«الفجر الساعة 4,18».. مواعيد الصلوات الخمسة فى المنيا والمحافظات السبت 14 يونيو    ارتفاع كبير في عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 13-6-2025 بعد هجوم إسرائيل على إيران    تُرفع حتى الأخذ بالثأر وتعني إعلان حالة الحرب.. قصة الراية الحمراء في إيران    إيران تطلب من مجلس الأمن الدولي يعقد اجتماعًا طارئًا اليوم    بيريز يدعم لاعبي ريال مدريد قبل مواجهة الهلال في كأس العالم للأندية    بدون زيزو وبن رمضان.. إكرامي يختار تشكيل الأهلي في كأس العالم للأندية    اتحاد الكرة ينعى نجم المصري السابق    وضع اللمسات النهائية لأداء امتحانات الثانوية العامة بجنوب سيناء 2025/2024    ضبط طالب ظهر في مقطع فيديو يلهو بمنتصف أحد المحاور بالمقطم    تضامني مع غزة.. وقلبي وعقلي وضميري مع مصر    برنامج تدريبي عن مبادئ وأساسيات الإتيكيت المهني للعاملين ب المتحف المصري الكبير    «الرقابة النووية»: نتابع كافة التطورات ونرصد المستويات الإشعاعية في مختلف أنحاء الجمهورية    قرار جديد من الفيفا قبل انطلاق مونديال الأندية    ليفربول يكشف موعد الإعلان عن ضم فيرتز    محمد شريف يسخر من أنباء انتقاله لأحد أندية الدوري    إزالة 10 تعديات على أملاك الدولة والأراضي الزراعية في الشرقية    ميناء دمياط يستقبل 5 أوناش رصيف عملاقة لمحطة الحاويات «تحيا مصر 1»    تجهيز 24 استراحة للمشاركين في امتحانات الثانوية العامة ب كفرالشيخ    إصابة 5 أشخاص في حادث انقلاب سيارة بوسط سيناء    شديد الحرارة ورياح وأتربة.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الأيام المقبلة    النقل تناشد المواطنين المشاركة معها في التوعية بعدم اقتحام المزلقان    ب «فستان أحمر ورقصة مع العروسة».. ياسمين عبدالعزيز تتصدر الترند بعد فرح منة القيعي    الفيلم المصري «happy birthday» يحصد 3 جوائز من مهرجان تريبيكا بأمريكا    أنشطة وورش متنوعة لأطفال روضة السيدة زينب احتفالا باليوم العالمي للعب    كل ما تود معرفته عن الدورة ال45 للمعرض العام للفن التشكيلي    خطباء المساجد بشمال سيناء يدعون للوقوف صفا واحدا خلف القيادة السياسية    وزارة الطيران: المجال الجوي المصرى آمن ويعمل بشكل طبيعي    بعد اغتيال رئيس الجيش الثوري.. كيف توقع المسلسل الإسرائيلي "طهران" ما حدث    استمرار توافد محصول القمح وتوريد 292 ألف طن بمراكز التوريد والتخزين بالدقهلية    3 أيام متتالية إجازة رسمية للموظفين والبنوك والمدارس    الصحة تطلق حملة توعوية لتعريف المرضى بحقوقهم وتعزيز سلامتهم بالمنشآت الطبية    عرض أولى حلقات مسلسل فات الميعاد اليوم على watch it وغدًا على DMC    حملات أمنية لضبط جالبي ومتجري المواد المخدرة والأسلحة النارية والذخائر غير المرخصة في أسوان ودمياط    إنفوجراف| إسرائيل تدمر «عقول إيران» النووية.. من هم؟    إخلاء سبيل والد عريس الشرقية المصاب بمتلازمة داون ووالد عروسه    أسباب عين السمكة وأعراضها ومخاطرها وطرق العلاج والوقاية    تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء.. تحرير 137 مخالفة لمحلات لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    الحج السياحي في مرآة التقييم ..بين النجاح وضيق المساحات.. شركات السياحة تطالب بآليات جديدة لحجز مواقع الحجاج بالمشاعر المقدسة .. دعوات بعودة التعاقد الفردي مع المطوفين    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من الجامع الأزهر    وكيل الأوقاف ببني سويف يوجه بضبط استخدام مكبرات الصوت لعدم إزعاج المواطنين    كوكا: ميسي يكلم الكرة.. ولا أحب اللعب في هذا المركز    بعد استهداف إيران.. رئيس الأركان الإسرائيلي: «كل من يحاول تحدينا سيدفع ثمنا باهظا»    كأس العالم للأندية - الأهلي يواصل تحضيراته لمواجهة إنتر ميامي    رئيس مدينة بلبيس يتعرض لمحاولة اعتداء مسلح أثناء ضبط مخالفة بناء    من صمت الصخور إلى دموع الزوار.. جبل أحد يحكي قصة الإسلام الأولى    رئيس الوزراء: نتابع الموقف أولا بأول وتنسيق بين البنك المركزي والمالية لزيادة مخزون السلع    الدولار الأمريكي يرتفع متأثرا بالضربة الإسرائيلية على إيران    أبو العينين: طارق أبو العينين ابتعد عن سيراميكا كليوباترا بعد انضمامه لاتحاد الكرة    سعر الفراخ بالأسواق اليوم الجمعة 13-6-2025 فى المنوفية.. الفراخ البيضاء 87 جنيه    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 13-6-2025 في محافظة قنا    في ختام رحلة الوفاء.. أسر الشهداء يغادرون المدينة المنورة بقلوب ممتنة    نتيناهو: نحن في لحظة حاسمة في تاريخ إسرائيل وبدأنا عملية «شعب كالأسد» لإحباط المشروع النووي الإيراني    مع إعلانها الحرب على إيران.. إسرائيل تُغلق مجالها الجوي بالكامل    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يؤكد على دور الإعلام الحيوي في دعم المنظومة الصحية    تعرف على برامج الدراسة بجامعة السويس الأهلية    دينا عبد الكريم تلتقي بالسفير حبشي استعدادًا لجولة كبرى لبناء قواعد للجبهة الوطنية من المصريين بالخارج    موعد إجازة رأس السنة الهجرية 2025.. عطلة رسمية للقطاعين العام والخاص    تعامل بحذر وحكمة فهناك حدود جديدة.. حظ برج الدلو اليوم 13 يونيو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض من ذكرياتى
عمرو عبدالسميع
نشر في الأهرام اليومي يوم 17 - 04 - 2015

