من الخصائص التى يتسم بها مهرجان الخليج السينمائى تلك الندوات الليلية التى تعقد يوميا بعد منتصف الليل ويتجمع فيها ضيوف ومنظمو المهرجان ولجان تحكيمه، حيث تتم مناقشة موضوع بعينه كل ليلة. هذا العام تم عقد الندوة السنوية للجنة تحكيم المهرجان تحت اسم «مصاصو الدماء» فى إشارة إلى الصورة التى غالبا ما تلتصق بلجان التحكيم التى عادة ما تأتى على عكس توقعات المتابعين والنقاد وصناع الأفلام. شارك فى ندوة هذا العام المخرج المصرى مجدى أحمد على والمخرج العراقى قيس الزبيدى والمخرج البحرينى بسام الزوادى والناقد اللبنانى هوفيك حبشيان والإسبانية مونتسيرات جيوبو فالس مديرة مهرجان هويسكا، وكان لى شرف إدارة هذه الندوة.. ولا أخفى أننى كنت راغبا فى إدارة هذه الندوة بالذات لما تتمتع به من شعبية واهتمام وما تحتويه من مناقشات وجدل على الرغم من أنها تبدأ كل مرة بارتباك سببه عدم رغبة اللجنة فى إفشاء النتائج ورغبة صناع الأفلام فى معرفة الكيفية التى اختيرت بها النتائج. فيلم المتصل حتى الآن - ورغم أننى شاركت فى العديد من لجان التحكيم - إلا أننى لا أدرى الكيفية التى يتفق بها عدد من الناس على اختيار أفضل أو أسوأ الأفلام.. لأنه لا يجتمع اثنان يتحدثان عن السينما إلا ويكون الخلاف حول تقييم الأفلام ثالثهما. حاول المخرج قيس الزبيدى أن يفند هذا الرأى المتشائم فى نتائج لجان التحكيم، خاصة فى المهرجانات العربية، وقال إن لجنته كان عملها سهلا لدرجة أن الأفلام هى التى ذهبت إلى الجوائز وليس العكس. تلاعب بالألفاظ لم أفهم منه سوى أن اللجنة لم تختلف كثيرا وأن معظم أو كل الجوائز اختيرت بالإجماع.. مع ذلك فعندما ظهرت النتيجة الختامية فى اليوم التالى سرعان ما تبين أن عددا كبيرا من المتابعين والمشاركين غير مرتاحين لاختيارات اللجنة، والبعض رأى أن الزبيدى انحاز إلى العراق بشكل سافر، وأن اللجنة استبعدت أفلاما مهمة حازت إعجاب معظم المتخصصين والمشاهدين العاديين. الفائزون العراق اكتسحت الجوائز بشكل بدا فيه مهرجان الخليج وكأنه مسابقة محلية للأفلام العراقية.. وذلك يعود لعدة أسباب غير المجاملة المحتملة من لجنة التحكيم: العراق لديها تاريخ سينمائى معقول بالنسبة لبلاد الخليج الأخرى، وبعد الحرب أصبحت مجالا خصبا لصنع الأفلام سواء من قبل السينمائيين الأجانب أو العراقيين. العراق أيضا بلد طارد أو مصدر للبشر على عكس بلاد الخليج الأخرى التى تستورد البشر.. وقد أدى هذا إلى وجود مئات الآلاف من العراقيين المهاجرين واللاجئين سياسيا فى كل دول العالم.. وطبعا ما جرى فى العراق أغرى هؤلاء وأبناءهم وكل من حمل كاميرا فى حياته للذهاب إلى العراق لعمل فيلم.. طبعا يخرج من بين هؤلاء مواهب يحترفون المهنة بحكم تعلمهم فى الغرب أكثر من السينمائيين القلائل الذين يعلمون أنفسهم ويحفرون الصخر فى بيئاتهم المعادية للسينما. نجوم الغانم من الأفلام الفائزة التى نالت استحسانا كبيرا فى مجال الأفلام الوثائقية فيلم «حمامة» من إخراج