عندما لقيته لأول مرة في النصف الأخير من الثمانينات في إحدي دورات مهرجان فينسيا السينمائي الدولي كان المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي يتعرض لهجمة شرسة بسبب آخر أفلامه «رغبات السيد المسيح» كان واحدا ممن حرصت علي تتبعه والبحث عن أفلامه منذ رأيت واحدا من أمتع وأعظم أفلامه «سائق التاكسي» الذي اختار لبطولته ممثلا كتب لنفسه تاريخا عريضا علي الشاشة بفيلم سكورسيزي هذا الذي كان يحكي ببساطة عن سائق تاكسي في شوارع نيويورك يجد نفسه في مغامرة إنسانية مثيرة عندما تلتقطه فتاة مراهقة تطاردها عصابة تتجر بالنساء وترغمهم علي ممارسة البغاء. وقبل لقاء «فينسيا» بعام واحد كان بين قائمة دورة مهرجان «كان» الرسمية فيلم لمارتن سكورسيزي يمثل أمريكا في المسابقة.. كان يحمل اسم «فات الميعاد» وكان من أفلام الإثارة، إذ يحبس بطله في «مترو الأنفاق» بعد أن فاته القطار الأخير وكان عليه أن يظل حبيسا لا يعرف ماذا يفعل حتي يصل أول قطار مترو في الساعات الأولي من الصباح، كان فيلما جيدا يتعمق مشاعر إنسان وذكرياته وهو في هذا الموقف. حرب علي «رغبات السيد المسيح»! وكما قلت جاء مارتن سكورسيزي إلي «فينسيا» ليعرض فيلمه «رغبات السيد المسيح».. وكانت مشاركته بهذا الفيلم في المهرجان نوعا من التحدي.. فالفيلم منذ بدأ تصويره يثير ضجة هائلة.. وخلال فترة التصوير، وقد صورالفيلم في صحاري المغرب - بدأت الضجة التي تتركز في غضب أوساط دينية يمنية من أن سكورسيزي يقدم «السيد المسيح» الإنسان العادي.. البشر الذين يحق لهم أن يحبوا وأن تعرف نفوسهم الاشتهاء والرغبات الجنسية وقد حصر سكورسيزي هذه الرغبات حول «مريم المجدلية» وزادت طامة الغضب عندما اختار مارتن سكورسيزي ان يجيء بفيلمه للعرض في مهرجان فينسيا بالذات.. متحديا سلطات الفاتيكان التي أعلنت منذ بداية تصوير الفيلم أنها ضده وتحرم علي كل أبنائها وأتباعها رؤيته أو مناقشته.. وزادت الفاتيكان علي هذا التحريم عضبة تمثلت في بيان أكثر تشددا وأكثر غضبا علي الفيلم ومخرجه وطالبت بمنعه من العرض في أوروبا أو حتي في أمريكا عبر المحيط حيث كانت الضجة حول الفيلم قد قادتها بعض الجمعيات النسائية الدينية المتشددة وناصبته العداء.. كان موقف سكورسيزي مثيرا للشفقة فقد تعرض لهجوم كاسح في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد عرض الفيلم ولم يلتفت أحد من النقاد إلي أن من حقه أن يعرض وجهة نظره أو حريته في التعبير.. وجلدوه في قسوة بسبب موقف الفاتيكان من فيلمه. اللعنة تطارد سكورسيزي إذن وجد مارتن سكورسيزي نفسه بعد العرض الأول لفيلمه في فينسيا أنه ملعون هكذا وأن هذه اللعنة تجد صدي كبيرا في عاصمة السينما الأمريكية هوليوود واستبعد «رغبات السيد المسيح» تماما من كل ترشيحات الأوسكار علي الرغم من تميز الفيلم في تقنياته السينمائية من حيث الأداء التمثيلي والإخراج المبهر والموسيقي التصويرية التي تصاحب الأجواء التي تجري فيها أحداثه وتميزه حتي في مشاهده الخارجية التي صورت في صحراء المغرب كما قلت وفي ديكوراته وحوارات ممثليه التي كتبت بذكاء.. وكانت نتيجة طرح الفيلم خارج ممرات ودهاليز الأوسكار أن ألقيت ظلال كثيفة حول مارتن سكورسيزي وعمله كواحد من أكبر مخرجي السينما الأمريكية وأغزرهم ثقافة ومعرفة لتطور السينما العالمية لا في هوليوود فقط بل علي الساحة الأوروبية فقد ارتبط اسم مارتن سكورسيزي ببعض حوارات تسجيلية ومعرفية من مخرجي «الموجة الجديدة» في السينما الفرنسية مثل فرنسوا تريفو صاحب فرانهيت 401 بل وكان أفضل من قدم وفسر سينما الإثارة والتشويق