«أننا ولو كنا لم نلتق. إلا أن كلانا يعرف الآخر تماماً» كانت تلك كلمات الرسالة الخطية التي بعث بها الجنرال شارل ديجول رئيس فرنسا الأشهر وبطل الحرب إلي د.عصمت عبد المجيد القائم بأعمال سفير مصر في باريس عام 1970، حين انتقل جمال عبد الناصر إلي رحاب الله .
فتحت سطور تلك الرسالة حديثاً طويلاً بيني والدكتور عصمت الذي صار في السنوات التي تلتها وزيراً للخارجية ثم أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، وعلي امتداد تاريخه شغل مواقع أخري كثيرة نائباً لرئيس الوزراء، ورئيساً للهيئة العامة للاستعلامات ورئيساً لوفد مصر بالأمم المتحدة.تعود أن يقول لي- بهدوئه وابتسامته الوديعة-: «أنت- دائما- تفاجئني بالموضوعات التي تحدثني فيها»..وكان يقصد أنني في حوارات عديدة أجريتها معه علي طول أكثر من عقدين، طرحت عليه أسئلة في أمور غير سياسية، وهو ما أسميه: (عمق الحوار) أو الخلفية الفكرية والمزاجية التي تصوغ رؤية من أتحدث إليه، فالحوار الصحفي والتليفزيوني ليس ثرثرة مرسلة نستدلق فيها الكلام علي أدمغة من يقرأنا أو يسمعنا أو يشاهدنا، وليس إناء يذهب به الصحفي أو الإعلامي إلي مصدره ليملأه ويعود به ظافراً، دون أن يفهم حرفاً مما يحمله، أو يعرف كيف ولماذا طرحه المصدر علي نحو دون غيره.

الحوار عمل إبداعي بين طرفين، وعادة لا أجريه إلا مع من أدرسه جيداً، ولا أقدم عليه إلا بعد عدة اقترابات استكشافية (إذا جاز التعبير)، ألتقي فيها (الهدف) وأتكلم معه، في حديث غير منشور حتي- علي الأقل- أضع يدي علي طريقته في التفكير.

وقد كان حواري مع الدكتور عصمت عبد المجيد- في كل مساراته- هو- بلغة- تشارلز ديكنز (قصة مدينتين)، إذ دارت وقائعه وتوالت أفكاره بين عاصمة النور باريس، والإسكندرية عروس البحر الأبيض، يعني كنا- دوماً- نتكلم علي شاطئين لبحر واحد، أو علي جسر يربطهما ويصل بينهما منذ ست سنوات تنويرية مبهرة أمضاها جيش نابليون في مصر إبان حملته الشهيرة.

البناء الثقافي (الفرنسي/ السكندري) لشخصية عصمت عبد المجيد كان- باستمرار- مدخلي إليه، حتي لو كنت أقصد- في نهاية المطاف- تحصل خبر أو السؤال عن معلومة سياسية لإحدي صحف (البان آراب) الدولية العربية التي عملت فيها تباعاً مديراً لمكاتبها في القاهرة لسنوات طويلة سواء كانت جريدة الشرق الأوسط أو جريدة الحياة.

وقد كان لي معه حوار عن التاريخ أجريته في مكتبه بجامعة الدول العربية عام 1992، استفتحه بالحديث عن الأستاذ أحمد بهاء الدين، واصفه بأنه (جبرتي العصر) «الذي صاغ في عموده (يوميات) بالأهرام مشكلات مجتمعه العربي، واتصل بالواقع الذي نحياه، وعبر عنه بأسلوب مبدع وفكر ناضج..إننا نحتاجه الآن ونحتاج إلي رؤيته»، وعن التاريخ جاء ذكر شارل ديجول- كذلك- الذي قال عنه:»هو بالنسبة لي..معني كبير يمثل كفاح قائد عبر ببلده إلي الحرية، برغم محاولات تجاهله أو عزله حتي من أصدقائه المقربين، وفي هذا بُعد درامي مثير علي المستوي الإنساني.

ديجول أثبت بعد نظره سياسياً في معالجة ملف الجزائر جامعاً بين القدرة والحكمة، ومن هنا كان إعجابي الكبير به، وقد كان أول لقاء لي معه عندما تعينت في باريس كوزير مفوض بعد عودة العلاقات المصرية / الفرنسية عام 1963 (والتي كانت قطعت إبان العدوان الثلاثي علي مصر عام 1965)، وكنت- وقتها- قائماً بالأعمال، ودعيت إلي مقابلة الرئيس الفرنسي، مع عدد كبير من السفراء والديبلوماسيين، ومر ديجول يصافهم واحداً واحداً، ولما أعلن مدير مراسم الإليزية اسمي، وأنني ممثل لمصر، توقف ديجول وحملني تحيات وتمنيات للرئيس جمال عبد الناصر، وقد يبدو ذلك التصرف وكأنه روتيني أو مجرد مجاملة، ولكنه لم يك كذلك، لأنه لم يفعلها مع أي سفير أو وزير آخر ممن حضروا حفل الاستقبال، وأخيراً فقد كان صاحب الرسالة الخطية التي بدأت بها حديثي إليك».

هناك بعض الشخصيات التي يستدعي مجرد ذكر اسمها معني (التاريخ)- هكذا قلت لعصمت عبد المجيد- طالباً منه أن يذكر أحدهم- غير ديجول ممن لقيهم في الفضاء الفرنسي التنويري فقال:»أذكر في هذا السياق مستشرقاً فرنسياً شهيراً اسمه جاك بيرك جمعتني به- ومكسيم روبنسون معرفة وصداقة أثناء دراستي في باريس، وقد كان بيرل في أحاديثنا التي تتناول القضية الفلسطينية ومشكلة الشرق الأوسط، وقضية الاستعمار والتحرر في العالم العربي- وبالذات موضوع الجزائر- دائم الترديد لمقولة مفادها: أن علي العرب أن يحافظوا علي أصالتهم لأنها التي ستمكنهم من النظر إلي المستقبل بصورة مطمئنة، وإذا لم يحافظوا علي تلك الأصالة فسوف يجرفهم تيار يلغي هويتهم الذاتية تماماً».

