«الأفلام تلمس قلوبنا وتوقظ قدرتنا على رؤية الحياة وتغير الطريقة التي نرى بها الأشياء.. كما أن الأفلام تأخذنا الى أماكن أخرى وتفتح الأبواب والعقول. ان الأفلام ذكريات زماننا وحياتنا وعلينا أن نبقيها حية» قالها المخرج الأمريكي الكبير مارتن سكورسيزي ذاكرا «كنت في الثامنة من عمري عندما أخذني والدي معه لكي أشاهد هذا الفيلم وكانت سنة 1950، هكذا يتذكر المخرج السينمائي المتميز لقاءه الأول مع السينما وكيف أن هذا اللقاء ظل ماثلا في خياله وأن مشهدا ما تحديدا من هذا الفيلم لم يفارق خياله أبدا.. عندما سأل أحد أبطال الفيلم البطلة راقصة الباليه: «لماذا تريدين أن ترقصي؟» فجاء ردها عليه «لماذا تريد أن تعيش؟» ما سمعه الطفل وما شاهده على الشاشة مع هذه اللقطة عاشه وعشقه لسنوات طويلة، هذا الحوار القصير المعبر والموحي لحاجتنا الملحة للفن وسعينا للتعبير عن أنفسنا و»ان الأمر ليس انك تريد أن تفعله وانما عليك أن تفعله وعليك أن تعيشه وله ثمن عليك أن تدفعه»حسب تعبير سكورسيزي، والفيلم الذي شهده الطفل الصغير و»آسر خياله وحياته وطارده لسنوات» كان «الحذاء الأحمر» من انتاج عام 1948. وهو الفيلم الذي حرص سكورسيزي (من مواليد 1942) أن يدرجه ضمن مشروعه العالمي المتميز الذي تبناه منذ سنوات لترميم الأفلام والحفاظ عليها وايجاد نسخة جديدة لها لتعيش مع الأيام . وهذا ما حدث أيضا مع حماية فيلم «المومياء» لشادي عبد السلام. ورحيل الفنانة العظيمة فاتن حمامة بالتأكيد يدفعنا من جديد لكى نتذكر و»نسترجع»( فلاش باك) ما كان لأفلامها من أثر في نفوسنا وأكثر من بصمة في حياتنا ونحن نشاهد ونحلم ونعيش هذه الأفلام وحياة أبطالها وحيرتهم وحواديت الحب في دنياهم. ولا شك أن كل فيلم من أفلامها له «معزة خاصة» و»قيمة عالية» في حياة كل منا «لا يمكن أن تمحوها السنون» .. حكاية «شدت انتباهنا» ولقطة «وقفنا أمامها مبهورين» وحوار «لسه فاكرينه كلمة كلمة». ونحن لا نكذب ولا نبالغ في القول اذا قلنا أننا عشنا أيام وليال من حياتنا مع فاتن .. أو اذا قلنا ان فاتن عاشت معنا حياتنا. وهذه هي عبقرية السينما وسحرها وسرها في «لمس القلوب» و»التحليق بالخيال» و»اكتشاف أنفسنا وأيضا اكتشاف الآخرين»،فاتن حمامة ممثلة عظيمة، والى جانب هذا فنحن نتفاهم بسرعة، وعمق، وهي أيضا النجمة الأولى بلا منازع « قالها المخرج هنري بركات في حوار له مع سمير فريد. أما فاتن، الطرف الآخر في هذه المعادلة الابداعية الجميلة فقالت عن بركات في حوار لها مع ابراهيم العريس: «.. كان أقرب المخرجين الى الرؤية التي أحملها عن الانسان والمجتمع والمرأة،حيث كان يتكلم عن الانسان وعن احساس البني آدم، ويغوص في الحياة اليومية للناس. كان من الطبيعي أن أحب العمل معه دائما، وأن أنتظر منه أن يعيدني الي الشاشة كلما غبت عنها طويلا». ما قد يتفق عليه