أثارت الصياغة الجديدة لاستراتيجية الأمن القومى الأمريكى حفيظة الكرملين، بما تضمنته من إشارة صريحة إلى اعتبار روسيا "خطرا على الدول المجاورة"، وتهديدا لتوجهاتها الديمقراطية، حسبما جاء فى الوثيقة الأمريكية. وكانت الاستراتيجية الأمريكية ربطت بين احتمالات استئناف التعاون الروسى الأمريكى وضرورة تغيير روسيا لسياساتها الخارجية، والالتزام باحترام سيادة الدول المجاورة وما يجرى فيها من "عمليات ديمقراطية"، فى الوقت نفسه الذى أكدت فيه الوثيقة "ضرورة استمرار التنسيق المتبادل بين الولاياتالمتحدة وشركائها الأوروبيين من أجل عزل روسيا سياسيا واقتصاديا عقابا لها على التدخل فى شئون أوكرانيا" .وقد جاء الإعلان عن هذه الوثيقة بعد تصاعد موجة العداء ضد روسيا، التى اعتبرها الرئيس الأمريكى واحدا من أهم الأخطار التى تهدد العالم، ووضعها إلى جوار "إيبولا" وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وبعد الكشف عن خطة الإدارة الأمريكية للإطاحة بنظام الرئيس فلاديمير بوتين. وعلى الرغم من إعلان واشنطن عن الصياغة الجديدة لاستراتيجية الأمن القومى الأمريكى وإقرارها فى فبراير من العام الحالى، فإن موسكو لم تعلن عن موقفها منها سوى الأسبوع الماضى، على ضوء ما توصلت إليه من نتائج، قالت إنها تشير إلى توجه معاد واضح من جانب الولاياتالمتحدة تجاه الدولة الروسية. وفى لقائه مع كبار قيادات جهاز الأمن والمخابرات ومسئولى النيابة العامة كشف الرئيس فلاديمير بوتين عن موقف بلاده من الاستراتيجية الجديدة للأمن القومى الأمريكى بقوله:" إن احدا لا يستطيع ترهيب بلاده ، وإن كل من يفكر فى التطاول على الأمن القومى لروسيا سيواجه بالرد المناسب". وفيما أشار إلى أن العام الماضى شهد اندلاع الكثير من بؤر التوتر فى أرجاء متفرقة من العالم، بما فى ذلك الشرق الأوسط ، قال بوتين إن الانقلاب الذى حدث فى أوكرانيا أسفر عن اندلاع الحرب الأهلية هناك، وهو ما تبذل روسيا الكثير من الجهد لاحتواء تداعياته وآثاره، وما يستفز الآخرين ممن تسميهم روسيا بالشركاء. وعاد بوتين ليكشف عما يضمره هؤلاء من مخططات سياسية واقتصادية، بل واستخباراتية تستهدف النيل من أمن الدولة الروسية، مؤكدا أن مثل هذه الأحابيل لم تجد نفعا مع روسيا ولن تكون. واستعرض الرئيس الروسى بعضا مما يفعله حلف الناتو من نشر لقوات الانتشار السريع، وتعزيز قواعده ونقاط تمركزه قريبا من الحدود الروسية، إلى جانب محاولات كسر التوازن القائم للقوى النووية، ونشر عناصر الدرع الصاروخية فى أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادى. وفيما أشار إلى خروج الولاياتالمتحدة من معاهدة الأنظمة المضادة للصواريخ من جانب واحد، الأمر الذى قوض أسس منظومة الأمن الدولى المعاصرة، كشف بوتين عن أنها فى سبيل إنشاء منظومات قتالية حديثة لتوجيه الضربات الشمولية الخاطفة وشن العمليات القتالية فى الفضاء الكونى، وهو ما عاد ليؤكد ثانية أنه لا بد أن يكون من الواضح أن احدا لا ولن يستطيع تخويف روسيا أو الضغط عليها، وأن بلاده كانت ولا تزال تملك ما ترد به على أى أخطار تهدد أمنها القومى. وفى إشارة إلى إحباط أجهزة الأمن والمخابرات الروسية للكثير من مخططات الخصوم الغربيين، التى استهدفت تقويض أمن واستقرار الدولة، أشاد بوتين بما استطاعت هذه الأجهزة إنجازه خلال العام الماضى بقوله إن عدد الجرائم التى ارتكبت آنذاك يقل بمقدار مرتين ونصف المرة عن عام 2013. وحذر من مغبة تزايد أخطار الإرهاب، الأمر الذى يستوجب المزيد من الجهد لمواجهة هذه الأخطار، خاصة على ضوء ما توارد من أنباء تقول بانخراط الكثيرين من مواطنى روسيا وبلدان الفضاء السوفيتى السابق بين صفوف تنظيم " الدولة الإسلامية" (داعش) وفى سوريا وغيرها من البلدان ممن يتلقون تدريباتهم فى العديد من النقاط الساخنة، ومن المتوقع أن يعودوا لاستخدام هذه الخبرات ضد روسيا وجيرانها. وأشار إلى ضرورة توخى الحذر والعمل من أجل إغلاق كل منافذ دخولهم وخروجهم من روسيا، ومتابعة قنوات اتصالاتهم وتحركاتهم فى مختلف المناطق الروسية، بما فيها القرم وسيفاستوبول، خاصة قبيل احتفالات الذكرى السبعين للنصر على الفاشية وانعقاد قمتى منظومتى "بريكس"، و"مجموعة بلدان شنغهاى" فى أوفا عاصمة بشكيريا. ومن