ولما وجدني أواصل الإلحاح وأسأله:«ومن أيضاً ؟!»

أجابني:»أندريه مالرو، وزير الثقافة في عهد ديجول الذي التقيته مرات كثيرة، وأري أنه أحد عمالقة الفكر في عصرنا، وكان يحمل لمصر وحضارتها القديمة محبة خاصة جداً، حتي إنه كان الرجل الوحيد في العالم الذي نجح- في زمانه- أن يحصل علي تأشيرة خروج من مصر لجلالة الملك توت عنخ آمون، إذ بذل جهداً هائلاً لتحصل موافقة السلطات المصرية علي عرض مجموعة الملك توت في باريس، وعاونه في ذلك وزير الثقافة المصري في ذلك التوقيت (1965) الدكتور ثروت عكاشة، وهو وزير ثقافة رفيع المستوي لطالما دارت بينه ومالرو مناقشات فكرية وحضارية خصبة وممتعة..وكانت أمينة متحف اللوفر مدام نوبل كور تبذل جهوداً هائلة في إعداد المكان اللائق لعرض المجموعة الملكية في (البتي بال) باللوفر، وهي- كذلك- التي لعبت- من قبل- دوراً كبيراً في إنقاذ معابد النوبة حتي إننا أسميناها في السفارة المصرية (أم سنبل) إشارة إلي معابد أبي سنبل».

وتواصل حديثي مع الدكتور عصمت عبد الحميد عن (التاريخ) في مناسبة أخري، حين دعاه عبد الكريم المدرس رئيس غرفة التجارة المصرية البريطانية في آخر التسعينيات ليكون ضيف الحفل السنوي للغرفة، وعندها اتفقنا علي اللقاء عند الإفطار في فندق الدور شستر بمنطقة بارك لين في مواجهة حديقة هايد بارك وإخترنا إفطاراً من القائمة اللبنانية التي كان الدور شستر أدخلها في ذلك التوقيت،وبدت صرعة لافتة، وإن استشرت- بعد ذلك- في كل المطاعم والفنادق الكبري، وصار النادلون يحفظون أسماء الأطباق الشهيرة فيقولون: (taboola) و(Mashawi) و(Fatoosh) مزهوين بشطارتهم في حفظ تلك الأسماء. وفي ذلك اللقاء سألته عن تقييمه لسيل المذكرات السياسية التي يدبجها المسئولون المصريون وبالذات عند خروجهم من السلطة ما نحين أنفسهم أدوار البطولة في مشاهد تاريخية لم يك أحدهم يحلم فيها بدور كومبارس..وعندها ابتسم عصمت- هادئاً- من جديد قائلاً: «هذه ليست مذكرات ولكنها أعمال فنية يغلب فيها دور الخيال علي جمع الحقائق وتسجيلها» ثم أردف بغتة:»لماذا تسأل عن ذلك الموضوع..يبدو أنك تقصد شيئاً بالتحديد ؟!»

وحكيت له أنني- بالفعل- صادفت عدداً من الحالات شككتني في دقة ما تحويه مذكرات شخوص عامة أو إلتبسها الغرض في عملية النشر التي قام بها أصحابها، أو دفعهم البعض إليها، أو سادتها رغبات غسيل السمعة أو التجاوب مع وساوس جنون العظمة».

إحدي حالات هاتيك المذكرات كانت مذكرات محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية الأسبق الذي استقال من منصبه وقت مفاوضات كامب دافيد، احتجاجاً علي ما رآه تفريطاً في الحقوق المصرية.

وعلاقتي بذلك الموضوع بدأت بمهاتفة من محمد حسنين هيكل وقتما كنت مديراً لمكتب جريدة الشرق الأوسط في القاهرة، وجاءني صوته متهلهلاً كعادته حين يبدأ حديثاً وراءه شىء يريد إخفاءه: «إيه يا سي عمرو..بتعمل إيه النهاردة الصبح ؟..تحب تيجي تشرب فنجان قهوة»..وكعادته أطلق هذه الجمل كمجموعة من الحتميات واجبة النفاذ من ساعته وتاريخه، ولقد اعتبرت ذلك النسق هو جانب (الشكل) في العلاقة الذي لا أهتم كثيراً بمعارضته، كما أهتم بمعارضة (الموضوع)، وعليه أخبرته بأنني قادم إليه، فلما أدخلني سكرتيره- وقتها- (منير عساف وله حكاية طويلة سأحكيها في سياق آخر) وجدت هيكل يرتدي إحدي بدله الرمادية المشوبة بزرقة كالعادة، مع رابطة عنق كحلية، ويمسك بين أصبعيه بسيجار كوبي (كوهيبا) كبيرا جداً، وقبلني قبل أن يقدمني لشخصين يجلسان إليه أمام مكتبه الذي يحب جداً أن يتحدث إلي ضيوفه من خلفه، أحدهما أعرفه- قطعاً- وهو السيد محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية الأسبق، والثاني لم أره من قبل، وقدمه هيكل لي علي أنه السفير نبيل العربي، الذي قام من جلسته، وطلب مني أن أجلس مكانه، ثم إكتفي بالوقوف إلي جوار باب المكتب، متكئاً بظهره إلي حائط يجاور ربليكا أو نسخة لأحد تماثيل الكاتب المصري، منحوت بلون جعله يشبه حجر البازلت، وفوق الحائط تناثرت نسخ لخرائط مصر التاريخية، وهي بعض ما يباع في محلات إنجليزية متخصصة و- بالذات- في منطقة نايتسبريدج خلف هارودز.

