روجر إيبرت "Roger Ebert) ناقد سينمائي أمريكي حرصت دائماً علي قراءة نقده للأفلام ضمن مجموعة النقاد الكبار الذين يمكن أن تقرأ كتاباتهم علي شبكة الإنترنت. ومن وجهة نظري كناقدة أري من الضروري أن نقرأ لنقاد ينتمون إلي نفس ثقافة البلد المنتجة للفيلم. إلي جانب أشياء أخري تتعلق بتكوين وتعليم صانعه. من خلال كتابات هؤلاء يمكن التعرف علي الدلالات الخاصة وأحياناً الحقبة المرتبطة ببعض التفاصيل. أيضاً بخصوصية بعض ردود الأفعال لدي الشخصيات حتي نفهم هذه الأمور من خلال السياق الفكري والاجتماعي الثقافي الذي يشكل الدوافع غير المرئية. ويمهد الطريق لفهم مكامن الاختلاف في انساق القيم التي تحكم وتشكل الآراء النقدية حول العمل السينمائي. وكذلك تفسير خصوصية التعبير بلغة الجسد وباللهجة الدارجة. والمهم التعرف علي زاوية النظر نحو القضايا السياسية المهمة التي تشغل كل واحد حسب موقفه وموقعه من هذه القضايا. خصوصاً القضايا التي يكون العرب طرفاً فيها مثل "الحرب علي الإرهاب" والحرب في العراق والموقف من الإسلام والصراع بين الغرب والشرق. والجماعات المتطرفة. و.. الخ.. لن يعرف هذا الناقد. الذي لا يعرفني ولم يسمع عني مقدار الحزن حين قرأت مقاله الأخير الذي نشر بعد يومين فقط من رحيله في ابريل الماضي 2013 عن عمر يناهز سبعين عاماً. كنت أعرف أنه مصاب بالسرطان ولكنه ظل يكتب حتي آخر أيام عمره! المقال الأخير تصادف أن يكون عن فيلم شاهدته لتوي بعنوان "To the wonder) بمعني "إلي حيث الدهشة" أو "إلي العجب" في اشارة إلي موقع طبيعي يتسم بالروعة والرصانة والجمال الروحي في فرنسا علي الشاطئ والفيلم لمخرج أمريكي مهم جداً غالباً ما يطرح من خلال أفلامه غير العادية تحدياً أمام الناقد. ذلك لأنه يتناول قضايا كبري تتعلق بالحياة والموت والايمان والخالق والكون والعلاقة مع الله.. قضايا مركبة وميتافزيقية وبلغة جمالية فريدة تلعب فيها الطبيعة عنصراً تعبيرياً وموضوعياً أصيلاً حيث المشهد الطبيعي يعتبر جزءاً عضوياً لا يتجزأ في بنية الفيلم الذهنية. كذلك يمثل "المونولوج" وصوت الراوي عنصراً آخر من عناصر التعبير السمعية التي تعلق علي الصورة المرئية وتلازمها. مخرج الفيلم تيرنس مالك "70 سنة" والفيلم موضوع النقاش عرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان فنيسيا "2012" ولم يعرض بعد في القاهرة وقد وفره لي الصديق الدكتور رفيق الصبان الذي اعتاد أن يمنحنا الأفلام قبل عرضها في مصر ولا يكشف أبداً عن مصادر حصوله المبكر عليها. "إلي حيث الدهشة" نموذج للفيلم "الهروبي" ولكن بعيداً تماماً عن التعريف الكلاسيكي لهذه النوعية. "هروبي" بمعني أنه يستوعبك بالكامل ويجرك ذهنياً إلي التفكير في لغته وأسلوبه وموضوعه الذي عادة ما يكون محيراً وجدلياً وبالذات فيلميه الأخيرين حيث الإيغال أكثر في الأبعاد الروحية والميتافزيقية لكثير من الظواهر في حياتنا. اذن هو "هروبي" بالنسبة لي شخصياً حيث لم يعد هناك حالياً مكان تسكن إليه اللهم إلا مقعد أمام شاشة لرؤية فيلم بهذا الثراء البصري والموضوعي. شخصيات الفيلم محدودة نراها فيل مواقف حياتية مهمة وفاصلة. امرأة "مارينا" مطلقة وأم لصبية "تاتيانا" عمرها عشر سنوات. والفيلم يبدأ بصوتها الحالم. العاشق والكاشف عن حالة الوجد التي تحياها في تلك اللحظة مع حبيبها "نيل" بن افلك الشاب الأمريكي الذي نفهم ضمناً أنه في رحلة قصيرة إلي باريس. الاثنان غارقان في بحر من الحنان ومن التفاهم والانطلاق.. الحوار قصير جداً والمشهد علي الساحل بالقرب من كاتدرائية تحتل موقعاً بارزاً وسط منطقة تتميز بجمال رباني هادئ وفاتن والممثلات اولجا كيورلنكو وبن افلك رائعان. الكاتدرائية بهذا الموقع الفريد تظهر مرة ثانية في نهاية الفيلم بعد رحلة من الصعود والهبوط مع أمواج المشاعر العاطفية والروحية ومن السأم أيضاً والفتور البداية والنهاية تتحدد