السينمائية والأديبة الإماراتية نجوم الغانم. «حمامة» يصور حياة عرافة أو ساحرة يقال إنها تعرف الغيب وتشفى الأمراض وتحل المشاكل المستعصية. وبجانب الغموض والإثارة اللذين يحيطان بحياة وموهبة هذا النوع من الناس، فإن حياة السيدة تثير التعاطف والشفقة عليها أكثر من زبائنها لأنها هى الساحرة لا تستطيع أن تشفى نفسها من الأمراض الكثيرة التى أصابتها ولا من مصائب القدر التى ضربت أسرتها! «حمامة» فاز بالجائزة الأولى لأفضل فيلم وثائقى.. وهو يستحق جائزة بالتأكيد. نفس الشىء ينطبق على الفيلم الإماراتى الروائى القصير «سبيل» للمخرج خالد المحمود. الفيلم منح الجائزة الأولى بالإضافة إلى جائزة خاصة للسيناريو الذى كتبه محمد حسن أحمد. مقداد الكوت يروى الفيلم قصة أخوين فقيرين يرعيان أمهما المريضة فى مسكن متهالك على حافة الصحراء. يزرعان بعض الخضروات ويذهبان لبيعها لركاب السيارات المارة على الطريق... وعندما لا يشترى أحد يحولان علبة مياه غازية إلى كرة ويلعبان بها فى محاولة لملء حياتهما البائسة المملة. الفيلم يتسم بتصوير جيد ولغة سينمائية ومونتاج بليغان.. وهو يستحق جائزة بالتأكيد. من الأفلام الروائية القصيرة المميزة أيضا فيلم «فريم» للمخرج العراقى لؤى فاضل، وهو يحتوى على فكرة مبتكرة حول مصور فوتوغرافى يلتقط صورا لبعض المارة.. وكل منهم يتحدث للكاميرا قليلا عن شخصيته وحياته. يبدو الفيلم وثائقيا تماما ولكنه مصنوع بالكامل.. وهذه الخدعة لم تكن لتتم بدون ممثلين طبيعيين ومخرج يعرف كيف يوجه ممثليه بتمكن. أعجب شىء أن اللجنة منحت خمسة جوائز وخمسة شهادات تقدير فى مسابقة الفيلم الروائى القصير ليس من بينها إشارة واحدة لأفضل فيلم فى المهرجان فى كل المسابقات - فى اعتقادى - وهو فيلم «عطسة» للمخرج الكويتى مقداد الكوت. خالد محمود المظلومون «عطسة» مأخوذ عن قصة قصيرة مشهورة للأديب الروسى أنطون تشيكوف الذى عاش فى زمن الإمبراطورية الروسية الإقطاعية قبل قيام الثورة الشيوعية. تدور هذه القصة - لمن لم يقرأها - حول موظف ينتمى للطبقة الوسطى الدنيا - يمكن أن تقول أنه «أفندى» وفقا لألقاب مصر الملكية - يذهب إلى الأوبرا ويعطس على أحد الأشخاص ليكتشف أنه رئيس الشركة التى يعمل بها - باشا يعنى - فيصاب بالرعب من أن يسىء الرجل فهمه ويتصور أنه عطس عليه متعمدا، ويحاول الاعتذار لكن الرجل المتعالى المشغول بعظائم الأمور وعظماء القوم يقبل الاعتذار بلامبالاة، مما يحول حياة الموظف الصغير إلى جحيم من الشعور بالذنب، فيذهب إلى بيت المدير ويحاول أن يعتذر مرة أخرى فينهره الرجل ويطرده خارجا مما يؤدى إلى أن يعود الرجل إلى منزله حزينا ويموت. براعة فيلم «عطسة» أنه نقل القصة إلى الكويت المعاصرة، واستبدل المدير بواحد من سادة البلد وسكانها الأصليين كما استبدل الموظف بمهاجر هندى فقير، يعطس على المدير أثناء الصلاة فى الجامع، وينتهى ميتا فى مكتب المدير نتيجة رعبه من العقاب! بجانب النقد الاجتماعى المبطن واللاذع