«الكبار يموتون .. والصغار ينسون» بهذا القول الصاعق والصادم يري من يسخر من ذاكرة الأفراد أو يقلل من شأن إرادة الشعوب ورغبتها في حياة أفضل أن العملية محسومة وأن ما يسمي ب«القضية»، إن عاجلا، أو آجلا سيتم دفنها. ولكن عفواً، فكل يوم هناك صغير يولد ليصرخ ويتذكر ويذكر .. ويرفع راية الحياة والاستمرار. و«الحلم هو الآتي» هكذا قال الشاعر أمل دنقل وأضاف «لهذا أنا مع الآتي ضد الواقع ومع المستقبل ضد الحاضر، وحتي لو تحققت في الواقع الآتي أحلامي فلن أرضي بالحلم الذي تحقق ، بل سأحلم بأشياء أكثر«. هكذا كانت ومازالت دعوة «لا تصالح» وعدم الاستسلام والانصياع لمتطلبات الزمن، والبحث الدائم عن الحلم. و«بالتأكيد أؤمن بما فعلته بالأمس وما أفعله اليوم وأنا ألون صفحات الدفاتر ومعها حياة الأطفال» جاءت كلمات الصديقة سارا مدرسة الرسم وهي تتنقل كالفراشة بين زهور بشرية تتفتح أمام عينيها ولها أجنحة لتطير وتنطلق. إنه ربيع إنساني حي وجميل .. ومتجدد ،مهما كانت بشاعة النشرات الإخبارية وحسابات المنطق! وسواء كان غضب الطبيعة أوفلنقل «حيويتها «وهي «تعطس» بحمم براكينها أو غبارها.. أو كانت حكايات البشر تلك التي «تستخبي» في الصفحات الداخلية وغالبا لا تلفت الأنظار فإن الحياة بتفاصيلها الصغيرة والمنمنمة تضع أمامنا آفاقا أرحب وأعمق وأجمل لنا ولأولادنا وأحفادنا. فطالما نحن أحياء وطالما لنا حلم ونري بأعيننا «والأهم نري بقلوبنا» ما كان ومازال في الذاكرة فالحياة مستمرة، كما أنه طالما الحلم حي ولن يموت أبداً فالدنيا بخير. وهنا يتدخل صديقي تامر لينبهني إلي ما قد ننساه في خضم حياتنا اليومية «تذكر دائماً مشهد الأم التي تضفر شعر ابنتها في الصباح أو تحضر لها الإفطار قبل الذهاب إلي المدرسة. ثم البريق في عين الطفلة التلميذة. ألا يكفي هذا للتأكيد علي رغبة الإنسان وإرادته في أن يعيش ويتعلم ويري الغد ويحلم». ومنذ أيام ليست ببعيدة عشت وعايشت من جديد ذكريات أبي وآلامه وطفولته. وهذه المرة، في ذكري مذبحة الأرمن علي يد الأتراك «يوم 24 أبريل» كنت في دير الزور بسوريا. تلك البقعة الجغرافية التاريخية التي شهدت مع عام 1915 نهاية حياة آلاف من الأرمن، أو بداية تشردهم وتشتتهم في بقاع العالم. وهناك ومعي عشرات ومئات من الأرمن من جميع دول العالم التقينا وصلينا وشاطرنا الأحزان وتذكرنا الشهداء وأحيينا الذكري. نعم التقينا لنقاوم النسيان والإنكار ونقول لبعض وأيضاً للصغار ونحفر في قلوبهم «مازلنا أحياء و.. سنظل». بالنسبة لي كتجربة إنسانية وذاتية كنت أريد أن أري بعينيّ وأن أقف بقدميّ في المكان الذي شهد مأساة وتشريد أبي، وهو الذي فقد والدته وأخته في مياه الفرات. ذلك المكان الذي أنقذه من الموت وأيضا الذي شهد ميلاد صمته الغالب. ذلك الصمت الذي أصبح سمة مشتركة ومميزة لجيل عاش وكبر بلا طفولة «انظروا الآن مثلا أطفال غزة والعراق ورواندا والبوسنة» .إنه الصمت حزنا أو لعدم القدرة أو عدم الرغبة في الحديث عما حدث وجري . إنه الصمت الصدمة المخيف صمت أبي الذي صدمني وحيرني وعذبني. آه كم توقفت أمامه وأنا المتحدث الطليق «والبركان كلاماً» لأفهمه وأتبين ما يريد قوله من خلال صمته وأعرف معني ومغزي وقيمة هذا الصمت الأخاذ. إن أبي بكلامه الشحيح وصمته الغالب قال الكثير(هكذا أعتقد)، ودحض بالطبع الزعم القائل بأن «السكوت علامة الرضا». وبالتأكيد «صمت أبي» كان مثل «شنطة أبي» في الكلمة التي ألقاها الكاتب التركي «أورهان باموك» في حفل تسلم جائزة نوبل للآداب عام 2006 كاشفا عن تكوينه الاجتماعي والفكري وبداياته مع أحلامه وأحلام الأب من خلال شنطة «حقيبة مليئة بالأوراق أعطاها له والده». و«صمت أبي» بالمثل في حاجة إلي التفاتة وتأمل واسترجاع للماضي مني، لبيان وإظهار مكنونات شنطة أبي النفسية ومكونات نفسي أنا. والأحلام التي عاشها أبي معي والأحلام التي عشتها لوحدي ومع الآخرين من الأرمن.