معانيها من خلال سياق نفسي وعاطفي ووجداني معاكس تماماً.. فالفارق بين البداية والنهاية كبير. فارق بين اللقاء العاطفي المشبع بالارتواء والدفء وبين الفراق الغارق في البرودة. بين التلاحم عاطفياً ونفسياً وبين العزلة ومشاعر الوحدة.. وهناك دائماً المعادل البصري الفريد للمعاني والمحتوي الموضوعي. "مارينا" تحت تأثير الحب تقرر السفر مع ابنتها إلي الولاياتالمتحدة مع "نيل".. الجميع يصلون إلي اوكلاهوما حيث الطبيعة من قماشة أخري. مروجة مسطحة. وأناس نسبة منهم فقراء يتحدثون لغة ليست مفهومة. في اوكلاهوما ليتسرب بلا سبب ظاهر الملل وتنال البرودة العاطفية من العلاقة. وتحاصر حالة الحماس الأول.. الابنة الصغيرة تقرر العودة والعيش مع والدها. والأم بدورها تعود ولكنها بعد فترة تكتشف أن باريس لا تحقق لها السكينة ولا توفر العمل فتقرر العودة إلي حيث يسكن "نيل" بينما "نيل" الحبيب لم يعد ذلك الذي رأيناه أول مرة مع "مارينا" فليس هو الشاب المثالي الذي حملها إلي سماء عالية وأخرجها من برودة الوحدة إلي دفء العشق. فقد انتاب الملل بدوره وعاد إلي ماضيه وذكرياته وفقاته الأمريكية التي عرفها إبان فترة الطفولة.. راح يجدد العلاقة القديمة. بينما العلاقة العاطفية المثالية التي خلناها أبدية بدأت تخبو. الصعود والهبوط في المشاعر لا تبدو له دوافع مفهومة. وفوق هذه الأرض نفسها يعيش احدي شخصيات العمل المهمة.. أنه القسيس الكاثوليكي "كونيتانا" كافييه باردم الذي يعتبر بدوره أزمة روحية. يعيد التفكير في علاقته بالمسيح يتأمل هذه العلاقة من جديد وكأنها علاقة عاطفية مهددة بدورها. ولم تعد باليقين الراسخ. مونولوج القسيس الذي نفهم انه يحدث المسيح "لم أعد أشعر بوجودك" يكشف عن هذا التمزق الذي اصابه ولكنه من خلال رعاية المرضي والبؤساء والمحتاجين يستعيد ثباته الروحي وكذلك يستعيد "نيل" قدرته علي الغفران. ويغفر ل "مارينا" ذلتها مع الرجل الذي اقامت معه علاقة حسية عابرة وهذه العلاقة أيضاً ليست مفهومة! المخرج تيرنس مالك يطرح اسئلة كثيرة من خلال عدة أزمات في علاقات الحب والفراق وفي العلاقة مع الذاكرة. ومع "السماء" ويعبر عن هذه الأزمات بمعادل موضوعي ووجداني من خلال التكوين الجمال التشكيلي للمنظر الطبيعي وهو يذكرنا في هذا العمل بفيلمه السابق مباشرة "شجرة الحياة" الذي عرض في مهرجان كان قبل الأخير.. الأزمة التي يعالجها المخرج برهانه وأسلوب تأملي هادئ النبرة جداً. تبدأ مع المشاهد الأولي أقرب إلي الوشوشة. أنها أزمة تواصل عميق عاطفي وذهني. وامكانيات القدرة علي الابقاء علي درجة حرارة المشاعر الإنسانية والتواصل المقصود بين الإنسان والإنسان في حكايات الحب والخيانة وفي العلاقة مع ماضي الإنسان وحاضره وبين عشقه للحياة وتوقه إلي النجاة والوصول إلي درجة التسامي في العلاقة مع الرب.. والأزمة التي يكشف عنها هذا العمل الناعم جداً تطول مقومات الإنسان من حيث كونه إنساناً. أعني قلبه وروحه وتوقه الأصيل إلي الحرية والانطلاق.. في بعض المشاهد يعبر المخرج عن هذا الحنين الهائل إلي الحرية وذلك من خلال سلوك بطلته داخل ممرات السوبر ماركت المليئة بالبضائع الاستهلاكية.. أيضاً الأزمن بين الإنسان والمدينة التي اعتاد أن يسكن فيها ويسكن إليها ثم فجأة لا يجد فيها مكاناً.. المشهد الأخير لا يصل إلي شاطئ. القسيس في هذا الفيلم يبدو شخصية حائرة وحيدة ومهزوزة اليقين وإن استعاد أمنه الداخلي بالفعل والعطاء الإنساني الخير. الجميع في هذا الفيلم البديع لا يصل إلي اجابة للأسئلة المحيرة حول ماهية الحب. وما جدوي الإيمان من دون يقين. أسئلة رومانسية وأخري روحية وتداخل بين الاثنين شاعري ومثير للجدل. يري الناقد روجر ايبرت في آخر ما كتبه عن هذا المخرج: "آن تيرنس مالك" Terrence Malek يعتبر بكل تأكيد واحداً من أكثر صناع الفيلم رومانسية وروحانية.. وهذا أكيد وموثق عبر جميع أعماله.