نهايته بادر هيكل بالحديث عن أن السيد محمد إبراهيم كامل كتب مذكراته، وأننا (لا أعرف- حتي الآن- من قصد بكلمة أننا) نبغي نشرها في جريدة الشرق الأوسط، فإذا راقتك (هذه كانت موجهة لي) دعنا نتفق علي سعرها مع ناشري جريدتك (يقصد الشرق الأوسط) ولكن عن طريقك.

وطبعاً إختيار تلك الجريدة للنشر مدروساً لأنها كانت معادية لكامب دافيد، بل كان وزير الإعلام الأسبق عبد المنعم الصاوي يتحدث بيقين- عن أنها نشأت لتحارب مصر (كامب دافيد) وهكذا كان موقف السعودية في ذلك التوقيت .

وقلبت صفحات النص الذي أعطاني محمد إبراهيم كامل، فوجدت عناوينه طريفة علي المستوي الصحفي وبالقطع ملىء بالمعلومات، التي صيغت- ربما- بحدة رجل أراد أن يسجل موقفاً، هو- بطبيعته- ضد رئيس الدولة ذاته.

وعند هذه النقطة لابد لنا أن نأخذ هامشاً علي شخصية محمد إبراهيم كامل، إذ كان شركسياً، وربطته علاقة سجن بأنور السادات، وكان ابناً لعائلة ثورية، وقد ظل- يتحدث عنه بتعال وربما ازدراء حتي المرة الأخيرة التي رأيته فيها- بعد حكاية المذكرات- حين ذهبت إليه بمنزله في 6 شارع جزيرة العرب بالمهندسين وكنت أعد تحقيقاً عن العلاقات المصرية السوفيتية تحدثت فيه إلي خمسة من وزراء الخارجية هم: محمود رياض ومراد غالب ومصطفي خليل، وإسماعيل فهمي ومحمد إبراهيم كامل.

فوق ذلك فقد عمل إبراهيم كامل في مكتب السيد محمد حافظ إسماعيل مستشار السادات للأمن القومي، ومن ثم تطبع ببعض طباع ذلك الرجل في صرامته وربما في عنفه بعض الأحيان.

كل ذلك كان يفسر رغبة محمد إبراهيم كامل في كتابة مذكراته لتوضيح موقفه الذي ساده إلتباس كبير، وليدرأ عن نفسه غائلة هجوم السادات عليه وإنتقاده المتواصل له، ولكي ينفس عن بعض الكبت الذي أحس به كأي وزير في هذا البلد.

مفهوم إذن موقف إبراهيم كامل، الرجل الطيب الوطني الصادق، لابل واستوعبت حتي رغبته في الانتقام.

وكان موقف هيكل مفهوماً كذلك بالنسبة لي، وإن لم يك مقبولاً، فالرجل يمتلئ بالرغبة في الهجوم علي السادات وشن ما يمكن أن يسمي smearing – campaign أو حملة تلطيخية عليه، بعدما كان جزءاً لصيقاً بإدارة السادات، وشاركه في ضرب عناصر التنظيم السياسي لجمال عبد الناصر(الاتحاد الاشتراكي العربي) في 15 مايو 1971، كما بدا علي استعداد أن يعادي كل البلد في سبيل رضاء السادات حين وصفه بأنه يواجه (جاهلية اليمين وجهل اليسار) يعني كل مصر!!

نهايته..كان نزوع محمد إبراهيم كامل ومحمد حسنين هيكل لنشرالمذكرات والانتقام من السادات مفهوما، بصرف النظر عن مدي إقراري ببواعث كل منهما.

ولكن الذي لم يك مفهوماً لي هو موقف نبيل العربي، الذي يعمل وقت ذلك اللقاء في وزارة الخارجية، ومع ذلك شارك في تسويق مذكرات ابراهيم كامل علي نحو يتقاطع مع سياسات وزارته ومقتضيات وظيفته والزاماتها، وهو مالم أصادفه بأية درجة عند أي ممن عرفتهم من مسئولي وزارة الخارجية علي امتداد عملي الصحفي والإعلامي طوال أربعة عقود، ولكن- فيما بعد- أحطت بالأمر وفهمته عندمارأيت مدي الكراهية التي نجح في إختزانها داخل نفسه للرئيس مبارك لمجرد أنه لم يقتنع به كمرشح لمنصب وزير الخارجية واختار بديلا له، وبما دفعه الي الإندفاع في الإنتقام منه حين احتل مقعد وزير الخارجية في أعقاب عملية يناير2011.

وهكذا نظرت إلي حقده علي السادات في سياق نصرته لصهره محمد حسنين هيكل،وهو مادفعه الي العبورفوق الأعراف السائدة في عمل وزارة الخارجية (تاريخيا) وتجاهل حدود الإلزام والالتزام في تلك الوزارة العريقة اللصيقة بالأمن القومي المصري (مجازياً ومادياً وواقعياً).

وبدأت جلسات مع إبراهيم كامل لمراجعة فصول المذكرات في منزله، وتحديد بعض الفجوات التي تحتاج إلي مزيد معلومات ووثاثق، وكان يربض تحت أقدامنا كلبه العجوز (رعد) والذي كان يخيفني رغم تجاوزه صلاحيته للإرعاب بزمن طويل، فهو كان طاعنا في السن رغم أنيابه وحركات المنظرة التي كان يأتيها حين كان يدخل علينا!! وقد سجلت تلك الجلسات بالكاميرا وبحضور رعد ومؤانسته!.

وفي هذه الجلسات أدهشني أن إبراهيم كامل، كلما ذكرت له نبيل العربي، عبر فوقه بعدم اكتراث شديد، وقد كررت الإشارة الي نبيل العربي لأتأكد من انطباعي، فوجدت الرجل مصراً علي تجاهل سيرة نبيل علي الكلية والتفصيل!