عند مخرج كبير كألفريد هتشكوك عندما قدم عنه وعن عمله فيلما مدته ساعة ونصف الساعة بل إن مارتن سكورسيزي فيما توالي من سنوات كان فارس السينما الأمريكية وهو يقدم تاريخها وخروجها وسيطرتها علي مشاعر الملايين من عشاق السينما في أفلام تسجيلية احتفت بها كل مهرجانات السينما العالمية خاصة «كان» و«فينسيا». لم تغفر هوليوود أبدا لمخرجها مارتن سكورسيزي ما وصمتها به الأوساط اليمينية المتشددة من تهم بسبب فيلمه «رغبات السيد المسيح» وإن لم تمنعه منعاً صريحا من العمل.. كانت هوليوود ترفع علي رأسه لعنة فيلمه واستمر هذا لسنوات عديدة متتابعة ورغم وصول أفلامه مثل «الرفاق الطيبون» و«عصابات نيويورك» إلي منصات التتويج في جوائز الأوسكار لكنه بقي ملعونا كمخرج يحوز ممثلوه ونجومه وفنيوه بجوائز الأوسكار بينما هو مستبعد وخارج الترشيحات وبدأت هذه اللعنة في الحقبتين الأخيرتين تتراجع شيئا فشيئا لكنها بقيت تطارده كلما لاح بريق من أمل لفوزه بجائزة أوسكار أحسن مخرج.. جائزة الأوسكار ست مرات كان فيها بين المرشحين الخمسة من كبار المخرجين. روبرت هيوز كسب له الأوسكار لم يتغير موقف هوليوود من مارتن سكورسيزي ولم تسقط من فوق منكبيه لعنة «رغبات السيد المسيح» إلا في العام الماضي عندما فاز بجائزة أوسكار أحسن مخرج عن فيلمه «الطيار» كان الفيلم يقدم قصة حياة روبرت هيوز الذي كان واحدا من الشخصيات الغامضة التي تكتب تاريخ السينما الأمريكية من وراء ستار.. كان مليارديرا يلقي ببعض الأحيان بضعة ملايين من ثروته لإنتاج فيلم من أجل عيون ممثلته المفضلة مثل جيد روس التي أحدثت ضجة في هوليوود عندما قدم لها فرصة البطولة في «الخارج علي القانون» وكاترين هيبورن في بداية ظهورها وعلي ما روي سكورسيزي في فيلمه عن حياته.. وقد مثلت دور كاترين هيبورن في شبابها الممثلة الاسترالية الأصل كيت بلاتشيت وفازت عنه بجائزة أوسكار أحسن ممثلة مساعدة كان معروفا عن روبرت هيوز أن واحد من الطيارين في أمريكا وقد انتهي نهاية غامضة مثيرة لم يكتشف أحد سر غموضها حتي الآن وكانت المحصلة الرئيسية للفيلم أن صعد بالمخرج مارتن سكورسيزي إلي منصة التتويج فائزاً بالأوسكار. لقد جاء مارتن سكورسيزي في مرور عابر إلي القاهرة.. لم يشعر به أحد إلا من خلال صورة نشرت في «الأهرام» وهو يقف عند سفح الهرم مع د. زاهي حواس ثم أعقبها بعد يومين صورة أخري في استقبال أقامته لهم مكتبة الإسكندرية علي استحياء ومحاضرة قصيرة ألقاها وسط مجموعة من فناني مصر بينهم الفنانة يسرا.. كيف جاء ومن وجه إليه الدعوة وكيف مر وجوده هنا مرور الكرام دون أن يلقي حظه من التكريم والحفاوة.. إن مارتن سكورسيزي الآن ومن خلال منظمته التي يرأسها - منظمة السينما العالمية - يلعب دورا مهما في تاريخ السينما علي اتساع العالم.. كان هدفه الرئيسي هو إحياء التراث السينمائي العالمي عندما اختار مائة فيلم من كل الجنسيات لكي يعيد صياغتها وترميمها والحفاظ علي تقنياتها بحيث يمكن أن يعيش الفيلم ويستمر عرضه لمائة عام أخري قادمة.. وكان له اختيار وحيد من تراث السينما المصرية والعربية هو فيلم شادي عبدالسلام «المومياء» قام بتصحيح نسخته الأصلية ورد إليه رونقه وتعاون مع وزارة الثقافة المصرية لكي ينظم عرضه في مهرجان «كان» في مايو الماضي وفي مهرجان فينسيا في أغسطس من نفس العام. وعلي استحياء أيضا علمت أن مارتن سكورسيزي جاء إلي القاهرة في زيارة سريعة عاجلة بدعوة من جمعية أصدقاء شادي عبدالسلام وعجزت إمكانياتها عن تنظيم إقامة حافلة مثمرة بيننا رداً لجميله لما فعل من أجل «المومياء» ومخرجه شادي عبدالسلام.