لم تعد النسمات تحرك أوراق الشجر ...فالصيف جاء مبكرا، فنحن الآن فى شهر مايو من عام 1805، وكعادة المصريين قبل شقشقة الصبح، ينتظر الجميع السقا الذى يحمل المياه إلى البيوت لتستقر فى جوف الأزيار والقلل. يبدو أن القاهرة تعيش أياما مختلفة، فهم ينتظرون شيئا آخر يجعلهم يتحدثون فى الأزقة والحارات، وعند أبواب البيوت المتلاصقة عما فعله السيد عمر مكرم وأصحابه. حرارة الكلام تعلو عن حرارة الجو، فالحديث متصل حول جنود الوالى الذين هاجوا وماجوا وخربوا البيوت حتى إن الناس لا يجدون غير الأزهر الشريف يلجأون إليه. وبالفعل يذهب علماء الأزهر والمشايخ إلى الوالى خورشيد باشا، ولكن حتى الوالى لن يفعل شيئا، فكل ما يشغل تفكيره هو متابعة تحركات محمد على قائد الفرقة الألبانية الذى صدر له فرمان من الباب العالى بتعيينه واليا على جدة. ولكن أين هذا القائد الماكر، الحيلة لم تفلح معه بعد أن رفض الصعود إلى القلعة لتلقى الفرمان، كما أن السؤال الذى يفرض نفسه... من يدفع رواتب هؤلاء الجند الذين يبدون كجراد يأكل كل ما فى طريقه من الأخضر واليابس. ضريبة جديدة تفرض على أهل المحروسة... شر لابد منه حتى يرحل هؤلاء الجند. فهذا ما قاله الوالى الذى لم يتصور أنه بعد يوم و ليلة يجتمع السيد عمر مكرم والعلماء فى بيت القاضى الذى يحوطه الحرافيش وأصحاب الدكاكين والتجارة من كل جانب، وهم يصرخون ...يارب يا متجلى أهلك العثمللى. كلمة أفزعت خورشيد باشا..ولكن ماذا كان ينتظر من المصريين الذين اجتمعوا ليحرروا وثيقة كتبوا فيها هذه الشروط... ممنوع منعا باتا فرض ضريبة جديدة، يرحل عن المحروسة جند الوالى على أن تكون جزيرة الروضة هى مكانهم الوحيد للترفيه، لابد من تأمين الطريق بين المحروسة وبين الأرياف والصعيد، أما قوافل الحج إلى مكةالمكرمة فلابد أن تصان وتلزم الأمان. يرفض الوالى، فالمخاوف كثيرة وإن كان ليس من بينها ميلاد ثورة جامحة، فهذا جند فقد السيطرة عليه، وهناك غضب من الباب العالى الذى لا يعرف قاموسه كلمة ثورة، والخوف كل الخوف أن يفقد هيبته كحاكم، فيقرر العلماء والمشايخ الذهاب إلى دار المحكمة، ومنها إلى بيت محمد على. يتردد محمد على القائد الشاب الألبانى بل ويتمنع...تصرف يذكرنى بما فعله السلطان الجركسى برقوق الذى جلس على العرش منفردا بعيدا عن شريكه المملوكى بركة بعد أن أقنع الحرافيش برسالة ود وسلام، فقبلوه بعد أن بلغ بهم الإحساس بالظلم والغبن مبلغا عظيما فى ظل حكم لا يلتفت لمصلحة أهل مصر الحقيقيين، فلجأوا إلى سلاح النكتة والسخرية فسمعوا فى الحوارى يصيحون «برقوق وبركة نصبا على الدنيا شبكة». حقا صدق المصريون وإن كان من نصب الشبكة على بر مصر هو برقوق وحده الذى استطاع أن يتجاوز العداء، وذهب يعطى للمصريين ويتقرب إليهم لينفرد بحكم بر المحروسة محمولا على أكتافهم وأحلامهم. أخيرا يقبل محمد على الولاية، وفى الوقت نفسه ينشغل العلماء والمشايخ فى تحرير فتوى خلع الوالى، الذى لم يزده الأمر إلا عنادا فما كان من المصريين الا ان اندفعوا فى جمهور كبير وصل إلى الأربعين ألفا يريدون على اختلاف طبقاتهم محاصرة القلعة، حتى أن حماستهم جعلتهم ينقلون مدفعا كبيرا من طابية قنطرة الليمون وتركيبه بجبل المقطم لقصف أسوار القلعة كما يشير كتاب «محمد على وعصره». ويستمر القتال وتصمد المناوشات المصرية، حتى يأتى رد السلطان العثمانى متأخرا بعد أن بلغ قيظ يوليو مبلغه بالقاهرة التى تلقت بكل ترحيب وتهليل استجابة السلطان العثمانى بعزل الوالى خورشيد باشا، وتثبيت محمد على الذى سبق أن اختاره المصريون . ولكن هل يمكن أن نتصور أن المشهد انتهى وان الستار يوشك على النزول، فالمصريون لم يكونوا نائمين حتى يقال إن جنود بونابرت أيقظوهم بعد سبات عظيم فرضته الدولة العثمانية، والدليل ثورة عام 1795 ضد جنود المماليك بقيادة الشيخ الدردير شيخ الأزهر الذى أفتى بجواز استيلاء المصريين على مخصصات المماليك، فى حالة اعتداء المماليك على املاك المصريين. والوالى ليس بالبساطة المتصورة التى تسمح بتشبيهه بالعثمانى الجاهل الذى يصوره فن الكاريكاتيرالساخر، فهناك معلومة مصدرها د.