نهايته..وحين فرغت من حكاية مذكرات محمد إبراهيم كامل (وأنا- بالمناسبة- من أطلق عليها:»السلام الضائع»)، وجدت د.عصمت عبد المجيد غارقاً في إحساس غامر بالدهشة، وبدا كطفل يريد الإستزادة من تلك الحواديت الممتعة والمثيرة، وسألني:«وبعدين..ياعمرو»!، ووجدتني أحكي له عن ذلك (البعدين)، وأروي قصة مذكرات السيدة برلنتي عبد الحميد:

إذ دخلت مكتبي في جريدة (الحياة) بعد إنجاز عمل في الخارج، فوجدت السكرتيرات يهرولن خلفي، متحدثات بخطورة عن سيدة تدعي(مدام عامر)اتصلت بهم، وحدثتهم برئاسية آمرة، شاخطة ناطرة ناهرة، قائلة بأنها تريدني في أمر هام، ولكنها لم تعط أحداً في مكتبي رقم هاتفها، وقالت لهن أنها سوف تتصل بي في وقت آخر.

وتحيرت أمام اسم (مدام عامر)ولم أدر جواباً،ولم أتذكر أنني عرفت سيده بذلك الاسم، وكررت السكرتيرات سؤالهن عن كنة (مدام عامر)، ولكنني عجزت عن الإجابة إلا بالتنبيه عليهن بتحويل الخط لي إذا اتصلت في أي وقت.. وكان أن هاتفتني مدام عامر بعد ساعتين من وصولي، وحولوا المكالمة لي،فجاءتني نفس النبرة الرئاسية المفرطة في الثقة وإشاعة الخطورة (طبعا إنت بتسأل نفسك- ياعمرو- مين هيه مدام عامر.. أنا برلنتي عبد الحميد) وابتسمت مندهشا من رفعها التكليف من دون سابق معرفة، ومناداتي باسمي مجردا، كما أضحكتني (بخفوت) الطريقة الدراماتيكية المفعمة بالايحاءات الغامضة التي أحاطت بها إعلانها عن اسمها.

المهم أبلغتني السيدة برلنتي عبد الحميد التي لم أك قد شاهدت لها سوي فيلم«سر طاقية الإخفاء» وبالذات استعراض «الهولا هوب»، وكذلك فيلم «فضيحة في الزمالك» إنها تريد أن تلتقي بي اليوم التالي في الخامسة عصراً..يعني حددت الموعد دون سؤالي!.

وفي الموعد ذهبت الي منزلها بالعجوزة وفي عمارة محل الفول والطعمية (نعمة)، والمشهورة لدي جمهور المثقفين بأنها العمارة التي يقطن طابقها الأرضي الأستاذ نجيب محفوظ.

وصعدت الي الشقة التي وجدت علي بابها لافتة نحاسية كبيرة مكتوب عليها (دكتور عمرو عبد الحكيم عامر)، فتحت لي شغالة أو مديرة منزل لتخبرني أن «الست» تصلي وستأتيني حالاً، وبعد حوالي خمس دقائق دخلت السيدة برلنتي عبد الحميد في خطوات واثقة وقوية،ولفتني أن مظهرها لم يتغير كثيراً، ومنذ الوهلة الأولي لذلك اللقاء عاملتني السيدة برلنتي وكأنها تعرفني من قبل، فقالت لي:«أنا عاملالك رز بلبن وبالقرفة..إيه رأيك؟ أنا عارفه إنك بتحبه»!!

كانت كل تلك المداخل المثيرة كافية كي يتلبسني فضول كاسح، كاد أن يدفعني إلي استعجال إفصاحها عما تريد.

«طبعا إنت عرفت إن بنت ستالين كتبت مذكراتها،وطلبت فيها مليون دولار إمبارح» هكذا استفتحت حديثها، ولم أرد، فواصلت:»وأنا- طبعا- مش أقل من بنت ستالين».

وربما عند تلك الإشارة كنت بدأت أتوقع نوع الموضوع، الذي انكشفت أوراقه أمامي بسرعة حين قالت السيدة برلنتي عبد الحميد أنها بدأت في كتابة مذكراتها، وإنها نزلت الي جارها في الطابق الأرضي الأستاذ نجيب محفوظ، وعرضتها عليه فأخبرها إنها كاتبة ضلت طريقها الي التمثيل!

ولما كنت- بعد فترة من ذلك اللقاء- قرأت فصلين من تلك المذكرات- فإنني أجزم بأن تعليق الأستاذ نجيب ربما كان تهكمياً أو مجاملاً، ولكن الرجل لم يتصور- فيما يبدو- النتائج التي سوف تترتب عليه ومنها اقتناع السيدة برلنتي عبد الحميد الكامل بأنه كان يقصد كل حرف نطق به!

المهم إنني وعدت السيدة برلنتي عبد الحميد بعرض موضوع نشر مذكراتها علي المسئولين في دار (الحياة) لتحديد موقفهم منه، ومن حكاية المليون دولار الذي تحصلته ابنة ستالين!

ووافقت جريدة الحياة علي نشر بعض فصول المذكرات (علي أن اختارها بنفسي) في مجلة (الوسط) الصادرة عن نفس الدار، والتي كنت مدير تحريرها من القاهره، وذلك في مقابل رقم متواضع جداً بعشرات آلاف الجنيهات فقط، وأدهشتني السيدة برلنتي- في زيارة أخري وكاسة أرز بلبن وقرفة أخري، وتحديد موعد من طرف واحد مرة أخري بأنها وافقت علي عرض جريدة الحياة..وبدأت في قراءة النص، وما استلفتني كان إشاراتها السلبية المتواصلة لجهاز المخابرات العامة، في إطارحديثها عن دور صلاح نصر في صراع السلطة الرهيب بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، والذي أسفر- في نهاية المطاف- عن انتحار المشير، واتهام صلاح نصر في قضيتين مروعتين إحداهما (مؤامرة المشير عامر ) وثانيتهما (انحراف المخابرات) عام 1968 .

واستبعدت الفصول التي تتعرض لتلك المسائل لأنني لم أستسغ نشرها في مطبوعة غير مصرية،كما أنني لا أحب- بصفة عامة - التعرض الصحفي والإعلامي لأمور تتعلق بالمؤسسات السيادية إلا في الإطار الإخباري وفي أضيق الحدود.

