أمام البدايات غالبا ما يقف المرء متأملا وحائرا.. ودائما يسأل: الى أين سيأخذه هذا الطريق؟ وهل هذا الطريق تحديدا كان « الاختيارالأحسن»؟ خاصة أنه في كل الأحوال على المرء التحلي بالاصرار والتمسك بالمثابرة والتسلح بالعزيمة طالما أن الأفق في نهاية هذا الطريق يبدو ظاهرا بل واضحا للأعين. كما أن رغبة المرء في الوصول الى ما يراه الأفق المأمول كانت وستظل دائما «رحلة اكتشاف» و«مغامرة» لا يريد أبدا «التخلي عنها» أو «كبح جماحها» أو «تلجيمها». هكذا يتعلم الانسان من سنوات صباه وهكذا أيضا يعتاد ويتقدم ويتخبط وينطلق ويسقط .. ويقف من جديد ليكمل مشوار حياته. وفي المقابل فان النهايات مهما طال الزمن أو قصر في الوصول اليها، ومهما كانت طبيعة تلك النهايات .. «سعيدة» أم «مأساوية» فانها في أغلب الأحوال تبدو «مفاجئة» و«صادمة». وقد جاءت أفلام السينما لتكتب في نهاية رحلتنا معها كلمة «النهاية» وأحيانا انتهت مصحوبة ب«قبلة» ووصفت النهاية بأنها كانت «سعيدة».. ومع بعض الأفلام النهاية كانت «مفتوحة» وبالتالي لم تحسم حيرتنا ولم تعط جوابا شافيا لقلقنا تجاه ما حدث في الفيلم أو ما قد يحدث في حياتنا وفي واقعنا اليومي. وكما قال فرانز كافكا:«أنت تتصور أنك استنفدت كل امكاناتك، ولكن ها هي قوى جديدة تهرع نحوك، وهذا ما يسمى الحياة». وأمام هذه القوى الجديدة نتساءل بدهشة واستنكار من الذي قال أن الحياة «رواية متكررة» أو «فيلم شفناه قبل كده» ؟!
.....................
يعرض حاليا في دور العرض الأمريكية ومنذ أسابيع فيلم «سنوات الصبا» للمخرج الأمريكي ريتشارد لينكلايتر. وهو فيلم أثار انتباه النقاد ودفع بنقاشات بين عشاق السينما حول الفكرة والتناول والإخراج والتسلسل الدرامي في صنع فيلم يجسد ويعكس تطور الزمن ومن خلاله البشر. فيلم «سنوات الصبا» ومدته ساعتن و45 دقيقة تم تصويره على مدى 12 عاما (بدءا من عام 2002) ليلتقط وربما لكى يخلد أيضا اللحظات الحلوة والمرة في حياة صبي اسمه ميسون (ويلعب دوره ايلار كولتراين) كان في السادسة من عمره وصار في ال18 من عمره. وجميع أبطال الفيلم عاشوا السنوات ال12 مع الصبي والفيلم والمخرج الذي راودته هذه الفكرة «المجنونة» وأصر على ألا يتنازل عنها ويسعى لتحقيقها. وبالتالي ما نشاهده بعد كل هذه السنوات رحلة طويلة وشيقة من حيث الأيام والساعات والتجارب الانسانية والتفاعلات البشرية والتغييرات البيولوجية والنفسية المصاحبة لهذا الطفل الذي أصبح صبيا ثم شابا .. وذلك في حياته مع أمه وأخته ووالده الذي انفصل عن أمه وان كان احتفظ بتواصله ولقاءاته مع ميسون وأخته. «سنوات الصبا» يعرض الحياة بتفاصيلها من خلال عيون «ميسون» الطفل الذي يكبر أمام عيوننا وعلى الشاشة. وكما قيل دائما فإن الفن ليس فقط ما تقوله بل كيف تقول ما تقوله وهنا تتضح قدرة المخرج لينكلايتر (من مواليد عام 1960 بهيوستن في ولاية تكساس) على تجسيد المعنى وتشكيل المشهد الإنساني ببساطة وسلاسة بحيث نقف أمامه بانبهار واعجاب وتقدير للمخرج الذي حكى لنا ما حكاه وسرده بحب وعشق. وهو بالمناسبة المخرج وايضا المؤلف لهذا الفيلم وأيضا لأكثر من 15 فيلما. وهو القائل بأن «أى حكاية تريد أن تحكيها احكها بحجمها الصحيح».
ثم أمر آخر يجب ذكره. ألا يدفعنا لينكلايتر وعمله طوال 12 عاما من أجل الفكرة التي راودته ونمت في مخيلته الى التأمل والتفكير وأيضا الاعجاب والتقدير.. بينما نقرأ ونسمع كثيرا في عالمنا عن تباهي البعض من «صناع الأفلام» بسرعة انجازهم واتمامهم لفيلم في مدة زمنية قصيرة!!
ولا شك أن «سنوات الصبا» كمرحلة عمرية هي «سنوات التكوين». تلك السنوات التي نجني فيما بعد ثمارها أو نحصد فيما بعد ما نتج عنها من أحلام وكوابيس وطموحات واحباطات تشكل أو تشوه سنواتنا المقبلة، تلك السنوات التي تأتي مستقبلا مع الرجولة وما بعدها.. وصولا الى الشيخوخة. ورحلة الانسان في الحياة تشمل ما يحدث أو «يختمر» في «سنوات التكوين» ثم ما نفعله أو نعيشه أو نتعايشه فيما بعد في «سنوات التكويش».. وما قد تشهده تلك السنوات من تراكم في الخبرات والأموال والعلاقات الاجتماعية والأملاك والتجارب الانسانية معا.. ما قد نوصفه ب»حصاد العمر». بالمناسبة كانت مجلة «الهلال» العريقة في فترة رئاسة تحرير مصطفى نبيل المتميزة قد خصصت بابا شهريا اسمته «سنوات التكوين» حرصت فيه ومن خلال أقلام أسماء وأعلام في الفكر والفن والأدب أن تتعرف على بداياتهم وتجاربهم وسنوات التكوين لديهم.
