«احترق جناح الفراشة الجميلة المطرز بألف لون، وسقطت من شاهق.. علي أرض مبللة بقطرات الندي التي تشبه الدموع» بهذه الكلمات يصف د. رفيق الصبان رحيل النجمة الحبيبة سعاد حسني يوم 21 يونيو 2001، سعاد كانت ومازالت هي الحياة نفسها، كانت النجمة والفجر والليل و..أخت القمر. وأيضا «سندريلا» التي «مرت كشعاع من نور .. وأضاءت كل ما حولنا.. ومن حولها». كل ده وننساها؟! طبعا لأ. وتكتب مي التلمساني في روايتها «يوميات عايدة»: «أردت أن أفتح أزرار قميصي لتطير الفراشات.. أردت أن أترك لصدري المثقل بخبرة الشوق حرية التنفس وكأن جسدي لم يعد جسدي. كأنه يتحرر من كل من أحبوني وأحببتهم، ليعود إلي جسد بنت في العشرين. هكذا تطير الفراشات ونتنفس نحن وتتحرر نفوسنا وأجسادنا. وطبعا «لا ندم علي سرقة السعادة من براثن الزمن». وسواء كانت عايدة أو مي أو نور أو بسمة فالصراحة بالتأكيد راحة والاعتراف بالحق فضيلة. ومنذ أيام كتب أدونيس عن د. نصر حامد أبو زيد قائلا : «بيني وبينه وحدة في الطريق، وتباين في الخطوات. صديق في الضوء، ومنافس في الطريقة التي نشعل بها القناديل». ثم تطرق الشاعر المفكر إلي الدور الذي لعبه الفقيد «العقل المنير». إنه «عقدة متينة في الحبل الذي نمسك به لكي لا نسقط نهائياً. عقدة البحث الذي يرجُّ المسلمات واليقينيات، ويقذف بنا في فضاء المعرفة، وبهاء الكشوفات.عقدة السؤال الذي يحررنا من الأجوبة السائدة والتي لم تعد إلا طبولاً لغوية، ويفتح أمامنا أفق المعني، وأتساءل - من منا مستعد للقيام بهذا الدور أو مثله؟! ولابد أن أعترف هنا بأن تساقط أصحاب الفكر والقلم و«من عشقوا النور وسعوا إليه» في الفترة الأخيرة - الواحد منهم تلو الآخر وخلال فترة وجيزة يعد صدمة بل صدمات تهز الوجدان وتزلزل العقل. «يعني ببساطة مش سهلة» - خصوصا لمن يعرف قيمة الفكر والقلم والنور والعشق. «يعني أنا وأنت». وطبعا القائمة أخذت تطول بعد أن ضمت أخيرا فاروق عبد القادر ومحمد عفيفي مطر ونصر حامد أبو زيد. ويا رب ارحمنا. والغريب والمثير معا أن تساقط أحبابنا «عشاق النور والحقيقة» يأتي في توافق زمني مع اهتمامي المكثف وانغماسي بحثا وقراءة و تأملا لعالم الفراشات في عالمنا. تلك الكائنات الرقيقة والعجيبة والجميلة والجذابة والمحلقة والهشة والملهمة والسارحة والعاشقة للنور و.. ذوات العمر القصير والآثر المديد. يااااه. نعم تلك الفراشات التي أطاردها أحيانا (منذ أن كنت طفلا صغيرا) وأتأملها كثيرا وأفكر فيها وأنبهر بها وأسال عنها (حتي هذه اللحظة) في أي بقعة من الأرض أتواجد فيها. وعندما كنت أخيرا في حديقة للفراشات في بوسطن (وقبلها في واشنطن) عشت وعايشت من جديد تجربة - بل متعة أن تكون محاطا ومحاصرا بعشرات من الفراشات ورفتها ورقتها وألوانها وهي التي تطير حواليك وتزغلل عينيك وتحط علي كتفك ولا تعرف إن كنت أنت الذي تطاردها أم هي التي تطاردك . «عالعموم خير حيجيلك» و«أنت محظوظ» كما تقول حكمة شعوب عديدة. ومنذ فترة ليست ببعيدة عندما حكيت عن تجارب مماثلة مع الفراشات للعم حسين قال لي ناصحا «استمتع بالتجربة ومفيش داعي تتفلسف.. وأنت عارف أهم حاجة نتعلمها من الفراشة ان العمر قصير واوعي تضيعه في القيل والقال - استمتع وطير أو طير واستمتع قبل أن تضيع منك الفرص وتندم فتقول يا خسارة!!». وأخبار عالم الفراشات «عشاق الضوء وضحاياه أيضا» لا تنتهي. إذ تحذر دراسات بيئية من اختلال في توازن الطبيعة بسبب تطبيق نظم زراعية حديثة والاحتباس الحراري والسياحة والحرائق في الغابات مما أدي إلي انقراض لبعض أنواع من الفراشات وغيرها