خالد فهمى عن سبقه لمحمد على فى تشكيل قوة عسكرية حديثة من المماليك المصريين ومن السودانيين، حتى انه ألبسهم لبسا أوروبيا و دربهم على الأصول الجديدة وسماهم «النظام الجديد». كما أن المشهد فى بر مصر لم يعرف فقط المصريين والوالى، فمصر لم تكن الجائزة الكبرى للعثمانلية وحدهم، فهناك بكوات المماليك الذين يعتبرون المحروسة ملكا خاصا لا ينتزع ومنهم الألفى بك وكان صديقا للانجليز والبرديسى الذى غنى له المصريون «ايش تاخد من تفليسى يا برديسى» صديق الفرنساوية، وبينهما عثمان بك حسن الموالى للعثمانيين، فهؤلاء لا يجدون غضاضة فى التحالف مع الإنجليز أو العثمانلية أو حتى الفرنساوية الذين يعرفون مداهنات السياسة وتجرع الخشوع أمام الباب العالى فى الأستانة، فكانت لهم خططهم للعودة وكأنهم لم يقتنعوا بالهزيمة على أرض مصر، وهناك قوة الانجليز التى تقدر باثنين وعشرين ألف جندى تقف على الأبواب المصرية بعد أن تيقنوا أنها فى أقل تقدير هى الطريق إلى مستعمرات الهند. كل هذا كان يعرفه محمد على بن إبراهيم أغا على الألبانى الذى كان عليه أن يقرأ الخريطة قراءة صحيحة، فهو ابن رئيس الحرس المكلف بخفارة الطرق فى ميناء لاكافالا أو قولة مسقط رأس الاسكندر الأكبر الذى أنجب سبعة عشر ولدا لم يعش منهم سوى محمد على- وهذه حقيقة تاريخية جاءت فى كتاب محمد على وعصره-، غير أنه توفى ليتولى شئونه عمه طوسون ثم إسماعيل الشوربجى حاكم المدينة وصديق والده الذى رقاه إلى رتبة البلوكباشى وزوجه من إحدى قريباته الأرملة الغنية وهو لم يتجاوز بعد الثامنة عشرة. وفى سن صغيرة لعبت الصدفة لعبتها، وترك محمد على قولة ليلتحق بقيادة الجنود الألبان الأرناءوط الذين جاءوا إلى مصر التى كانت مسرحا لطموحه الجارف الذى أصبح محركا لأحداث أطاحت بالوالى والبرديسى، وولاية أحمد باشا الذى كان واليا عثمانيا على المدينةالمنورة وولاه الانكشارية الحكم على مصر حين كان محمد على عند أبواب القاهرة قائدا لأربعة آلاف مقاتل ألبانى. حقيقة من الصعب أن نتوقف عند هذا أو ذاك ممن كانوا فى مرمى دهاء محمد على، فهؤلاء جميعا حتى الزعماء الشعبيين لم يكونوا الا خطوات اقترب بها من ملك مصر وهو فى منتصف الثلاثينيات من العمر. فهذا الرجل الذى أراد أن يبدو عصاميا أمام الجميع ويحسب نفسه من مواليد العام نفسه الذى ولد فيه نابليون، لا ينبغى النظر إليه على أنه داهية وصل إلى عرش مصر معتليا الظروف التى امكنته، فأمامه مماليك ونظام إدارى مترهل، وعدد سكان مصرالذى هبط إلى أقل من ثلاثة ملايين، وفقر ومرض...وطموح بدولة كبيرة أرادها. وهكذا تحقق ما قال الجبرتى فى «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»: وتم الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة على سيره بالعدل، وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم، والا يفعل أمرا الا بمشورته ومشورة العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه»... فماذا حدث فى بر مصر المحروسة؟ في الحلقة القادمة.. ايام محمد على فى مصر