واذا كان فيلم «سنوات الصبا» يدفعك الى تأمل كيف بدأت حياتك فان فيلم «الحياة ذاتها» من جانب آخر يثير لديك التساؤل اياه كيف يمكن أن تنتهي حياتك أو كيف تريد أو تفضل أن تنتهي حياتك. الفيلم التسجيلي «الحياة ذاتها» ومدته ساعتين يتعرض لحياة الناقد السينمائي الأشهر روجر ايبرت منذ البداية حتى النهاية. ايبرت كان ناقدا سينمائيا في صحيفة « شيكاجو صان تايمز» منذ عام 1967. كما أنه ولسنوات طويلة ومن خلال برنامج تليفزيوني ساهم في اختيار الأفلام التي يجب مشاهدتها .. وايبرت حصل على جائزة بوليتزر الشهيرة في كتابة النقد. والأهم أنه بأسلوب شيق وكتابة ممتعة عرف الأمريكيين على الموهوبين والمبدعين في عالم السينما، هؤلاء الذين تألقوا فيما بعد. كما أن ايبرت عرف الأمريكيين على السينما العالمية.وبالنسبة له فان الشئ الوحيد الذي كان يحبه ويعشقه أكثر من الأفلام كان الحياة ذاتها. و»الحياة ذاتها» عنوان سيرته الذاتية التي أصدرها عام 2011. وكان روجر ايبرت عاشقا للسينما والأفلام وعاشقا للحياة ذاتها وبأكملها وبكل تفاصيلها.. تلك التي عاشها حتى آخر يوم في حياته وقد توفى يوم 4 أبريل عام 2013 وكان في السبعين من عمره.والمعروف عن هذا الناقد السينمائي أو «العاشق السينمائي» انه صارع سرطان الغدة الدرقية وتبعاتها ولم يستسلم لها منذ عام 2002. وكما قيل خلال صراعه مع السرطان لقد كان ايبرت لديه الكثير ليقوله الا أن لم يكن لديه الصوت ليتكلم ويقول ما لديه. فجاء «كيبورد» الكمبيوتر أو «اللابتوت» ليساعده ويقف بجانبه مترجما أفكاره ومشاعره وأحاسيسه الى كلمات مكتوبة على الشاشة ومن ثم على «الموقع الالكتروني» وأيضا محولا كلماته المكتوبة الى كلمات مسموعة آليا. وكان روجر ايبرت قد أنهى ما كتب في مدونته «البلوج» قبل يومين من وفاته بالقول: «في هذا اليوم من التفكير والتأمل أقول مرة أخرى شكرا لاصطحابك لي في هذه الرحلة.وسوف أرااك في الأفلام». وهو الذي كان قد كتب من قبل « أعتقد أن التعاطف مع الآخرين هو أهم قيمة لحضارة ما» وأيضا قال «كل فيلما عظيما يجب أن يبدو أنه فيلم جديد مع كل مرة تشاهده» وأخيرا «عقلك ربما يكون مرتبكا الا أن مشاعرك لن تكذب عليك أبدا»
.....................
ولاشك أن القضية الحيوية بالنسبة لي كانت ومازالت دائما بماذا سأخرج من هذا الفيلم وأن أرى ما حركه في داخلي هذا الكتاب وما أيقظته في نفسي تلك الموسيقى أو الأغنية أو اللوحة الفنية. لقد اعتدنا تكرار القول «ما هي الدروس المستفادة من هذا .. أو ذاك» الا أن الدرس الأكبر دائما يأتي من الشاعرة الأمريكية مايا أنجيلو عندما تقول: «لقد تعلمت أن الناس قد ينسون ما قلته لهم وقد ينسون ما فعلته لهم الا أنهم لن ينسوا أبدا ما أيقظته لديهم من مشاعر وما تركت لديهم من انطباع او تأثير في نفوسهم»
ولولا مشاهدة فيلم «سنوات الصبا» ومن قبله متابعة حياة روجر إيبرت من خلال الفيلم التسجيلي «الحياة ذاتها» لما كانت هذه السرحة التي عشتها معك أو هذه الالتفاتة لتفاصيل نعيشها في حياتنا اليومية ورغم ذلك غالبا لا نلتفت اليها أو لا ننتبه لها وأحيانا لا نعرف قيمتها أو لا ندرك أهميتها. ولهذا أفعل ما أفعل وأكتب ما أكتب لك .. وأقول لك ما أقوله لك.
وقبل كل هذا أبتعد لكى أرى المشهد بشكل أشمل وأعمق وغالبا بشكل أفضل أيضا. وأبتعد ولو قليلا وأبتعد ولو لفترة وجيزة لكى أقترب من جديد وربما لكى أقترب أكثر فأكثر ولكن بروح جديدة ورغبة متجددة في الاقتراب والتعرف والتعارف والتواصل و«السلام مع النفس». ونعم انها عملية شاقة وممتعة معا. كما انها عملية مستمرة ودائمة لا تعترف بالأحكام المسبقة أو الأحكام المتسرعة. وفي نهاية المطاف هذه هي رحلتنا مع الدنيا أو هكذا يجب أن تكون رحلتنا وحياتنا ذاتها.. حياتنا بأكملها .. بمن فيها وما فيها. حياتنا بأيامها ولياليها ولحظاتها الحلوة والمرة مهما كانت معنا سواء لفترة قصيرة .. أم طويلة!!.