وكأن الحوار لم ينقطع إطلاقا وكأن الأيام لم تمر أبدا وكأن المسافات لم تزدد بعدا. هكذا تتوالد من جديد لقاءاتنا وتتلاقى مرة أخرى قلوبنا وتنتعش ذكرياتنا وتنطلق أحلامنا. ونشعر من جديد أن «الدنيا مش سعيانا». كما أننا نتأكد أن دنيانا لكى تكون دنيانا يجب أن تكون مثل ال«مشربية» تماما عاشق ومعشوق معا والى الأبد .. وبما أن أبجدية العشق لدينا لا تبدأ دائما بالألف ولا تنتهي أبدا بالياء فان قاموس المعاني في حياتنا لا ينضب ولا يريد أن ينضب بل يفيض ويتدفق أكثر فأكثر رغبة في احتضان تفاصيل حياتنا صغيرها قبل كبيرها. والأمكنة في بالنا كانت ومازالت لها عبق مميز والأزمنة لها دلال جذاب كما أن البشر لهم «معزة خاصة» .. « وليك وحشة» لا يمكن تناسيها أو تفاديها مهما كانت المبررات والأعذار.. و«عفوا .. فينك يا راجل» وفي حوار ممتد مع صديق،عزيز صلاح وأنا أرتشف شراب الكابتشينو صباح يوم حار بالقاهرة نتذكر كعادتنا يحيي حقي وعشقه الأبدي للكلمة وكيف ننسى صاحب «أنشودة البساطة» ونحن نكتشفه بل نكتشف معه دنيانا من أول وجديد كلما قرأنا سطورا من كتاباته. حقي الذي التفت بانتباه وحنان ل«ناس في الظل».. هؤلاء «الذين تراجعوا عن الأضواء، هكذا أراد لهم القدر أو أرادوا هم لأنفسهم» .. هؤلاء الذين ربما ينطبق عليهم أيضا وصف «الكومبارس». الا أن الأمر الأهم هل نستطيع أن نراهم ونحتفي بوجودهم في حياتنا مهما كانت زغللة الأضواء. ويكتب حقي:»رسمت في لوحات اناسا منهم أحببتهم لأني أحسست أن قلوبهم لا تسممها المرارة ولا تضنيها الحسرة، رضوا بحظهم واستراحوا لأنهم سلكوا أنفسهم في نظام الكون وحدسوا حكمته، فلولا الظل لما كان نور، ولولا الغربة لما كان وطن، ولولا الشيخوخة لما كان شباب، ولولا الفقر لما كان ثراء، ولولا حمار الشغل لما تبختر الرهوان». ونعم، صاحب «خليها على الله» يقول في موضع آخر: «أكره الأبواب الموصدة، والنوافذ المغلقة، والأدراج المعصلجة، والشفاه المطبقة». ويقول أيضا: «أحب السحابة الرقيقة التي تقبل أن تذوب وهي تقول لشمس الصيف: سأكفكف من جبروتك.. أحب الأصابع السرحة في الراحة المنبسطة، مخلوقة للبذل، للعزف، للتربيت بحنان». وقد كتب حقي أيضا وهو يتحدث عن مزاجه وعن ما يحبه: « أحب المدق الترابي، يترك الطريق المسفلت المستقيم كالخط المرسوم بالمسطرة، ليتعرج صاعدا هابطا بين تضاريس الأرض التي تصنعها يد إنسان.. سيطوح بي.. أليس هذا فعل الخمر بالرؤوس؟» ثم أضاف: «الرقص فن.. لأنه كسر قانون العامة بأن أقصر خط بين نقطتين هو الخط المستقيم.. حتى الشمس كما تقول النسبية لا تمد شعاعها مستقيما، بل تجعله ينحني وفق انحناء خصر الكون، كأنها ضمة حبيب لحبيب» ومع التحية والابتسامة والضمة يتم لم شمل الشلة وتبدأ القعده و«هات يا دردشة» و«خد راحتك في الكلام» وكل هذا معا يعني الكثير في حياتنا. وهو يعني الكثير بالطبع اذا «عرفنا قيمته» وقدرنا معناه وكررنا فعله وكرمناه و«وضعناه فوق رأسنا» مهما كانت الظروف ومهما كانت الأجواء. ووقتها نجد معنا حاضرا حقي ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وسيد درويش ويوسف شاهين وصلاح جاهين ومحمود سعيد.. نجد هؤلاء وآخرين معنا في قعدتنا وفضفضتنا وسرحتنا وبهجتنا وفرحتنا. وقد نصحنا الروائي والحكاء خيري شلبي والذي رحل عن دنيانا منذ ثلاث سنوات (يوم 9 سبتمبر 2011) بأننا دائما في أمس الحاجة الى»القبض علي اللحظات الشعورية قبل اضمحلالها» وطالما قبضت عليها وكتبتها وسجلتها ونقشتها وعشتها علي الورق ومع نفسك في البداية والنهاية فانك بالتأكيد سوف تحافظ علي اللحظة اياها وذلك «قبل أن يطويها الزمن الى غير رجعة» وقبل أن يجتاحك النسيان وسنينه. وهنا أجد صديقا آخر وهذه المرة ابراهيم ينبهني قائلا: «بصراحة الحكاية دى مش محتاجة تفكير وتردد اقبض على اللحظة الحلوة وخلدها .. وانت الكسبان»!!. ويمتد حوارنا عن اللحظة الشعورية اياها ونحن نسمع من حولنا الصخب المثار حول الرقص و»خطورته على المجتمع»!! والممنوع والمسموح في أفلام السينما وعن «قطع الرؤوس من جانب داعش» وحول « كل ما تعلمناه في صبانا لننساه فيما بعد» و» كل ما كنا نعتز به وقام بتسفيهه آخرون بحجج وفتاوي بالية ومختلقة». وفي هذا المشهد الصاخب تأتي الأخبار عن ساعة «آبل» الجديدة والآتية الينا بعد شهور. وكيف أن ساعة المستقبل هذه لا يقتصر دورها على بيان الوقت فقط بل انها بكونها معك وبارتدائها على معصمك ستجد نفسك مع «رفيقة» تلازمك ولا تتركك وأنت تتلقى توجيهات وتنبيهات منها بخصوص حياتك اليومية وحالتك الجسدية والنفسية .. متى تستريح؟ ومتى تنام؟ ومتى تعمل؟ أو متى تبذل مجهودا أكبر من أجل لياقتك البدنية؟! وما يلفت الانتباه ويثير الاستعجاب في الحديث الدائر والمستمر حول هذه الساعة المرتقبة هو تكرار القول عن «حميميتها» و«أنها ستكون جزءا من حياتك وبرفقتك دائما ومن أجل تحقيق وانجاز حالة أفضل لك». ولا شك أن كثيرا ممن يتأملون هذه الساعة وغيرها من هذه «الصرعات التكنولوجية» يتساءلون كيف تغيرت وستتغير أكثر فأكثر حياتنا واستمتاعنا بها بسبب «الهواتف الذكية» مثلا.. ولكن هل نحن لدينا الرغبة والقدرة والاستعداد للتمرد وعدم قبول الانجراف والتمسك بخيالنا وسرحتنا.. و»اللحظات الشعورية اياها». وكان خيري شلبي قد كتب في وقت ما: «لا أحب حمل الساعات أو لبسها اذ هى مجرد حلية فى بلادنا يعلقها الناس فى المعاصم باعتبارها نقودا متجمدة لوقت عوزة». و»حكاء المهمشين» كان يرى: أن الخيال لا يعني تأليف شيء من العدم، أو تخيل عالم بأكمله من الفراغ، إنما الخيال هو عمق الإحساس بالتجربة المعاشة سواء عاشها المرء بنفسه أو عايشها عن كثب. إن الخيال عن الخبرة بالتفاصيل وبكيفية استخدامها ضمن نسيج كلي.» ويقول:» وقد كانت حكايات صادق ابن عمي تبدو في أول حكي لها أشبه بالخساية العريضة النافشة. ومرة بعد مرة في ليلة بعد ليلة يتم نزع الأوراق الخارجية الشائخة الشائطة، وتأكل الليالي الأوراق الطرية، حتي لايبقي من الخساية سوي قلبها الندي الأبيض بأوراقه البرعمية الجنينية كأنه شفرة الحياة وسرها» وهو الذي قال أيضا:»أي رجل يريد النجاح في حياته لا بد أن يتحصن ضد السأم! يطيل باله على كل شيء! يتفهم كل شيء! ومتى تفهمه يزول السأم تلقائياً! يذوب في محاولات التفهم!”. وفي حلقات النقاش والجدل أجد دائما الكاتب البرتغالي هوزيه ساراماجو بجواري ينبهني ويذكرني بأهمية الحكى وضرورته في الحياة. ساراماجو الذي بدأ حياته ميكانيكي سيارات ومارس مهنا متعددة وشغل وظائف كثيرة من أجل لقمة العيش ولم يبدأ الانغماس بجدية في التأليف الأدبي الا في الخمسينيات من عمره. وهو الذي بدأ خطاب حصوله على نوبل للآداب عام 1998 بالعبارة التالية: «أكثر انسان حكمة عرفته في كل حياتي كان لا يستطيع القراءة والكتابة» وكان يتحدث عن جده العظيم الحكاء الأكبر الذي شكل خيال هوزيه الأديب الذي ظل طوال حياته ممنونا لما منحه له جده بسخاء رغم ضيق الحال والفقر. ساراماجو يطالبني ويطالبك بأن تبقي الطفل الذي بداخلك على قيد الحياة. الطفل الذي لا يكبر ولا يفقد دهشته. وطبعا أن تحمي وتدافع عن الطفل الذي بداخلك وتتشبث به – خاصة اذا كنت تعرف وتدرك أن هذا الطفل يسعده الحكي واللعب والشغف والاكتشاف. ويشير ساراماجو في سيرته الذاتية « الذكريات الصغيرة »الى أن هذا الكتاب «يحكي عن الطفل الذي كنت، كأفضل وسيلة لفهم نفسي». صاحب «العمي» و«الإبصار» و»الموت دون مقاطعة» وهو يتحدث عن دور القراءة في حياتنا يقول «بعض الناس يمضون كل حياتهم وهم يقرأون ولكنهم في قراءتهم لا يتجاوزون تلك الكلمات الموجودة على الصفحات.. اذ انهم ربما لا يفهمون أو يدركون أن تلك الكلمات مجرد أحجار وضعت بعرض نهر سريع الجريان.. وأن سبب وجودها هناك هو أن يكون في امكاننا المشى عليها والوصول للشط الأبعد انه الجانب الآخر الذي يجب أن يعنينا.» ويكتب أيضا « كل انسان منا يملك قطعة من الأرض ليفلحها والأمر الهام هو أن يحفر بعمق!! وفي لقاءات العشق (سواء كنت عاشقا أو معشوقا) مثلما هو الأمر في القعدات والدردشات وحديث الذكريات والأحلام مع الأصدقاء (مهما طال البعد) فإن القلب هو الدليل والسبيل والطريق والمشربية وهو البوصلة والشراع والبحر الصاخب والشاطئ الآمن .. وأيضا الصدق والدفقة والاشتياق والونس. خاصة إذا كانت القلوب بالفعل عند بعضها.. و»اللي في القلب على اللسان» و«قلبى معاك»..