ونشرنا بضعة حلقات من تلك المذكرات في مجلة (الوسط)، ولكن ما أثار انتباهي، أن السيدة برلنتي عبد الحميد حين أرادت نشر المذكرات في كتاب طبعته دار مدبولي الصغير، حدث شيء خطير إذ قامت إحدي المؤسسات السيادية بمصادرة نسخ الكتاب، وطلبت من الناشر ومن السيدة برلنتي حذف بعض الفصول المتعلقة بالمخابرات العامة، وكانت تلك هي نهاية قصة مذكرات السيدة برلنتي عبد الحميد،وعقد إبنة ستالين، والتعليق التاريخي للأستاذ نجيب محفوظ.

.......................................

أمَا القصة الثالثة فلم تك عن مذكرات (بالضبط) ولكنها كانت عن كتاب اسمه (خريف الغضب) ألفه الأستاذ محمد حسنين هيكل في ظروف وملابسات عجيبه سأحكيها في فصل قادم، وهذا الكتاب اعتبره أسسا لثقافة الانتقام العلني في مصر والمزدهرة الآن .

.......................................

وفي جلسة أخري جمعتني بالدكتور عصمت عبد المجيد في مكتبه بوزارة الخارجية حدثته عن العلاقة التبادلية للإسكندرية وباريس في تشكيل وجدانه ومزاجه، واخترت نقطة نهاية الحرب العالمية الثانية، باعتبار أنها اللحظة التي تلت مباشرة حصوله علي ليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية عام 1944، وقبيل ابتعاثه الي باريس بعامين، بعد أن عمل في قلم قضايا الحكومة.

وقال لي عصمت عبد المجيد :» إن حياة الإنسان جزء من تاريخ مسقط رأسه، وتاريخ كل محافظة هو جزء من تاريخ الوطن الأكبر،وهو- بدوره- جزء من تاريخ الانسانية .. وقُدر لي- في صدر شبابي- أن أعاصر فترة من كفاح شعب الأسكندرية ضد المستعمر الغاصب، أو ضد الفساد، وشهدت تصاعد حركة المد الوطني الساعي إلي الاستقلال وإرجاع الحقوق الي أصحابها (طبعا بعد ذلك حضرعصمت عبد المجيد- كأحد أفراد الوفد المصري- مفاوضات الجلاء مع الاستعمار البريطاني)..ولا أنسي معارك والدي للدفاع عن الكادحين وآمالهم في حياة أفضل،والدفاع عن حقوق إخوانه الموظفين، حتي قام بإنشاء جمعية تعاونية لموظفي الجمارك، وأنشأ مستشفي المواساة بالإسكندرية علي الرغم من كل الصعوبات التي واجهته وأدت إلي إحالته للمعاش قبل السن القانونية بإحدي عشرة سنة (محمد فهمي عبدالمجيد هو صاحب التمثال في المدخل الرئيسي لمستشفي المواساة بشرق الإسكندرية وقد أُطلق اسمه علي مدرسة بمنطقة كوم الدكة التاريخية بالمحافظة وتوفي عام 1943)..

وواصل د.عصمت عبدالمجيد:»كان العام الذي سألتني عنه نقطة مفصلية تاريخية، إذ فيه إنتهت الحرب العالمية الثانية، وبدأت فترة جديدة من السلام في العالم..وبالنسبة لي شخصياً كانت استهلالاً ثقافياً لدراستي في الخارج، حيث كنت ضمن أول بعثة تسافر الي باريس بعد الحرب لدراسة القانون والحصول علي الدكتوراه من جامعة السوربون، وذلك في أعقاب نجاحي في امتحان وزارة الخارجية عام 1945.. وحصلت من السوربون علي درجة الدكتوراه عن (محكمة الغنائم في مصر)..وقد شكلت الإسكندرية محوراً مؤثراً جداً في حياتي بعراقة تراثها الثقافي الذي رسخت جذوره منذ ثلاثة وعشرين قرناً اتصالا بدور أكاديمية الإسكندرية ومكتبتها المشهورة، وبها صارت الأسكندرية هي عاصمة العقل في العالم القديم، وتلا ذلك امتزاج الثقافتين الإغريقية والمسيحية، ومنذ الفتح العربي لمصر قامت مساجد الأسكندرية ومعاهدها الإسلامية بدور رائع كمراكز عامرة بأعلام الدين والفقه والصوفية، وفي هذا الجو والموقع تبلورت ثقافتي».

وقال:«ذهبت الي باريس وعمري 24 عاماً، وكان أكثر ما أثار إهتمامي (من باب الدراسة لا الإقتناع) التعرف علي الفكر اليساري وربما ساعدني علي ذلك وجود زملاء لي في البعثة يعتنقون مثل ذلك الفكر مثل الدكتور إسماعيل صبري عبدالله (الذي بات- فيما بعد- وزير التخطيط في مصر) ود.لبيب شقير (الذي أصبح- فيما بعد- رئيساً للبرلمان المصري).. أما الأكثر تأثيراً من الفرنسيين في تكويني فهم أساتذتي، إلا أن تأثيرهم فينا لم يك منصباً علي دفعنا للاشتراك في محاورات ذات طابع أيدولوجي بمقدرا ماكان إضافة ثقافية وعلمية لنا،ومن أولئك روسو أستاذ القانون الدولي، وسيجفريد الذي درس لي مادة كانت جديدة علي طالب حقوق مثلي وهي الجغرافيا السياسية..الدراسة في الجامعة الفرنسية كانت خليطا من العلم والثقافة معاً، وهي في حد ذاتها قائمة علي المناقشة العقلية والجدلية في كل شيء، وكنت أجد ذاتي تماماً في استقبال ذلك اللون من الجدل المعرفي».