لنمط الحياة فى الخليج والتفاوت الطبقى والإنسانى الرهيب بين الأقلية من السكان الأصليين والعمالة الأجنبية الوافدة، فإن الفيلم يمتاز بلغة سينمائية بديعة وسيناريو محكم يمزج بين المأساوى والكوميدى بشكل بالغ التأثير. فيلم سبيل فى مجال الأفلام الوثائقية هناك فيلمان تعرضا للظلم الشديد وهما الفيلم الكويتى «ريتشارد الثالث: شخصية عربية مهمة جدا» للمخرجين شاكر أبل وتيم لانجفورد، والفيلم الإيرانى «إيران: الجنوب الغربى» للمخرج محمد رضا فرطوسى. «ريتشارد الثالث» يصور معاناة فرقة مسرحية كويتية يشارك فيها ممثلون من أنحاء العالم العربى يقدمون معالجة معربة لمسرحية شكسبير الشهيرة عن الملك المستبد المريض نفسيا وبدنيا ريتشارد الثالث، ويحتوى الفيلم على نقد لاذع للبلاد العربية التى تكره المسرح والمعارضة السياسية. «إيران: الجنوب الغربى» يتناول مشكلة سكان منطقة الأهوار فى جنوب غرب إيرانوجنوب العراق التى تعد من أقدم مناطق الحضارة الإنسانية وأكثرها جمالا وخصوبة ولكنها تعرضت للتقلص والتجريف والتلاشى على يد كل من الحكومتين الإيرانية والعراقية بسبب حمى التنقيب عن البترول وتجفيف المياه مما قضى على حياة كاملة بسكانها. الفيلم يمزج بين الموضوعية الصحفية فى التناول وبين تصوير حياة القلة الباقية من سكان الأهوار وحياتهم اليومية ومعاناتهم من أجل البقاء فى قالب يمد شعرة دقيقة بين الريبورتاج التليفزيونى وبين الفيلم السينمائى ويوفر كلا من المعلومة والرقم والعواطف والمشاعر الجياشة. ندوة لجنة التحكيم خارج المسابقة فيلم مصرى واحد شهده المهرجان هو الفيلم الروائى الطويل «حاوى» للمخرج إبراهيم البطوط فى قسم «العرض الأول فى الإمارات». الفيلم حاصل على دعم من مهرجان دبى بجانب جهات أخرى وهو أول عمل للبطوط منذ فيلمه الشهير «عين شمس»، وقد نفذه بنفس الطريقة التى تعتمد على الارتجال وإضفاء الصبغة الطبيعية على الأحداث والأداء.. ولكن ثمة شىء مفقود هنا... أو بالأحرى شىء مضاف وهو رغبة البطوط فى تقديم عمل أكثر تقليدية وتجارية، وقد أدى هذا إلى إفساد التركيبة بعض الشىء. فيلم عطسة من الأفلام التى حظيت باهتمام فى المهرجان أيضا الفيلم الروائى الطويل «المتصل»، الذى عرض فى برنامج «العرض الأول فى الشرق الأوسط». سبب الاهتمام أن الفيلم يحمل الجنسية الإماراتية بجانب المملكة المتحدة وبورتوريكو. تركيبة غريبة، ولكن هذا هو حال كثير من الأفلام هذه الأيام. السبب أن إحدى الشركات المشاركة فى الإنتاج تملكها الإماراتيةالشابة أمينة بنت خليفة ديسمال، وهى نموذج لجيل جديد من الشباب الإماراتيين المتعلمين فى أوروبا وأمريكا تعليما راقيا، والذين يسعون إلى لعب دور فى نقل بلادهم إلى مصاف العالم المعاصر. «المتصل» من إخراج البريطانى ماثيو باركهل وهو مجرد فيلم رعب تقليدى منفذ جيدا «على المازورة» المعروفة لأفلام الرعب، وليس لأحداثه صلة بالإمارات، ولكن دخول مجال الإنتاج العالمى حلم يراود كل بلاد الخليج.. ومهرجان الخليج.