وأنا بعد زيارتي الأخيرة لدير الزور وحلب ومركدة بدأت في بحث وكشف كل ما في شنطة صمت أبي. ولاشك أن الإنسان في حاجة دائمة إلي فهم أفضل لأقرب الناس إليه ليعرف نفسه أكثر. والأرمن في مصر وفي الدول العربية لهم مكانتهم وأدوارهم التاريخية والحضارية وبصماتهم المميزة في ذاكرة شعوبها. ولا شك أنهم ممتنون لما وجدوا من صدر رحب في استقبالهم، وهم مسيحيو الديانة في ديار العرب المسلمين. الأرمني له طلته ولمسته وهمسته وغنوته ورقصته وأكلاته وأكيد سمعته وطبعا «فلاشه». فكم من مصور أرمني التقط صوراً لطفل بنظرته الحالمة أو لطفلة بشقاوة عينيها.. بالإضافة الي مصوري الرؤساء والملوك والمشاهير النجوم، أمثال «أرشاك» و«أنترو» و«فان ليو». وكم من أرمني علم شاباً أو الشابة الموسيقي أو الرسم أو قام ب «ظبط» أوتار البيانو في بيته أو «صلح» موتور سيارته أو صاغ وشكل خاتم الخطوبة أو إسورة الزواج. وماذا عن أغاني شارل ازنافور؟ أو موسيقي آرام خاتشادوريان؟ أو كتابات ويليام سارويان؟ أو أفلام أتوم أيجويان؟ والمخرج العالمي الكندي الأصل أيجويان ولد بالقاهرة عام 1960 ثم هاجرت أسرته إلي كندا وبينما كان طفلا يلعب في مدرسته كان يوصف ب«المصري». ونتذكر هنا أيضا كاريكاتير «صاروخان» في آخر ساعة وأخبار اليوم.. ونيللي ولبلبة وفيروز وعشرات من أبناء وبنات الأرمن الذين ساهموا في إثراء حياة وثقافة أوطانهم العربية.. وكل بقعة ذهبوا إليها هنا أو هناك. وللأرمن حكايات طريفة مع الفواكه ثمار الأرض أبرزها عشقهم وولههم بالرمان رمز الحياة والحب والمسُتخدم بكثرة في رسومات وحلي ومصوغات وتبادل الهدايا. ثم المشمش الفاكهة المسماة علمياً «برونس أرمنياكا» أي البرقوق الأرمني. وتنظم أرمينيا سنويا مهرجاناً دولياً للسينما في الصيف جائزته الأولي «المشمش الذهبي» ويرأس المهرجان المخرج أيجويان.أما الحكاية الثالثة فهي مع «اليوسفي» وهي الفاكهة التي أتي ببذورها إلي مصر يوسف أفندي الأرمني في عهد محمد علي لذلك سمي باسمه. وبالطبع كلما التقيت بمصري أو عربي لابد أن في لحظة ما «نجيب في سيرة الأرمن» «وما أكثرها من حكايات». أذكر هنا مثلا الشاعر الفلسطيني سميح القاسم وحواديته مع الأرمن ومن كانوا معه ومع محمود درويش في أيام الصبا والشباب. وأتذكر كيف إن رسالة مني إليه «حملتها صديقة أرمنية مشتركة» منذ سنوات مضت حول شعره والقضية الفلسطينية أثارت معه موضوع الأرمن والمذبحة والذاكرة فكتب عنها في إحدي رسائله المتبادلة مع محمود درويش تلك الرسائل التي وصفت حينئذ ب «حوار ما بين شطري البرتقالة». وها هي البرتقالة ترمز للشعب الفلسطيني مثلما الحال مع «شجرة الزيتون». ولن أنسي ما قاله وردده الشاعر محمود درويش واصفا حاله وحالنا وحال شعوبنا «مازلنا هنا ومازلنا أحياء». «ما زلنا هنا، مازلنا أحياء واليوم تظل هذه الجملة تصفنا، وتصفكم، وتصف شاعرنا الكبير الذي بالتأكيد مازال هنا، ما زال يحيا» بهذه الكلمات اختتمت الكاتبة «أهداف سويف» خطابها الخاص بقبول جائزة محمود درويش للإبداع منذ عدة أسابيع. وذكرت في الخطاب أنها كثيراً ما تواجه هذا السؤال «ولمَ هذا الارتباط بفلسطين وأنا المصرية؟ أقول تربيت علي القضية الفلسطينية في مصر عبد الناصر، وأقول إن القضية الفلسطينية قضية العصر، تجتمع فيها الكثير من مكونات قضايا الإنسانية في وقتنا هذا، من الظلم الواضح، إلي التهجير والتطهير العرقي، إلي تفتيت المجتمعات القديمة الراسخة، إلي سرقة المياه وسرقة الهوية، إلي تجريف الأراضي الزراعية، إلي التلويث البيئي، وغيرها، وغيرها، فلا يمكن، في ظني ، أن ينشغل إنسان بأي من هذه القضايا دون أن يري لها تمثيلا في فلسطين». وفلسطين كانت حاضرة في رواية «أهداف» «خارطة الحب» «1999». كما أن كتابها «في مواجهة المدافع» كشفت معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. الكاتبة المصرية المتميزة أهداف سويف «من مواليد 1950» استطاعت في التسعينيات من القرن الماضي وخاصة بروايتيها « في عين الشمس» «1993» ثم «خارطة الحب» أن تلفت انتباه النقاد وتبهر القراء في الغرب. وقد ُذكر عنها بأنها مصرية تكتب بالإنجليزية وكتابتها فيها سحر مصر وحواديتها الأخاذة وأن لها قدرة رائعة علي وصف مشاعر وأحاسيس البشر بالتفاصيل الدقيقة وهي تعيش لحظات التلاقي والتماس والتصادم بين الشرق والغرب وأيضا بين ما هو جديد وما هو قديم في حياتنا. وكما تقول إحدي عاشقات رواياتها «إنها المبدعة التي تضفر الحلم والواقع والحاضر والغائب وتشكل مشربية العاشق والمعشوق والعشق الذي بينهما فنري دنيانا ونشوف أنفسنا» . لذلك فإن إصدار كتاباتها مجموعة أعمالها مترجمة باللغة العربية أخيراً عن «دار الشروق» - يعد فرصة لقراء العربية ليعرفوا أكثر عن «أهداف» وإبداعها المتميز وحتي لا يقتصر فهمهم لها وإعجابهم بها علي مواقفها السياسية والإنسانية وتصديها بحكمة وحنكة لمزاعم الغرب وبطش إسرائيل. وفي لقاء لأهداف بالجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ أيام كم سعدت بأنها أخبرت الحضور أنها بصدد كتابة وإتمام رواية جديدة لها في الصيف القادم. وفكرة هذه الرواية كما قالت بدأت تتكون في بداية هذا العقد إلا أنها شغلتها هموم الحياة ومنها وفاة والدتها «د.فاطمة موسي» وزوجها «الكاتب البريطاني إيان هاملتون» وبالطبع حروب المنطقة. وهي بالطبع لاتريد أن تتكلم عن الرواية إلا بعد أن تكتمل. وإن كانت في اللقاء قرأت صفحتين منها قد تكُونان بداية تلك الرواية. وكما يقال «لا يسعد عشاق الراوي أو الحاكي أكثر من إعلانه بأنه بصدد رواية جديدة» احكي يا أهداف واكتبي وعشاق أدبك عيون مشتاقة للقاء كلماتك. وسواء كنا في مواجهة المدافع .. أو محاولات مسح الذاكرة أو مراوغات الساسة «فما يراه البعض بعيداً أراه أنا قريبا» هكذا يقول صاحب الحق والحلم. وبالطبع «كلك نظر ومفهومية» عندما تكون لك الرغبة والقدرة علي أن تري غدك وغدنا في الأفق، وأكيد «لا يضيع حق وراءه مطالب» .. إلا أنه أيضا «ما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا»، وهذه هي مهمة الشعوب وإيمانها وقضيتها وهي تتمسك بحقوقها ولا تفرط بها وتتشبث بأحلامها ولا تقبل بغيرها وتتطلع للمستقبل ولا تختار طريقا آخر. نعم قد يموت الكبار .. إلا أن الصغار لا يجب أن ينسوا.. لا ينسون ما كان مطلبنا .. ما كان ولا يزال حلمنا وما نسعي إليه.. هذا هو «العهد الآتي» .. و«نشيد الإنشاد» و«وصية الشهداء» و«أغنية الأحياء». وسواء كان صمت أبي أو سحارة أمي أو ابتسامة ابنتي فإنها الخبيئة .. والخميرة «إللي بتخبز عيشنا وبتشكل حياتنا». نعم نحن أحياء وسنظل أحياء.. وأكيد إنت كمان عايز دايما تكون حياً بأمسك ويومك وحلمك ومناك.. فأهلاً بك .. وطبعا مازلنا أحياء!