«كانت اهتماماتي متنوعة وقت وجودي في باريس (هكذا تحدث ثم أضاف)»كانت صحيفة (لوكانارد أنشينيه)علي خارطة قراءاتي وهي تعد معادلاً موضوعياً لمجلة (البعكوكة) المصرية الساخرة،ولكن بفارق واحد،هو أن نقد (لوكانارد أنشينيه) أو(البطة المقيدة) كانا عنيفاً للغاية ،والاعتياد علي قراءة تلك الصحيفة يشترط المعرفة والفهم للعقلية الفرنسية، والاندماج في طريقة تعبير الفرنسيين عن مشاعرهم، ومع ذلك الاختلاف بين الصحيفة الفرنسية ونظيراتها المصريات، فإن النكتة المصرية عالمية بأي مقياس، وقيمتها في تعدد مستوياتها، فهناك من الكاريكاتير المصري(كأحد مظاهر النكتة) مايقترب من اسلوب «لوكانارد آنشينيه» في سخريتها العنيفة الخشنة مثل رسوم (كفر الهناودة)، وهناك غير ذلك أشكال متعددة جداً من التعبير المصري الساخر تتجاوز ذلك، ويفهمها أي متلقي أجنبي ويقدرها حق قدرها،وقد لاحظت ذلك- كثيرا -:إبان عملي الدبلوماسي وخلطتي بإناس من جنسيات مختلفة».

وحين سألته إذ كان يعتقد أن تقبل رئيس الوزراء عاطف صدقي للسخرية المرسومة في كفر الهناوده هو أمر يتعلق بطبيعة تكوين ومزاج (البيه عاطف) أم أنه تعبير عن تغيير في شكل المجتمع المصري نفسه..أجابني فوراً:

«أولاً عاطف صدقي باريسي الهوي وعاش في فرنسا فترة طويلة حين عمل مستشاراً ثقافياً لمصر،ومن ثم تشكل مزاجه علي قبول النقد وإتساع صدره للسخرية، ثم أنه تزوج من أجنبية ومن ثم- مرة أخري- تأثر بتلك الروح الليبرالية (إذا جاز التعبير)، وهي ليبرالية سيكون مضطراً إليها# علي الأقل# في البيت(وضحك الدكتور عصمت ثم واصل)..المجتمع تغير، ولا يستطيع أحد أن يقف في وجه التاريخ..المتغير هو الثابت الوحيد، وأي شخص يتصور أن كل شئ سيظل علي ثباته في العصر الذي نعيش هو واهم..واهم» !

وأذكر أن جمعتني تمشية في نادي الجزيرة بعصمت عبد المجيد حين كان وزيراً للخارجية، إذ تعود أن يفعلها أحياناً بصحبة حارسه، ولكنه كان يمشي الهويني بتؤدة شديدة وخفوت، وكأنه يخشي أن يعرف أحداً بمشيته! علي عكس عمرو موسي الذي- من فرط سرعته- كان يهلك أبداننا إذا قررنا أن نمشي إلي جواره في المضمار الملاصق لحديقة الشاي Tea-garden بالنادي، وقد تعود- هو الآخر- أن يصحب حارسه الذي كان يهرول خلفه،وأظنه فقد الكثير من وزنه جراء مرافقته تلك لعمرو موسي، الذي كان- في كثير الأحيان- يستغل الوقت (أثناء المشي)في إنجاز أعمال ، والإنخراط في مناقشات وحوارات، وأذكر أن صلاح منتصر تحدث إليه طويلاً أثناء مشينا عن مسألة توقيع مصر علي معاهدة الانتشار النووي،التي نشر عنها- بعد ذلك- كتاباً مهماً حسم الكثير من جوانب النقاش العام حول الموضوع.. علي آية حال كانت تلك هي أيام اللياقة البدنية التي تسمح لنا بالمشي المسرع،أما الآن فنكتفي بالسباحة كلما تيسر!

وآسف إذا رجعت- هنا- لسيرة هيكل مرة أخري ،إذ كتب عن إحدي تمشياتنا حول بحيرة سربنتاين بحديقة هايد بارك في لندن وذلك في كتاب له بعنوان(كلام في السياسة)وذكر إنني كنت أتنفس بصعوبة حين حاولت مجاراة سرعته، والحقيقة كانت غير ذلك تماماً فقد كان عائداً من رحلة نقاهة واستشفاء تلت علاجه من ورم خبيث في الولايات المتحدة،ومنعه الأطباء- وقتها- من تدخين السيجار، ومن ثم كان هو الذي يتنفس بصعوبة ويلهث ورائي وليس العكس..وعلي أية حال فأنا لم أفهم لماذا حرص الرجل علي التظاهر بالتفوق في لياقته البدنية، فنحن لم ندخل معاً مسابقة في المشي، ثم أن أحدنا لن يحصل علي جائزة إذا سبق الآخر،ثم أن الحديث عن أن واحداً فينا كان (ينهج) متتابعة أنفاسه لايشين ولايدين ولكنها- فيما يبدو- رغبة عارمة في إعلان التفوق حتي في أمور لا تقتضي إعلانات ،وهكذا فعل هيكل في آخر لقاء بيننا- منذ شهور- في مكتبه، حين وقفت لمصافحته في نهاية المقابلة، فقال لي : (ياسلام يا أستاذ ..طويل أنت ..حاجة هايلة خالص )!

طيب .. ماذا أفعل ؟!

ثم أنني لا أدعي أن طولي يضفي قيمة ما علي مكانتي أو علي وضعي في المجتمع .. كما أن هناك- بالقطع- من هم أطول مني ولا أشعر بأن طولهم يسيئني أو يحط من قدري !

........................................

وأعود الي مشيتي مع د.عصمت عبد المجيد في نادي الجزيرة ، إذ فيها حدثني - طويلاً- عن النزعة الرومانسية التي سيطرت علي جيله، وأشاعت بينهم الحلم بالعدل والحرية «كنا نحلم بالاستقلال ونعيش غمارأحداث الوطن وقتها بمشاعر كاملة»، وأردف:»أحببت أميل زولاً في فترة الشباب» وسألته: (ولكن واقعية زولا تصطدم بطبيعة جيلك وعصرك الرومانسي)،فقال: « فرض الوطن علي جيلي أن يكون واقعياً علي الرغم من رومانسيته،وأن يكون همنا الأكبر هو مقاومة فساد السراي والمطالبة بجلاء الإنجليز وكان بيت الشعر الذي أؤمن به: ومانيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا) وهو تعبير- كما تري- عن الواقعية الشديدة».

......................................