من الحشرات. وهذا بالتأكيد يؤثر سلبا علي عمليات التلقيح لبعض النباتات. كما أجد اهتماما متزايدا ب «كيمياء الانجذاب والعشق» بين النبات من جهة والفراشة وكيف تنجذب الفراشة للزهرة وكيف يحدث الاختيار والتفضيل ومن ثم التلاقي والتفاعل والتلاقح. ثم كيف أن حركة هجرة الفراشات قد تغيرت وقد تشكلت بسبب التقلبات المناخية التي شهدها العالم من جراء التحضر والتصنيع والنمو العمراني . وأقرأ تقارير صحفية تتحدث عن إمكانية الاستفادة من تركيبة جناح الفراشة وطبيعة ألوانها بسبب انعكاس الضوء واستخدام النانوتكنولوجي في تصنيع عملات ورقية لا يمكن تزويرها أو يمكن اكتشاف المزور منها بسهولة. وكم كانت مؤثرة قراءة خبر في إحدي الصحف الأمريكية عن إحياء ذكري فقيدة عزيزة بقيام أصدقائها وصديقاتها بإطلاق فراشات في الهواء الطلق احتفاء بروحها المنطلقة وشخصيتها الودودة والحنونة وعمرها القصير مع الأسف. وفي عالم الفراشات نجد مابين 15 و20 ألف نوع. وتتراوح سرعة طيرانها مابين 12 و 25 ميلا في الساعة. والفراشة تري ألوان الأحمر والأخضر والأصفر. ويذكر أن الفراشة لا تستطيع الطيران اذا كانت درجة حرارة جسمها تقل عن 30 درجة مئوية. كما أن الفراشة الملكية تهاجر من شمال أمريكا مع بدء موسم البرد وتقطع نحو ألفي ميل إلي الجنوب لتعود مع الربيع من جديد إلي الشمال. ثم «إنني أحوم كالفراشة وألدغ كالنحلة» هكذا وصف تحركه علي الحلبة وتوجيه لكماته لخصمه البطل والملاكم العالمي محمد علي كلاي.وطبعا سمعنا وقرأنا كثيرا تعبير ونظرية «تأثيرالفراشة» التي تتحدث عن وجود عنصر صغير أو متغير بسيط مثل رفة جناح الفراشة في الصين يمكن أن يحدث أو يتسبب في فيضانات وأعاصير في قارات أخري بعيدة. وبعيداً عن النظرية العلمية و«تأثير الفراشة» في غضب الطبيعة أو تعكير صفوها أو عكننة مزاجها (إذا جاز التعبير) فأن الشاعر محمود درويش جمع في كتابه «أثر الفراشة» صفحات مختارة من يوميات كتبت بين صيف 2006 وصيف 2007، ودرويش (الذي رحل عنا في صيف 2008) ينبهنا في يومياته شعرا ونثرا معا بأن «أثر الفراشة لا يُري .. أثر الفراشة لا يزول». وهو أيضا يذكرنا بالفارق بين النرجس وعباد الشمس «هو الفرق بين وجهتي نظر: الأول ينظر إلي صورته في الماء، ويقول :لا أنا إلا أنا. والثاني: ينظر إلي الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد» ويقول درويش أيضا متأملا: «هي المسافة: تمرين البصر علي أعمال البصيرة، وصقل الحديد بناي بعيد» ويضيف: «في أعماقي موسيقي خفية، أخشي عليها من العزف المنفرد». ويخاطب شاعرنا الماضي والحاضر والمستقبل قائلا: «أيها الماضي! لا تغيرنا كلما ابتعدنا عنك!» أيها المستقبل! لا تسألنا: من أنتم؟ وما تريدون مني؟ فنحن أيضا لا نعرف. أيها الحاضر! تحملنا قليلا. فلسنا سوي عابري سبيل ثقلاء الظل! وعندما نقرأ مدونة أو يوميات الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو ( الحاصل علي نوبل الآداب لعام 1998) نجد أنه بتاريخ أول أبريل 2009 يتحدث عن محمود درويش الشاعر الفلسطيني الراحل بتقدير واعتزاز مبينا مكانة شعره وثراء حياته و كيف أنه التقاه قبل سبع سنوات من كتابة تلك السطور وكيف أنهما تعانقا وتحادثا وتبادلا الكلمات وبالتالي بقي درويش دائما في الذاكرة. وتحدث أيضا عن معاناة غزة والفلسطينيين وبطش إسرائيل. ذكريات وتأملات ساراماجو الذي رحل عن دنيانا في 17 يونيو الماضي في ال 87 من عمره صدرت بالإنجليزية في كتاب بعنوان «المفكرة». ساراماجو حكاء ساحر - صاحب روايات تمتع القارئ وتطير بخياله وتسرح به في عوالم غريبة وعجيبة وممتعة - هذه الأوصاف تجدها لدي كل من قرأ أعماله.