النقاد أن بركات أخرج أكبر عدد من أهم أفلام فاتن حمامة ومنها «دعاء الكروان» و»الحرام». بركات (1997 1914) بدأ عشقه للسينما و»اندهاشه بأفلامها» (حسب وصفه) وهو في حوالي العاشرة من عمره. وقصة عشقه بدأت في سينما بلانتيد بشبرا. وبما أن حديثنا ممتد ومتواصل عن المتعة التي تتسلل الينا والبهجة التي نعيشها مع مشاهدة الأفلام ومعايشتها، يجب التذكير أننا باعتبارنا عشاق للسينما نحب أن نشاهد ونناقش أفلام هذا العالم الساحر و»كل فتفوتة صغيرة فيها، نعايش هذه الأيام «أفلام الأوسكار» وما تصاحبها من الترشيحات والتوقعات والأمنيات بالفوز وأيضا حديث الإحباطات ونقاش الانتقادات، اذ كان من الطبيعي أن يتساءل الكثيرون من عشاق السينما خلال الأيام الماضية كيف أننا في قائمة الترشيحات للتمثيل نجد عدد المتنافسين والمتنافسات عشرين ممثلة وممثلا ما بين الأدوار الرئيسية والأدوار المساعدة للأفلام الا أن لا أحدمنهم ممثل أسود أو ممثلة سوداء ولا ممثل بأى لون آخر غير الأبيض ؟! وماذا عن بطل فيلم سالما (Selma) «ديفيد أويالوو» الذي أدى ببراعة دور الزعيم مارتن لوثر كينج؟! وهنا لا يجب أن ننسى أنه في العام الماضي حاز فيلم « 12 عاما من العبودية»على جائزة أوسكار لأحسن فيلم .. وقيل وقتها أنها المرة الأولي تذهب جائزة أحسن فيلم لفيلم مخرجه أسود اسمه «ستيف ما كوين». وكل عام في هذا التوقيت يثار الجدل وتطرح الأسئلة حول «الحصاد السينمائي» للعام المنصرم.. وبالطبع لا بد من الاطمئنان على استمرار حالات تدفق الابداع واستمرار الرغبة في الانطلاق والقدرة على التحليق في أعلى السموات والوصول الى أعمق أغوار النفس البشرية والكشف عن كنوزها الكامنة. ولعل من أبرز العبارات المتكررة في مثل هذه الأحاديث والنقاشات العبارة اياها التي تقول:»نحن لسنا في سباق للخيل.. وبالتالي لا يجب أن ينحصر حديثنا على الفائز والخاسر ولا يقتصر جدلنا على أسماء الأفلام والفنانين وأرقام ايرادات الأفلام». خاصة أن هذه الأفلام مثلما كانت في حالة «الحذاء الأحمر» بالنسبة لسكورسيزي وفى حالة «أفلام فاتن» بالنسبة لنا جميعا «أكبر وأقوى وأعمق من كل هذا» وبالطبع هذه الأفلام قالت الكثير لنا ولغيرنا وحركت الكثير بداخلنا وداخل نفوس البشر.. وتركت البصمة في نفوسنا. وبالمناسبة حفل اعلان وتوزيع جوائز أوسكار سيقام يوم 22 فبراير القادم. وفي استمتاعنا بالحصاد الابداعي نلتقي بالفيلم المبهر Boyhood «أيام الصبا» وفيه نجد العلاقات الأسرية والانسانية عبر 12 سنة من عمر الصبي سنوات النشأة والتكوين والتحدي بالنسبة له ولأهله بمشاكلهم العائلية والزوجية و»تقدم العمر». كل هذه التغييرات رصدها المخرج «ريتشارد لينكلايتر» على مدى 12 سنة من التصوير واخراج الفيلم بنفس فريق التمثيل وهم يعيشون وهن يعشن معا هذه التجربة الفريدة والمبدعة على مدى تلك السنوات. والفيلم مرشح لست جوائز منها جائزة أحسن فيلم وأحسن مخرج. ومن ضمن الأفلام المرشحة لجائزة أحسن فيلم «سالما» والفيلم يثير من ضمن ما يثير قضية تسجيل التاريخ الشعبي للولايات المتحدة في مقابل التاريخ الرسمي المكتوب والمسجل،ويطرح قضية كتابة تاريخ المحكومين في مواجهة تاريخ الحاكمين أو فلنقل : تاريخ المهزومين في مواجهة تاريخ المنتصرين. مخرجة الفيلم «آفا ديوفيرناى» أصرت على التأكيد بأن هذا الفيلم ينظر للتاريخ كما كان يراه من قاموا بالمسيرة التاريخية المطالبة بحق التصويت للأمريكيين السود، وشددت على أن هذا الفيلم يسجل الموقف والمشهد والحالة النفسية للسود والظلم الواقع عليهم، واضافة لهذه الأفلام أكثر من فيلم مرشح لجوائز أوسكار يناقش المرأة التى تعمل والمرأة في منتصف العمر، وهى تواجه تحديات «مرور الأيام» و»أحكام المجتمع» و»نظرة الآخرين لها وأيضا نظرتها هي لنفسها». ولا شك أن الأفلام الهامة في عام 2014 لم تعد مجرد «الهاءا لقتل الوقت»و»تسلية للنفوس» بل «مكاشفة» و»محاسبة» للنفس البشرية ليس بغرض اصدار أحكام بشأنها بل لتسليط الأضواء عليها وعلى القضايا الحيوية التي تواجهها والتي لا يمكن تجاهلها والأهم لا يمكن التعامل معها باستخفاف واستهتار أو جهل وتجاهل. وطالما ننتقل من لقطة الى أخرى ب»قطع سريع» نقف ولو لحظات أمام فيلم «فندق بودابست الكبير» للمخرج «ويس أندرسون». والفيلم المرشح لتسع جوائز أوسكار يجب مشاهدته ولا يمكن «اختزاله» في كلمات أو سطور. وهو فيلم ساخر وساحر يجمع ويخلط في مشاهده الجميلة فنيا وسينمائيا التاريخ والخيال والحوار والصدام والأبعاد الانسانية كلها في احتفاء جميل ومبهج ومبهر ومدهش. أما فيلم Birdman )الرجل الطائر( المرشح ايضا لتسع جوائز أوسكار فهو رحلة نفسية انسانية سريعة ولاهثة ومرهقة لإنسان يتقدم في السن مع الشهرة والأبوة والحياة الزوجية والحلم في حياته وأيضا القلق والغضب بداخله. والسؤال الأبدي .. هل يريد أن يطير؟ وهل يستطيع أن يطير ويحلق مثلما كان يفعل من قبل؟ أمام مشاهد الفيلم العظيم يجب أن يخفق القلب وتذرف الدموع وتبتهج النفس وينطلق الخيال. و»هي دي الجملة اللي كان نفسي أقولها» و»ياااه أنا فعلا كنت غلطان لما فكرت بشكل ده». كما أن السينما تعطيك الفرصة اذا تأملت ورأيت في أن تتشكل لديك الرغبة وأيضا القدرة على أن تنظر الى الأشياء من زاوية مختلفة .. الا أنك أيضا تحتاج الجرأة في «اتخاذ هذا القرار» أن ترغب وأن تريد و أن تحسم أمرك وتنظر الى الأشياء من زاوية جديدة لترى ما لم تراه من قبل، ولكى يتبين لك من جديد ما يمكن تسميته ب «تجدد الحياة» و»حيوية البشر والأشياء من حولك» .. وحينئذ فقط قد تضمن أن حياتك لن تكون «فيلما مملا» أو «نصا متكررا» أو»مشهدا معتادا».. ولن تكون أيضا انتظارا لكلمة «النهاية» وخروجك من القاعة!!