لا شك أن أي تغيير أو تجديد في تناول قضايا الخطاب الديني عبر تاريخ البشرية لا يمكن أن يكون موضع إجماع أو اتفاق قبل الاختبار لمدد أو فترات زمنية تطول وتقصر وفق قناعات المجددين وصمودهم واجتهادهم وقدرتهم علي الإقناع برؤاهم الفكرية الجديدة, وأن التقليديين والمحافظين والمستفيدين من الأوضاع المستقرة لا يمكن أن يسلموا بالسرعة والسهولة التي يطمح إليها المجددون, وبمقدار عقلانية المجددين وعدم شطط المحسوبين عليهم في الذهاب إلي أقصي الطرف الآخر يكون استعداد المجتمع لتقبل أفكارهم, بقطعهم الطريق علي أصحاب الفكر الجامد والمتحجر من طعنهم في مقتل, غير أن الوسطية التي نبحث عنها جميعا ويدعيها كل فريق لنفسه صارت حائرة غاية الحيرة بين طرفي النقيض. ويأتي تناولنا لهذا الموضوع من ثلاثة جوانب عامة هي: مفهوم المقدس, وخطورة الخروج عن الموضوعي إلي الشخصي, وحرية المعتقد وحدود حرية الرأي. أما الجانب الأول, وهو مفهوم المقدس والنظرة إليه مابين مقدس للقديم علي إطلاقه لمجرد قدمه, بحيث يكاد ينزل أقوال بعض الفقهاء منزلة النص المقدس حتي تلك الأقوال التي ناسبت زمانها ومكانها وعصرها وأصبح واقعنا يتطلب اجتهادا جديدا يناسب عصرنا ومعطياته ومتطلباته, حتي رأينا من يكاد يقدس أقوال بعض المفسرين والمؤرخين وما ورد بكتب الأنساب, وكتب السير والملاحم, علي علات بعضها. وفي أقصي الطرف الآخر نجد من يتطاول تطاولا سافرا علي أمور هي من الثوابت أو في منزلتها علي الأقل, متخذا من شعار التجديد الذي يصل عند البعض إلي درجة الهدم مجالا للاعتداء علي الثوابت, قد يكون عن ضيق أفق أحيانا أو عن نفعية وسوء قصد لا نثبته ولا ننفيه; لأن القلوب بيد الله( عز وجل), والنيات عنده مرجعها ومقصدها. ومع تأكيدنا الشديد الملح والمتكرر أننا في حاجة إلي التجديد وإعمال العقل وأننا ضد الجمود الفكري والتحجر عند القديم والتمترس عنده وغلق باب الاجتهاد وضيق الأفق أو انغلاقه أو انسداده, وضد تكفير المثقفين أو اتهامهم في وطنيتهم إلا بحكم قضائي نهائي وبات, فإنني أذكر أن جميع أصحاب المعتقدات لا يقبلون النيل من ثوابتهم ولا الاعتداء عليها حتي ولو كانت بينة البطلان بالعقل والنقل عند غيرهم. ومن أكبر أخطاء وخطايا تناول الخطاب الديني الخروج من الموضوعي إلي الشخصي والإسفاف إلي درجة ما يشبه السباب والسباب المتبادل إن لم يكن سبا وقذفا صراحا, سواء فيما بين المتحاورين أم المتناظرين بالتطاول علي العلماء والمفكرين, فعندما يتحدث أي مفكر في قضية موضوعية مراعيا أدب الحديث وأدب الحوار وأسس النقد العلمي الموضوعي وأصوله فهذا تعبير عن الرأي يقابل و يناقش بالحجة والرأي والعقل والمنطق, أما عندما يخرج هذا المفكر أو الباحث أو الناقد عن التناول الموضوعي إلي التطاول علي الأشخاص سواء أكانوا من المعاصرين أم من أصحاب الرأي والفكر والأثر في تراثنا الديني أو العلمي أو الثقافي فإن ذلك يعد أمرا غير مقبول, وقد لا يمكن الصبر أو السكوت عليه, وقد سيكون مسار استفزاز لمن هم علي قناعة واعتداد بفكر هؤلاء الرجال, وقد ينبري لهم بعض من يرون أن الدفاع عن هؤلاء العظماء واجب شرعي أو عقلي أو إنساني, وتحدث معركة كلامية أو جدلية جديدة أو قديمة متجددة ربما تشغل الساحة عن رؤي أهم وقضايا أولي بالتناول في تلك المرحلة الفارقة من تاريخنا الوطني. أما الجانب الثالث فهو ما يتصل بالفهم الصحيح والفهم الخاطئ لحرية الرأي, فإننا نفرق بين حرية المعتقد وحرية الرأي, كما نفرق بين الحرية المنضبطة بضوابط الشرع أو العقل أو القانون وبين الفوضي التي لا حدود لها, فمع أن ديننا الحنيف لم يحمل الناس حملا أو إكراها علي الدخول فيه, حيث يقول الحق سبحانه وتعالي: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي, ويقول عز وجل: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين, ويقول سبحانه: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين, ويقول سبحانه: إن عليك إلا البلاغ, ويقول سبحانه: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين وإن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين, فقد أصل الإسلام لحرية المعتقد تأصيلا واضحا يؤكد سماحته وسعة أفقه, لكن هذا شيء, ومفهوم حرية الرأي الذي لا ينبغي أن يصبح انفلاتا أو تطاولا علي الثوابت أو المقدسات أو الأشخاص باسم حرية الرأي شيء آخر, علي أننا في حاجة ملحة إلي العمل لا الجدل, وأن نجتمع علي المتفق عليه, ويعذر بعضنا بعضا فيما يقبل الرأي والرأي الآخر من المختلف فيه, وألا ننجر إلي لغة السب والقذف, أو السباب المتبادل وما يشبهه حفاظا علي الذوق المجتمعي العام, الذي لا يقبل عقلاؤه الإسفاف الذي يعد غريبا علي ذوقنا وقيمنا وحضارتنا العربية والإسلامية الأصيلة الراقية. لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة