فى خطابه السنوى الى الامة، اكد الرئيس فلاديمير بوتين اصرار بلاده على الصمود ومواجهة شتى التحديات، معلنا تمسك روسيا بشبه جزيرة القرم. واذ اكد اعتبارها تحمل ذات الاهمية التى تعنيها "حرمات القدس" فى الشرق الاوسط، انتقل بوتين الى عرض ما يطرحه من تسهيلات واعفاءات ضريبية وتشريعية تستهدف اعادة رؤوس الاموال الهاربة، وبما يكفل تحسين الاوضاع الاقتصادية فى وجه العقوبات المفروضة ضد بلاده، والتى تستهدف ضمنا الاطاحة به بعيدا عن عرش الكرملين. فى هذا الخطاب استعرض بوتين عددا من القضايا المحلية والاقليمية وفى مقدمتها الازمة الاوكرانية وانضمام شبه جزيرة القرم الى روسيا. توقف طويلا عند تاكيد اهمية القرم بالنسبة للامة الروسية "تاريخا وجغرافيا". اشار الى "قدسيتها" التى قال انها ترقى حد "قدسية الاقصى وجبل الهيكل" فى الشرق الاوسط. اعاد الرئيس الروسى الى الاذهان اسباب تفاقم الازمة الاوكرانية وما نجم عن ذلك من تبعات ومآس، وقال انها لم تكن سوى ذريعة للولايات المتحدة لوقف تقدم الدولة الروسية وتقويض امنها واستقرارها. اتهم بوتين البلدان الغربية بالرضوخ لضغوط واشنطن، وقال انها نسيت معانى الكرامة والسيادة واستقلالية القرار. وفيما استعرض ما قدمته روسيا لدعم الاقتصاد الاوكرانى بما فى ذلك القروض والمساعدات التى بلغت 32,5 - 33,5 مليار دولار، انحى الرئيس الروسى باللائمة على الادارة الامريكية تجاه تفاقم الاوضاع فى اوكرانيا، منذ انقلاب فبراير الماضى الذى اطاح بالرئيس السابق يانوكوفيتش، مشيرا الى ما ترتكبه القوات الاوكرانية من جرائم فى جنوب شرق اوكرانيا. على ان ذلك لم يمنع بوتين من تاكيد استعداد بلاده للعودة الى التعاون مع الجميع بما فى ذلك الولاياتالمتحدة والدول الغربية، وان اكد اولوية علاقات بلاده مع بلدان الاتحاد الاورواسيوى وبلدان امريكا اللاتينية واسيا وافريقيا ومنطقة الشرق الاوسط. وقال ان العقوبات التى فرضتها البلدان الغربية كانت حافزا جيدا للاهتمام بقدرات روسيا الذاتية والعمل من اجل استنهاض القوى الوطنية وكشف عن الكثير من الخطوات التى يستهدف بها استقطاب الاستثمارات المحلية والخارجية ومنها ما اعلنه حول الاعفاءات والتسهيلات الضريبية وعدم تغيير التشريعات الضريبية خلال الاعوام الاربعة المقبلة، الى جانب توفير الضمانات القانونية حول عدم ملاحقة المتهمين بتهريب الاموال، شريطة سرعة اعادتهم لهذه الاموال واستثمارها فى الداخل، الى جانب التخفيف من سطوة الاجهزة الرقابية وتاكيد ان المؤسسات التى اثبتت التزامها بالقوانين لمدة ثلاث سنوات متتالية سوف تُعفى من التعرض لحملات التفتيش والرقابة لمدة ثلاث سنوات مماثلة. ووعد الرئيس الروسى باتخاذ الاجراءات المناسبة لوقف انهيار العملة الوطنية - الروبل، مشيرا الى ان الاجهزة المعنية ليست بغافلة عما يفعله المضاربون الذين توعدهم بالعقاب مشيرا الى انه طلب من البنك المركزى والحكومة التنسيق فيما بينهما واتخاذ الإجراءات الصارمة اللازمة للتعامل مع هؤلاء المضاربين، والحد من تجاوزاتهم فى سوق الصرف الأجنبي، وهو ما قال لاحقا بضرورة حسمه فى غضون ثلاثة اسابيع. وتوقف الرئيس بوتين عند ما تحقق من انجازات ومكاسب على صعيد زيادة عدد السكان، وهى المهمة التى سبق واعلنها فى غضون سنوات ولايتيه الاولى والثانية. وكشف عما اعلنته الاممالمتحدة من توقعات كانت تقول بتناقص عدد سكان روسيا مع نهاية عام 2013 حتى 136 مليون نسمة، ليعلن ان ما جرى اتخاذه من اجراءات كان وراء زيادة تعداد السكان فى روسيا والذى يبلغ اليوم 144 مليون نسمة، اى بما يفوق ما كانت تتوقعه المنظمة الدولية بثمانية ملايين نسمة. وقال ان متوسط العمر فى روسيا يبلغ اليوم 71 سنة، معربا عن امله فى ان يرتفع هذا الرقم خلال السنوات القليلة المقبلة حتى 74 عاما. ومن اللافت ان الرئيس بوتين استهل خطابه بتقديم الشكر الى مواطنيه لقاء ما قدموه من دعم وتاييد لسياساته فى مواجهة الضغوط الغربية، فيما اعرب عن عالى