ومنها «العمي» و«الأبصار» و«الموت دون مقاطعة». وبالطبع لا أريد أن أظلمه وأظلم إبداعه بتقديم ملخص لروايات كاتب عظيم اسمه ساراماجو. وهو الذي بدأ خطاب حصوله علي نوبل بالعبارة التالية: أكثر إنسان حكمة عرفته في كل حياتي كان لا يستطيع القراءة والكتابة. وكان يتحدث عن جده العظيم الحكاء الأكبر الذي شكل خيال جوزيه الأديب الذي ظل طوال حياته ممنونا لما منحه له جده بسخاء رغم ضيق الحال والفقر الذي عاشه منذ طفولته. وساراماجو يتذكر بفخر كيف أن جده قبل أن يموت ذهب إلي حديقة بيته ليقف أمام كل شجرة ويحضنها ويقول لها وداعا؟ وساراماجو الذي بدأ حياته ميكانيكي سيارات ومارس مهناً متعددة وشغل وظائفاً كثيرة من أجل لقمة العيش لم يبدأ الانغماس بجدية في التأليف الأدبي إلا في الخمسينيات من عمره. كما أنه ظل متمسكا بشيوعيته، إلا أنه لم يتردد في عام 2003 أن يقطع صداقته الممتدة مع الزعيم الكوبي كاسترو علي أساس أن الأخير «خان أحلام ساراماجو». كما أنه لم يتردد في تشبيه بطش إسرائيل وقسوة تعاملها مع الفلسطينيين مع ما فعله النازيون باليهود في معسكرات أوشويتس وبوكنوالد. جوزيه ساراماجو يطالبني ويطالبك بأن تبقي الطفل الذي بداخلك علي قيد الحياة. الطفل الذي لا يكبر ولا يفقد دهشته. وطبعا أن تحمي وتدافع عن الطفل الذي بداخلك وتتشبث به - خاصة إذا كنت تعرف وتدرك أن هذا الطفل يسعده الحكي واللعب والشغف والاكتشاف. ويشير ساراماجو في سيرته الذاتية «الذكريات الصغيرة» إلي أن هذا الكتاب «يحكي عن الطفل الذي كنت، كأفضل وسيلة لفهم نفسي» ويوم دفنه في أرض وطنه البرتغال احتشد أكثر من 20 ألفا من أبناء شعبه للمشاركة في جنازته. وكان ملفتا للأنظار غياب رئيس الجمهورية انيبال كافاكو سيلفا. وكان الرئيس الحالي هو رئيس الحكومة في عام 1992 عندما عارضت الحكومة البرتغالية إعطاء جائزة أدبية له عن رواية «الإنجيل حسب يسوع المسيح» وذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية لم تعجبها الرواية ومضمونها - والمسلك الذي اختاره ساراماجو. ومن يومها انتقل ساراماجو إلي منفاه الاختياري في لانزاروتيه جزر كناري أسبانيا. وساراماجو وهو يتحدث عن دور القراءة في حياتنا يقول بعض الناس يمضون كل حياتهم وهم يقرأون ولكنهم في قراءتهم لا يتجاوزون تلك الكلمات الموجودة علي الصفحات.. إذ إنهم ربما لا يفهمون أو يدركون أن تلك الكلمات مجرد أحجار وضعت بعرض نهر سريع الجريان.. وأن سبب وجودها هناك هو أن يكون في امكاننا المشي عليها والوصول للشط الأبعد إنه الجانب الآخر الذي يجب أن يعنينا. «ويكتب أيضا» كل إنسان منا يملك قطعة من الأرض ليفلحها والأمر المهم هو أن يحفر بعمق" نعم أن نحفر بعمق وأن نطير ونحلق في الأفق وأن نري النور ونعشقه - هذا هو حقنا وواجبنا كمان إذا كانت الفراشة تعني الحرية والانطلاق فهي تعني أيضا أن كل شيء في حياتنا ممكن الدودة الثقيلة اللي بتزحف علي الأرض اذ بها تتحول إلي فراشة جميلة وجذابة وبتطير في دوائر وتبهرك بخفة حركتها وطيرانها نحو الزهور والنور. وساراماجو مثله مثل رفاقه من «عشاق النور» نبهنا إلي ضرورة أن نتعلم ونتعلم دائما وأبدا حتي ممن لا يعرفون القراءة والكتابة - المهم أن نتعلم وأن نبصر وأن نري النور بل ونعشقه - ليه لأ! أيوه لازم تعشق النور وتسعي إليه وأن تكون لديك القدرة علي التحول والتجدد والتحمل والتجمل والتحرر مثل الفراشة وألا ترضي أبداً بأن تزحف علي الأرض طالما لك أجنحة هي الفراشة أحسن منك ؟! أيها الإنسان!