اللافت أن بوتين لم يقتصر فى حديثه على العموميات ورءوس الموضوعات، بل توقف عند تفاصيل خطة العمل فى أوساط الشباب ومجموعات المهاجرين، والاهتمام بمسائل التوعية للحيلولة دون انتشار الأفكار الأصولية والتطرف من خلال المنظمات الاجتماعية والدينية، والبدء فورا وبحزم من أجل مواجهة أى محاولات لإثارة الشغب فى روسيا. وفيما أشار إلى ما تحقق من إنجازات على صعيد المخابرات والأمن، توقف الرئيس الروسى عند ارتفاع نسبة الجريمة على صعيد التطرف والإرهاب، وهو ما قال إنه يتطلب المزيد من التنسيق بين أجهزة المخابرات والمؤسسات الأمنية ووزارة الداخلية، بما فى ذلك ما يتعلق بمواقع التواصل الاجتماعى وشبكات الإنترنت. وحول هذه القضية تحديدا تركز اهتمام الرئيس بوتين فى إطار ضرورة تأمين المواقع الإلكترونية للمؤسسات الرسمية والحكومية، التى قال إنها تعرضت لما يقرب من 74 محاولة اختراق فى العام الماضى وحده، فضلا عن اكتشاف ما يزيد على 25 ألف موقع إلكترونى يروج لمعلومات يمكن أن تخضع لطائلة القانون الروسى، وإن حرص على تأكيد ضرورة عدم التطاول على الحريات والحقوق التى ينص عليها الدستور. وفيما كشف عن نجاح مؤسسات المخابرات فى الحد من نشاط 52 من ممثلى المخابرات الأجنبية و290 ممن نجحوا فى تجنيدهم للعمل لصالح هذه المؤسسات، قال بوتين لا بد من الاهتمام أكثر بتأمين وحماية المعلومات، ولا سيما ما يتعلق منها بقضايا الأمن القومى بما فى ذلك القضايا الخاصة بتطوير المؤسسة العسكرية الصناعية والتكنولوجيا الدفاعية وخطط التعبئة والتنمية البشرية. وكشف عن الكثير من محاولات دوائر المخابرات الغربية للتغلغل بين صفوف المنظمات الاجتماعية وغير الحكومية والتحالفات السياسية، ولا سيما التى تركز نشاطها على تشويه صورة السلطة وزعزعة استقرار الأوضاع الداخلية فى روسيا . وأماط الرئيس الروسى اللثام عن عدد من المخططات التى كان من المقرر أن تقوم بها هذه التنظيمات خلال الحملات الانتخابية المرتقبة، البرلمانية فى عام 2016، والرئاسية فى عام 2018. وفيما لم يستبعد الرئيس الروسى استعداد السلطة للحوار مع المعارضة وقبول ما قد يكون فيما يطرحونه مفيدا، قال "باستحالة التعاون والنقاش مع من يأتمر بأوامر وتعليمات الخارج، لصالح دول أجنبية". وأضاف أن ذلك هو ما يحتم على الدولة الاستمرار فى متابعة المصادر الأجنبية لتمويل منظمات المجتمع المدنى، ومراجعة الأهداف التى تنص عليها لوائحها، والحيلولة دون تنفيذ ما يمس منها مصالح الوطن. ولم يغفل بوتين بطبيعة الحال المسائل التى تتعلق بالأمن الاقتصادى ومكافحة الفساد، وهى المشكلات التى سبق واعترف أكثر من مرة بأنها "تستعصى على الحل". لكنه بدا هذه المرة أكثر إصرارا عن ذى قبل على العمل من أجل وأد كل ما من شأنه التطاول على ميزانيات وخطط تمويل مؤسسات الدفاع والصناعات العسكرية، مع التركيز على الدور المنوط بمؤسسات الإشراف والرقابة الإدارية. ومن اللافت أن الرئيس بوتين أعار اهتماما كبيرا بنشاط الشركات والمؤسسات الروسية العاملة فى الخارج، وطالب بالعمل من أجل تأمين مواقع هذه المؤسسات بما يكفل نجاحها فى منافساتها مع مثيلاتها الأجنبية، والدفاع عن ممثليها ممن يتعرضون لمحاولات تشويه مواقعهم وسياساتهم، فى إشارة واضحة لما تعرض إليه بعض رجال الأعمال الروس ممن وقعوا فريسة لبعض أجهزة الاستخبارات الأجنبية التى وجهت إليهم الاتهامات بالتجسس والتخابر لصالح الأجهزة الروسية. ومن اللافت أن الرئيس الروسى مضى إلى ما هو أبعد، حين أشار إلى استمرار محاولات الولاياتالمتحدة الرامية إلى توطيد علاقاتها مع شركائها التقليديين فى منطقة آسيا والمحيط الهادى المتاخمة للحدود الشرقية للدولة الروسية، ومنها اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين، إلى جانب مساعيها نحو تطوير التعاون مع فيتنام والهند وإندونيسيا وماليزيا، وهى البلدان التى طالما ارتبطت بروسيا بعلاقات شراكة تاريخية. وكشف بوتين عن إعلان الولاياتالمتحدة عن بدء مرحلة التنافس مع الصين ، وهو ما يفرض على روسيا الكثير من المهام الاستراتيجية الجديدة على ضوء عدم تراجع واشنطن عن نهج الهيمنة والانفراد بمقاليد عالم القطب الواحد، وإعلاء المصالح الأمريكية على كل ما عداها، خصما من رصيد ومصالح الدولة الروسية.