة وذكراه يوم 28 مايو 2010 وكان فى ال69 من عمره. معلم الدراما قال “إن الحياة جميلة وستستمر طالما أننى أعيشها وأستمتع بها«ثم أستكمل» ولن أفكر فى موعد انتهائها، فلتنتهى فى أى وقت، لكن طالما أنا على قيدها، فلأستمتع بها كما هى أسامة أنور عكاشة كانت له نظرة أيضا للغد إذ قال «لا أدرى ماذا سيحدث غدا.. لا أدرى سوى أننى فى هذه اللحظة أنا هنا،وهو ما جعلنى أكثر رغبة فى الاستمتاع، وأكثر إقبالا على الحياة». أما المبهر والمدهش الأعظم فى حياتنا الثقافية والأدبية الأستاذ يحيى حقى وذلك بشهادة أغلب الذين عاصروه وعاشروه وتعاملوا معه. فلا يمكن أن تمر أى لحظات تأمل لكلامنا وصمتنا سواء كان بالفصحى أو العامية إلا ونجد ملاذا لدى يحيى حقى وكتاباته الغزيرة وبالتالى نتردد عليه دون تردد لأنه الأستاذ والمعلم الذى أعطى بكرم وسخاء واستمع بصبر وصدر رحب.. وكان عنوانا دائما للدهشة و«أنشودة للبساطة» .. و«خليها على الله». يحيى حقى فى مقال له بعنوان «الدهشة» ( نشرت فى «المساء» يوم 28 فبراير 1964) يشير الى أن الفنان يقابل الدهشة بفرح، .. فرحة الطفل بلعبة جديدة لم يكن قد رآها من قبل، تتضمن له أحجية أو لغزا أو سحرا أو جمالا لم يكن مألوفا من قبل. فدهشة الفنان بلقاء الحياة هى فرحة اللقاء لأول مرة، فرحة الاكتشاف، بل نمضى الى أبعد من هذا فنقول: إن الفنان قد يرى الشىء مرارا وتكرارا ولكنه مع ذلك سيراه فى كل مرة كأنه يراه لأول مرة، ففرحة اللقاء بهذا الشىء فى قلبه لا تفسد على التقادم، بل تظل طازجة، فالرجل يتناول التفاحة فيأكلها دون أن يلقى باله إليها، لا يعنيه منها الا طعمها أهو مز أم حلو، أهو مصاف للأشداق واللسان أم حرش، هى عنده حضور بديهى، طبيعي، مألوف. ولكن الفنان يتناولها بالدهشة المتضمنة لمعنى الفرح، يتأمل وان بدت عينه ساهمة شكلها وألوانها ويربطها بقدرة الخالق على الخلق فى عالم الجمال، ويدخلها من فوره فى نظام الوجود ..” ثم مشددا على أهمية وضرورة الدهشة يذكر فى موضع آخر: «إذا لم يصب الكاتب أو الشاعر بهذه الدهشة فان كلامه سيكون حتما مفقود النضارة. لينفخ فيه ما قدر فانه لن يدفئ قلب من يتلقاه» .. «لا فن إلا إذا كان وليد هذه الدهشة .. هى التى تجعل لقاء الحياة يجمع فى آن واحد بين نبض الفرح كأنه لقاء لأول مرة، وبين زجه فى نظام كأنه لغز عتيق كالدهر .. وهى مبعث هذا التوهج الخفى اللذيذ الذى يشيع بين السطور، ليس توهج لهب حارق، بل توهج الأحجار الكريمة، نور ولا نار». وبعد أن يذكر حقى أن «هذه الدهشة هى التى تفسح صدر الفنان فيتسع للكائنات جميعا ..» يشير:«أن هذه الدهشة الحبلى بالفرح والتوهج هى التى ستقود الفنان واعيا أو غير واع الى إلتزام القمم العالية، معانقة الصدق، الى التبشير بالطهر والخير والجمال دون غمس قلمه فى محبرة ملؤها نز الجراح، إلى تمجيد الإنسان بلا فخفخة، إلى الرثاء له بلا نهنهة، هى التى ستقوده إلى نبذ كل ما هو فج وغث، سمج وسقيم..» أن تكون قادرا على الدهشة وأن تكون راغبا فى الدهشة. هى نعمة لا بد أن «تعرف قيمتها» وتشكر الله عليها. وهى «تاج على رأسك» وأيضا «عرش فى قلبك» أنت يا من صاحبتك الدهشة فى كل خطوات حياتك. ونعم انها تاج لا يراه وعرش لا يعتليه الا كل من حافظ على دهشته وصار دائما مندهشا مدهشا ومنبهرا مبهرا. وفى كل الأحوال مع الدهشة تأتى بهجة الانطلاقة وتتنامى متعة الاكتشاف ويتوالد حب المعرفة وتحضنك سكينة الحكمة. إنها الخلطة السحرية والوصفة المطلوبة والمرجوة لتجديد الحياة لمن يعيش فيها .. وفى كل تفاصيلها. وفى هذا أيضا اسألوا المجرب ولا تسألوا الطبيب.