لا يستطيع أحد منا أن يحكم على ما يمكن أن ينتهي إليه مسلسل «صديق العمر» الذي يبدو أقرب شىء إلى التعامل العادل مع القائد العسكري والسياسي الكبير المشير عبد الحكيم عامر بعد سنوات طويلة من وفاته الغامضة. كلما استرجعت الجانب الإنساني المعلن من سيرة عبد الحكيم عامر، ألحت علي ذاكرتي صور محددة: أولى هذه الصور صورة الدكتور عزيز، أستاذ مادة الدراما في آداب القاهرة، الذي كان يستقبل زميلتنا كريمة المشير مرحبا مهللا، ليراجع معها إجاباتها في المواد المختلفة، كلما خرجت من خيمة الامتحانات التي كانت تنصب لنا في قسم الجغرافيا. وقامت الحرب، وعطلت الامتحانات، ثم عدنا لاستكمالها، بعد أن تأكدت الهزيمة، وبعد أن أصبح المشير محملا بكل أوزارها. وقابل الدكتور كريمة القائد الذي انتهت أيام مجده فأدار وجهه بعيدا عنها. ومضت السيدة المحترمة التي كانت زميلة متحفظة ووقورة، مضت بكل كبريائها النبيل وكأنها لم تلحظ ندالة الأستاذ. الصورة الثانية هي صورة عبد الحكيم عامر، على غلاف مجلة آخر ساعة، عندما سافر إلى باريس، وكان مكتوبا تحت الصورة: رجل المهام الدقيقة. وفي قراءتي لمذكرات قرينته الثانية السيدة برلنتي عبد الحميد لاحظت اطلاعه على الثقافة الفرنسية، والبعد الفرنسي والإيطالي في حياة السيدة برلنتي. وفي إشارة سريعة إلى ثقافة هذا الرجل قالت إحدى شخصيات مسلسل «صديق العمر» إن المحيطين بالمشير عامر يشيرون إليه بلقب جان جاك روسو. وهذا يجعلني أستعيد تأثر الزعيم عبد الناصر وزميله العظيم بتراث الثورة الفرنسية، رغم ارتباط ثورة يوليو بالعصر الأمريكي، باعتباره عصر تفكيك الكولونيالية (الاستعمار التقليدي) منذ بدايته في 1918، أيام الربيع العربي الأول الذي أسس ، بضغوط أمريكية على بريطانياوفرنسا خصوصا، دولتين هاشميتين في العراق والأردن، ودولة وهابية كبرى تحيط بها إمارات وهابية صغيرة في الجزيرة العربية، بعد أن أجبر الأمريكيون بريطانيا في 1917 على توقيع شهادة ميلاد أول دولة يهودية في التاريخ ، علما بأن ممالك اليهود في التوراة أساطير لم تثبت الأركيولوجيا شيئا من الإدعاءات المتصلة بها. لا أظن أن الضباط انتبهوا إلى أن أمريكا هي مؤسسة الدول الدينية في المنطقة، بزعم إنهاء الاستعمار، ولا أدعي أني أكثر ثقافة من جمال عبد الناصر أو عبدالحكيم عامر أو ثروت عكاشة أو أحمد حمروش، حاشا لله. صحيح أني عشت كمواطن بلا مسؤوليات عامة أكثر مما عاشوا ولدي وقت للقراءة والبحث لم يكن لديهم وقضيت سنوات طويلة في أوروبا بين المثقفين والإعلاميين من مختلف الثقافات، لكني لم أفهم ما جرى للعرب بعد الحرب العالمية الأولى إلا في 2011 حين بدأ الربيع العربي الإخواني ففهمت أنه الحلقة الثانية من مسلسل تديين السياسة في الشرق الأوسط وتخليق حرب صليبية جديدة بأمل خلق نهضة غربية مسيحية جديدة مثل تلك النهضة التي تولدت من رحم الحرب الصليبية في نهايات القرون الوسطى. والمعركة الدائرة حول فلسطين الآن هي (كما قال العقاد وأنور السادات) قلب الحرب الجديدة التي تتمسح بالصليب، كما كانت المعركة الدائرة حول فلسطين هي قلب الحرب الصليبية القديمة، وفرنسا المعاصرة من الدول القليلة التي تدرك ذلك وتدرك أن الدول البروتستانتية (خاصة أمريكا وخادميها البريطاني والهولندي) هي المستفيدة منها. إلى أي مدى وصل عبد الحكيم عامر في فهمه للديمقراطية العلمانية الفرنسية وتناقضاتها مع الديمقراطية العلمانية البروتستنانتية (الأمريكية/البريطانية/الألمانية /الهولندية)؟ لا أعرف. لكني أعرف أن القادة المصريين عمليون إلى أقصى حد. وأن فهم عامر وزكريا محيي الدين (ويبدو أنهما كانا قطبي الصراع تحت ظل عبد الناصر الكبير الكبير) لحقائق العصر كان يقوم على حسابات دقيقة للموقف الدولي من أجل تحقيق مصالح الوطن. وقد كانوا جميعا وطنيين. وأخجل من نفسي وأنا أقول ذلك، وكأني أمنح آباء الوطنية المصرية شهادة بالوطنية! حاشا لله. من أنا؟ لكن تطاول الرعاع على الآباء المؤسسين هو ما يدفعني لهذا. وقد فهمت العمق الفرنسي في توجهات عبد الحكيم عامر بعد وفاة «عامر» بسنين، يوم 15 مايو 1971 عندما رتبت لدخول ضابطين من المخابرات الحربية إلى ميس الطيارين السوفيت في بني سويف لمتابعة ورصد رد فعل القادة والضباط السوفيت على إعلان الرئيس أنور السادات ، على شاشة التلفزيون المعلق في صالة الكافيتريا بالميس، عزل واعتقال خصوم الرئيس الميالين لموسكو بقيادة علي صبري. كانت النتيجة المباشرة لذلك خلو القيادة من كل معارض للنفوذ الأمريكي. لكن بعد انتهاء الرئيس السادات من خطابه الذي أعلن فيه نهاية الصداقة مع موسكو وجدت أحد الضابطين يقول وعيناه تومضان بالأمل: سوف نستغني عن الطائرات الروسية المتخلفة وسوف تكون عندنا طائرات الميراج. هذا الضابط وجيله من العسكريين هم أبناء عبد الحكيم عامر وتربية يديه، وكانوا يتطلعون للسلاح الفرنسي وليس للسلاح الأمريكي لأنهم يعلمون مدى ارتباط أمريكا بالصهيونية. أعلم أنه لا توجد دولة على وجه الأرض خارج دائرة التأثير الصهيوني. لكن من يريد أن يعرف درجة استقلال الوطنية الفرنسية عن الأوهام البروتستانتية المنصاعة لإسرائيل والصهيونية عليه قراءة الكتاب الموالي للصهيونية الذي كتبه دافيد برايس جونز بعنوان «الخيانة : فرنسا والعرب واليهود».Betrayal :France ,the Arabs and the Jews,by David Pryce-Jones لن يخوض المسلسل الذي كتبه الراحل ممدوح الليثي، العليم بكواليس الدولة في الفترة من 1967 وحتى رحيله أوائل هذا العام، لن يخوض المسلسل ، على الأرجح، في مسألة العرب وفرنسا والصهيونية، وهي مسألة لا أجد بين المثقفين العرب من يوفيها حقها، لكنه قطعا سيتحدث عن هزيمة يونية وعن مدى مسئولية المشير عنها. وهذا ما سوف أعود إليه في الأسبوع القادم.