تقديره لصمود الامة الروسية التى وصفها ب"الناضجة"، امام التحديات الدولية والاقليمية، مؤكدا قدرتها على تحمل الصعاب على مدى التاريخ وان احدا لن يستطيع التعامل معها من مركز القوة. ولم تكن مثل هذه اللفتة التى تحمل الكثير من الدلالات، سوى محاولة للرد على ما كشفت عنه استطلاعات الراى الاخيرة حول عدم اهتزاز شعبية بوتين بل وتجاوزها لنسبة 80%، رغم كل المتاعب التى نجمت عن فرض العقوبات الغربية وانهيار العملة الوطنية. ويذكر المراقبون ان العواصمالغربية اعربت عن دهشتها ازاء ارتفاع شعبية بوتين وعدم اهتزاز مواقعه تحت وطأة العقوبات والضربات التى تواصل كيلها له، ولاعضاء فريقه علًهم "ينقلبون" عليه ويطيحون به بموجب خطة الادارة الامريكية التى كشف عنها ميخائيل فرادكوف رئيس المخابرات الخارجية الروسية، فى حديثه الى وكالة "بلومبرج" الالمانية. وكان فرادكوف اشار الى "أن تخفيض اسعار النفط وانهيار العملة الروسية يستهدفان بالدرجة الاولى الاطاحة بالرئيس بوتين، وهو ما قال ان الشعب الروسى لن يقبل به، وما أكدته نتائج استطلاعات الراى التى تقول ببقاء شعبيته عند مستوى عام 2007"، على النحو الذى يبدو على طرفى نقيض من المنطق. وكشف عن "ان الولاياتالمتحدة وحلفاءها تسعى من اجل الاطاحة بالنظام القائم فى روسيا عن طريق فرض العقوبات وتسديد الضربات ضد العملة الوطنية - الروبل، والتلاعب فى اسعار النفط". وقال المسئول الروسى الذى سبق وشغل موقع رئيس الحكومة الروسية فى نهاية الولاية الاولى للرئيس بوتين ان الكرملين لم يكن ليغفل عما تحيكه الادارة الامريكية من دسائس للاطاحة بالرئيس بوتين وتنفيذ مخططها السابق الذى كانت تضمره فى مطلع التسعينيات سعيا وراء تقويض اركان الدولة الروسية مثلما حدث مع الاتحاد السوفييتى ومع يوغوسلافيا لاحقا. وقال "ان هناك من لا يريد ان يرى روسيا دولة قوية مستقلة". ويذكر المراقبون ما كان الرئيس الامريكى الاسبق رونالد ريجان طرحه من خطط مماثلة لزعزعة استقرار الاتحاد السوفييتى فى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين اتفق مع ابرز البلدان المصدرة للنفط حول تخفيض اسعار النفط من اجل ضرب اقتصاد الاتحاد السوفييتى ،والحيلولة دون تطوير مؤسسته الصناعية العسكرية. وذلك ما اشار اليه ضمنا فرادكوف رئيس المخابرات الخارجية الروسية فى معرض تاكيده لتدارك الكرملين مغبة مثل هذه السياسات، حين قال ان "العقوبات" التى فرضتها واشنطن وبلدان الاتحاد الاوروبى "تدفع موسكو الى ان تعير اهتمامها الرئيسى لحل القضايا الداخلية"، مؤكدا ان المواجهة بين روسياوالولاياتالمتحدة وبلدان الاتحاد الاوروبى سوف تستمر، ما لم يتوقف الاخرون عن مواصلة الضغط ضدها ، وما لم يراعوا مصالحها الجيوسياسية. وقال ان العودة الى سابق مستوى التعاون مع هذه البلدان سيحتاج الى وقت طويل من اجل تجاوز تبعات المرحلة الراهنة، مشيرا الى ان ذلك سوف يستغرق فترة تتراوح بين عامين واربعة اعوام من اجل استعادة التفاهم المتبادل اللازم لتصفية ما يتناثر على الطريق من حواجز وعراقيل. ولعل ذلك تحديدا ، ما كشف الرئيس بوتين عن تداركه والعمل من اجل مواجهته، من خلال ما قاله حول ما تملكه بلاده من قوى ومقدرات سبق وساهمت فى دعم مواقعها وصمودها امام غزو القوى الفاشية ابان سنوات الحرب العالمية الثانية، وتاكيده على انها كبدت كل من تطاول على سيادتها ووحدة اراضيها افدح الخسائر، وان احدا لن يستطيع ان يفرض ارادته عليها، فى اشارة غير مباشرة الى محاولات الولاياتالمتحدة وحلفائها فى الغرب اثنائها عن الدفاع عن مصالحها وهو ما وصفه بانه "وقاحة سافرة". وفيما انتقد خطط الولاياتالمتحدة لبناء درع دفاع صاروخى فى أوروبا فى محاولة لتحقيق التفوق العسكرى على بلاده، اشار الرئيس بوتين الى أن موسكو لن تسمح بذلك، وان احدا لن يتمكن من ذلك وهى التى تملك اليوم جيشاً عصرياً قوياً يصفونه ب"المهذب" ولكنه رهيب"، وإن اكد ان روسيا لن تنجرف الى سباق للتسلح باهظ التكاليف.