كتب الناقد الأمريكي روجر ايبرت عن فيلم "شجرة الحياة" الذي فاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان كان السينمائي الدولي الذي انتهي يوم 22 مايو الماضي يقول: بعض الأفلام تضعف قدرتنا وتنتقص من قدرنا وتدغدغ حواسنا وتطرق رءوسنا بقصص إثارية رثة رديئة!! وأفلام أخري قليلة تشيع فينا الدهشة والاعجاب والتساؤل عبر تجارب انسانية حياتية ومثل هذه اعتبرها صلاة ولكنها ليست صلاة لأي شخص أو لأي شيء وانما صلاة لكل واحد وكل شيء. والصلاة التي تستجدي مطالب هي في اعتقادي ليست ذات قيمة لأن ما سيكون فسوف يكون ولكنني أكن تقديرا كبيرا للصلاة حين نقف أمام حافة البحر. أو تحت شجرة أو أنت تشم عبق زهرة أو تحب شخصا أو تفعل شيئا طيبا فهذه الصلوات تقوي الوجود وتخطفه بعيدا عن الملل والروتين الأجوف الخالي من المهني. وعن الفيلم يقول الناقد الذي أحترمه فعلا وأزور موقعه من آن لآخر واقتني بعض كتبه: يقول عن شجرة الحياة فيلم ذو طموح واسع أو تواضع جم. طموحه لا يقبل بأقل من احتواء الوجود كله والنظر اليه عبر أطياف من نماذج حياتية لعدد قليل من الشخصيات.. فالفيلم الوحيد الآخر الذي يمتلك نفس القدر من الطموح فيلم "اوديسا الحياة 2001" للمخرج الأمريكي ستانلي كوبريك وان كان يفتقد قدرة مخرج شجرة الحياة علي اشاعة الشعور الانساني. يقول: مرت فترة شهدت مخرجين عديدين لديهم طموحات ليست أقل من صنع تحف سينمائية ولكن الآن لا يوجد من صنف صناع السينما هؤلاء غير نفر قليل منهم يترنس مالك الذي ظل أمينا وحريصا علي ابقاء هذا الأمل منذ أن بدأ أول أفلامه ¢Badlands" عام 1973 ويقول ايبرت الذي وجد في الفيلم انعكاسا كبيرا لحياته وذكرياته هو الشخصية: لست أعرف متي وفي أي موقع تواصل الفيلم علي نحو مباشر مع تجربتي الشخصية ولكن وبطريقة ما فإن الأحداث الرئيسية في فيلم "شجرة الحياة" تصور الزمان والمكان اللذين عشت فيهما وان الصبيان الذين ظهروا هم أنا. ولو كنت أمتلك موهبة "ماليك" وشرعت في عمل فيلم عن سيرتي الشخصية فسوف يكون شبيها جدا بهذا العمل. فالمشاهد التي ظهرت في المدينة في وسط أمريكا والتي تصور حياة الطفولة حيث تتدفق الحياة منها وإليها عبر نوافذ مفتوحة تتماثل مع ما تختزنه ذاكرتي الالتزام والتسامح. الأب في الفيلم رجل صارم منظم والأم لديها طاقة من التسامح وهناك أيام الصيف الطويلة المليئة باللعب والتراخي وهناك أيضا أسئلة ملحة مسكوت عنها حول معاني الأشياء وهناك الأطفال الثلاثة أبناء أسرة "اوبراين" الذين لونت الشمس وجوههم بالحمرة يجرون أقدامهم من جراء اللعب وهناك أسرار المراهقة التي تلوح بها بعض التلميحات وتكشف عن أشواق عظيمة إلي أن يكونوا كبارا وأن يكتشفوا ذواتهم. لقد حرك الفيلم نفسه أشواق الناقد وحرك ذكرياته عن ذلك الزمان وذاك المكان وأثارت شجونه المروج الخضراء الواسعة والمدينة التي كانت تسكن ذاكرته كان يراها عبر عدسات ذات زوايا منفرجة والبيوت التي لم تكن تغلق أبوابها أبدا.. وعن الأمهات والنوافذ حيث تطمئن عبرها الأمهات علي أطفالهن وعن حرارة الصيف والتراتيل. ردود فعل موحدة هذا الإحساس الغامر بالحنين لمرحلة يبعثها الفيلم "الخمسينيات من القرن الماضي" والتشبع بتفاصيل حياة في مدينة أمريكية اختلفت أجواؤها بفعل الزمن وما طرأ علي أنماط العيش وحقق للناقد الأمريكي متعة لأسباب ليست فقط شخصية وانما لأن العمل الفني المتكامل والصادق من شأنه أن يحقق نفس الاستجابة. لقد حقق فيلم "شجرة الحياة" نجاحا كبيرا جدا أثناء مهرجان كان. وفي المرات التي عرض فيها كانت الصالة تمتليء قبل بدء العرض بنصف ساعة أو أكثر.. والطوابير تطول إلي ما