والحقيقة أنني لاحظت علي جيل مابين الحربين، أو مابعد الحرب الثانية بالتحديد،النزوع أو الميل الواقعي، سواء كانت واقعية صلاح أبوسيف في السينما، أو نعمان عاشور في المسرح، أو- حتي- اولئك الذين لاترتبط الواقعية عندهم بموقع طبقي أو اجتماعي محدود.

وفي ذلك أذكر أنني ذهبت مرة في يونيو عام 1989 لزيارة الأستاذ يحيي حقي- الذي كنت أحب الحديث إليه ومحاورته ومداورته كلما سمحت الظروف بذلك- وطرحت عليه ذلك التصور الشائع عند جيل الستينات من أنه يمثل مع توفيق الحكيم ومحمد تيمور ظاهرة إحترف فيها أبناء الطبقات القادرة (والبعيدة عن الإحساس بالشعب) الإبداع الأدبي والفني ،وسألته إن كان لديه أقوال في ذلك المحضر الهام فقال: «من حيث النشأة أنا إبن أسرة متوسطة الحال، ولكن- حتي- إذا قبلت منطق إدانة إحتراف (الميسورين) للأدب، فهل أنا منعت الأدباء (المعدمين) من الإبداع؟.. إذا كان لديك قدرة علي الإبداع فلن يستطيع أحد أن يؤثر عليك، أنت مسئول عن إضاعة إبداعك..فلا تتحجج بالغير أبداً ..أبداً».

وأضاف : « أمًا عن التصور العجيب الذي يري الأدباء الفقراء هم ألصق بالشعب وأكثر واقعية ،فأنا أقول لك (المية تكدب الغطاس)..أحمد باشا تيمور كانت لديه عزبة يذهب اليها،ومعه إبنيه محمد ومحمود تيمور، وهناك خالطوا الفلاحين، وعرفوا كل شيء عنهم، وكانوايقطنون (درب سعادة) ولم يعيشوا في الزمالك أو الدقي أو المعادي، فكيف ينفون عن محمد تيمور أو محمود تيمور ذلك الإحساس بطبقات الشعب، بل أن ظهور محمد تيمور ومحبتنا له كانت لأنه تكلم عن أبناء الشعب في كل إنتاجه، أمًا توفيق الحكيم فقد كانت له عزبة في محافظة البحيرة، وتعوًد أن يقضي فيها أياماً عديدة، وأعماله تكاد أن تكون لوحات لعقلية ونفسية الفلاح المصري».

...........................................

ولم تخل حواراتي مع د. عصمت عبد المجيد من أحاديث مغرقة حول الفن والرياضة .. كان أحياناً يلتزم ديبلوماسيته وحياديته التي تفرض عليه عدم التورط في آراء قاطعة ، وفي أحيان أخري تأتي إجاباته أحكاماً باتة ونهائية ليس فيها نقض أو إبرام .

وقلت له- في إحدي المرات- : « في تعليمك ومعارفك كنت مزيجاً من الثقافة العربية ، والثقافة الغربية ، بالضبط مثل موسيقي محمد عبد الوهاب .. فهل تري أن تكرار نموذجه في تضفير الثقافات هو مجهود له مستقبل».

وأجاب د. عصمت عبد المجيد : « عبد الوهاب .. فريد في بابه، لأن تأثره بالموسيقي الغربية جاء في إطار إكسابها طابع شرقي، وتلك مسألة صعبة جداً ، تحتاج الي موهبة حادة ، وإحساس مرهف .. لقد إقتبس عبد الوهاب من أوبرا عايدة، وظهر ذلك الإقتباس في أغنية (كان عهدي عهدك في الهوي )، ولكن من الذي يستطيع القول بأن تلك الأغنية لم تك شرقية، تخاطب الإحساس والمشاعر الشرقية .. أنا أوافق علي إقتباسات عبد الوهاب الذي قرأت لك حواراً معه يقول فيه أن الإقتباس ليس جريمة .. وأري أن الإقتباس في الفكر الإنساني ليس جريمة ، فلا حدود علي العلم أو الثقافة والحضارة ، ولايجب النظر الي الإبداع الفكري الإنساني علي نحو عنصري نسبغ عليه جنسية من يبدعه».

ولمَا كان (الفن يسوس الناس ويحكم ) كما جاء في جمهورية أفلاطون فقد كان طبيعياً أن أسترسل في أسلتي الفنية مع د. عصمت عبد المجيد ، ومن ثم تطرقنا الي الموسيقي الكلاسيك التي يعشقها وقال لي: « أحب موزارت وبيتهوفن ، وأتردد علي دور الأوبرا في مصر والعالم لمشاعدة العروض الأوبرالية ، وأذكر أن أول إتصال لي بهذا اللون من الفنون كان في فرنسا ، وقد شهدت أوبرا عايدة- للمرة الأولي- في باريس «..ولمَا قلت له أن موزار وبيتهوفن يمثلان نموذجين شعوريين مختلفين .. موزار برقته وشقاوته، وبيتهوفن بعنفه وتوريثه فهل إعجابك بالأثنين كان- هو الآخر- لوناً من ( حشد إجماع الرأي )؟.

وقال لي عصمت عبد المجيد : « طبيعة المشاعر الإنسانية تتأرجح بين الرقة والعنف وأنا كذلك «!

وفي موضع آخر حدثني عن ولعه بالرياضة ، وبالذات لعبة التنس قال : « إن جزءاً من أقاربي في الأسكندرية كان يشاركني اللعب ، وبعض زملائي في كلية الحقوق ومنهم المطرب جلال حرب الذي كان زميلي المزمن في اللعب .. أمَا عن بقية الألعاب فأشجع فيها اللعبة الحلوة ، وأشجع- بحماس- المنتخب المصري في المباريات الدولية «

......................................
عصمت عبد المجيد كان بالفعل نموذج للرجل ( المريح) الذي يسلمك هدؤه الي حال سكينة حقيقي حين تتحدث إليه أو تستنطقه في خبر أو معلومة، أو حتي حين تختلف معه ..وقد رأيته إحدي علامات جيل صنعته أحداث كبري صاغت حياة بلدنا والعالم ، وسمحت بحوار الحضارة علي الجسر الذي ربط الأسكندرية و باريس .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.