لا نهاية شغفا وأملا في حجز مكان.. وجانب كبير من المتعة يعود إلي العامل الانساني وإلي قدرة المتلقي أيا كانت جنسيته علي التفاعل والدخول بكامل شعوره إلي حيث تمضي الأحداث فوق الشاشة وإلي قدرة صانع الفيلم نفسه علي تصوير أشياء الحياة والإمساك بدقائق التجربة الانسانية في سريانها في الزمان والمكان. يقول الناقد الأمريكي ان الفيلم يمثل بوضوح حالة نادرة من التعاون القائم علي الحب بين المخرج ومصمم الانتاج وهو هنا "جاك فسك".. ويقول ان "فسك" رجل في مثل عمري وقد ولد وتربي في مدينة داون ستريت بولاية الينوي وهو يعرف بالطبع انه في فترة الأربعينيات كانت الأكواب الطويلة المصنوعة من الألومنيوم تستخدم لشراب الليمون والشاي المثلج. إذن فإن كل التفاصيل التي ظهرت في الفيلم صحيحة أيضا وكذلك تصميماته التي تناسب حياة كل شخصية. وعن تصميم الشخصيات كما حركها المخرج يقول: من الأشياء الممتازة ان "مالك malick" خلق الأبوين "اوبريان" وأطفالهما الثلاثة من دون حبكة واضحة وانما صور أيام الصيف في تدفقها وعفويتها دون تخطيط ومن دون أن يفصح عن مكنوناتها وما نلتقطه من كلمات يصدر عن أناس يتحدثون لبعضهم البعض. ان الحياة اليومية التي يرسمها "مالك" تأتي بإلهام من ذاكرته وذكرياتها عن مدينة واكو waco في ولاية تكساس التي يحدها شيئان شاسعان هما المكان والزمان بالإضافة إلي شيء آخر هو الطاقة الروحية العظيمة. في شجرة الحياة تبعث المشاهد إحساسا بالجلال وتوحي بفكرة "الميلاد" والاتساع الهائل للكون وظهور الحياة علي مستوي ميكروسكوبي ضئيل ونشوء الكائنات.. وهذه العملية تقودنا إلي اللحظة الراهنة إلينا جميعا فقد خلقنا في خضم انفجار كوني هائل وعبر ملايين السنين لم نعرف عنها شيئا وفي الفيلم نحن نري الطبيعة في عطائها وأخذها. أحد الصبيان الثلاثة في اسرة "اوبريان" مات ورأينا أيضا كيف تعمل مع الزمن. فالشخصيات تكبر وتمضي بها الحياة لكن ماذا بعد ذلك؟ الفيلم يوفر عبر نسيجه "رؤية" لما بعد الحياة.. حين يظهر مشهد طبيعي واسع يمر فوقه أناس يتسمون بالهدوء وفي وقار يتعرفون علي بعضهم البعض ويلقون التحية ومن اكتمال الزمن يبدو كل شيء مفهوماً. الفيلم من الأعمال التي يفهمها بقدر من الحب والتقدير النقاد الغربيون وطبعا ناقد أمريكي عاش في نفس أجواء ومكان وزمان الفيلم وأبطاله حتي انه يري نفسه في الأبناء الثلاثة للأسرة التي ظهرت فيه.. ولكنه رغم ذلك يندرج تحت الأعمال المثيرة للجدل لأنه يعالج موضوعا كونيا أكبر من الأسرة ويتجاوز الزمان والمكان والمدينة إلي فكرة النشوء والتطور وأصل الكون. وقد سبق أن أشرت إلي ان كثيراً من الانتاج الأوروبي ونسبة من الأفلام الأمريكية تحتاج إلي مستوي من التلقي يتجاوز مفهوم الفرجة السلبية الي التفاعل الفكري والثقافي وحتي الحضاري أيضا ومن هنا يجد بعض الموزعين المحليين عندنا صعوبة كبيرة في جلب هذه الأفلام لأن مجرد توزيعها يعني مغامرة مادية فضلا عن الإحباط الذي ينتج عن الفشل. عن المخرج تيرنس مالك مخرج "شجرة الحياة" حقا متفرد بأسلوبه واختياراته للموضوعات وقد بدأ بفيلم "بادلاندس" 1973 الذي اعتبره النقاد بداية راسخة وقوية أشبه ببداية المخرج اورسون ويلز صانع فيلم "المواطن كين".. كلاهما امتلك موقفا رصينا ورافضا للظروف المحيطة بالصناعة وأفلامه القليلة تعتبر من التجارب المحترمة والبديعة فنيا ومنها "أيام السماء" و"خيط أحمر رفيع" وهو أجمل أفلام الحرب التي رأيتها فهو من "النخبة" في مجال الاخراج ليس فقط في الولاياتالمتحدة وانما في إطار السينما العالمية.. وهو من مواليد مدينة "واكو" عام .1943 الصورة من فيلم "tree of life"